قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ فِي شَعْبَانَ إلَى بَدْرٍ، لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَانَ، حَتَّى نَزَلَهُ.
(اسْتِعْمَالُهُ ابْنِ أُبَيٍّ عَلَى الْمَدِينَةِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ الْأَنْصَارِيَّ.
(رُجُوعُ أَبِي سُفْيَانَ فِي رِجَالِهِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ عَلَيْهِ ثَمَانِي لَيَالٍ يَنْتَظِرُ أَبَا سُفْيَانَ، وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى نَزَلَ مَجِنَّةَ، مِنْ نَاحِيَةِ الظَّهْرَانِ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: قَدْ بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي الرُّجُوعِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنَّهُ لَا يُصْلِحُكُمْ إلَّا عَامٌ خَصِيبٌ تَرْعَوْنَ فِيهِ الشَّجَرَ، وَتَشْرَبُونَ فِيهِ اللَّبَنَ، وَإِنَّ عَامَكُمْ هَذَا عَامُ جَدْبٍ،
[٢] نذرا بِهِ: علما.
١٤- سيرة ابْن هِشَام- ٢
إنَّمَا خَرَجْتُمْ تَشْرَبُونَ السَّوِيقَ.
(الرَّسُولُ وَمَخْشِيٌّ الضَّمْرِيُّ):
وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى بَدْرٍ يَنْتَظِرُ أَبَا سُفْيَانَ لِمِيعَادِهِ، فَأَتَاهُ مَخْشِيُّ بْنُ عَمْرٍو الضَّمْرِيُّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ وَادَعَهُ عَلَى بَنِي ضَمْرَةَ فِي غَزْوَةِ وَدَّانَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَجِئْتَ لِلِقَاءِ قُرَيْشٍ عَلَى هَذَا الْمَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا أَخَا بَنِي ضَمْرَةَ، وَإِنْ شِئْتَ مَعَ ذَلِكَ رَدَدْنَا إلَيْكَ مَا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، ثُمَّ جَالَدْنَاكَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، قَالَ: لَا وَاَللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، مَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْكَ مِنْ حَاجَةٍ.
(مَعْبَدٌ وَشِعْرُهُ فِي نَاقَةٍ لِلرَّسُولِ هَوَتْ):
فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَنْتَظِرُ أَبَا سُفْيَانَ، فَمَرَّ بِهِ مَعْبَدُ بْنُ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيُّ، فَقَالَ، وَقَدْ رَأَى مَكَانَ [١] رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَنَاقَتُهُ تَهْوَى [٢] بِهِ:
قَدْ نَفَرَتْ مِنْ رُفْقَتَيْ مُحَمَّدِ … وَعَجْوَةٍ مِنْ يَثْرِبَ كالعَنْجَدِ [٣]
تَهْوَى عَلَى دِينِ أَبِيهَا الْأَتْلَدِ … قَدْ جَعَلَتْ مَاءَ قُدَيْدٍ مَوْعِدِي [٤]
وَمَاءَ ضَجْنَانَ [٥] لَهَا ضُحَى الْغَدِ
(شِعْرٌ لِابْنِ رَوَاحَةَ أَوْ كَعْبٍ فِي بَدْرٍ):
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي ذَلِكَ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِيهَا أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ:
وَعَدْنَا أَبَا سُفْيَانَ بَدْرًا فَلَمْ نَجِدْ … لِمِيعَادِهِ صِدْقًا وَمَا كَانَ وَافِيَا
فَأُقْسِمُ لَوْ وَافَيْتَنَا فَلَقِيتنَا … لَأُبْتَ ذَمِيمًا وَافْتَقَدْتَ الْمَوَالِيَا [٦]
[٢] تهوى: تسرع.
[٣] العنجد: حب الزَّبِيب، وَيُقَال: هُوَ الزَّبِيب الْأسود.
[٤] الدَّين: الدأب وَالْعَادَة. والأتلد: الأقدم. وقديد: مَوضِع قرب مَكَّة.
[٥] ضجنَان (بِالْفَتْح وبالتحريك): جبل بِنَاحِيَة تهَامَة، وَقيل على بريد من مَكَّة. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[٦] افتقدت: فقدت. والموالي: الْقَرَابَة.
(شِعْرُ حَسَّانٍ فِي بَدْرٍ):
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ:
دَعُوا فَلَجَاتِ الشَّامِ قَدْ حَالَ دُونَهَا … جَلَّادٌ كَأَفْوَاهِ الْمَخَاضِ الْأَوَارِكِ [٥]
بِأَيْدِي رِجَالٍ هَاجَرُوا نَحْوَ رَبِّهِمْ … وَأَنْصَارِهِ حَقًّا وَأَيْدِي الْمَلَائِكِ
إذَا سَلَكْتَ لِلْغَوْرِ مِنْ بَطْنِ عَالِجٍ … فَقُولَا لَهَا لَيْسَ الطّريق لَك [٦]
أَقَمْنَا عَلَى الرَّسِّ النَّزُوعِ ثَمَانِيَا … بِأَرْعَنَ جَرَّارٍ عَرِيضِ الْمَبَارِكِ [٧]
بِكُلِّ كُمَيْتٍ جَوْزُهُ نِصْفُ خَلْقِهِ … وَقُبٍّ طُوَّالٍ مُشْرِفَاتِ الْحَوَارِكِ [٨]
تَرَى الْعَرْفَجَ الْعَامِيَّ تَذْرِي أُصُولَهُ … مَنَاسِمُ أَخْفَافِ الْمَطِيِّ الرَّوَاتِكَ [٩]
فَإِنْ نَلْقَ فِي تَطْوَافِنَا وَالْتِمَاسِنَا … فُرَاتَ بْنَ حَيَّانٍ يَكُنْ رَهْنَ هَالِكِ
وَإِنْ تَلْقَ قَيْسَ بْنَ امْرِئِ الْقَيْسِ بَعْدَهُ … يُزَدْ فِي سَوَادٍ لَوْنُهُ لَوْنُ حَالِكِ [١٠]
[٢] السيّئ (بِالتَّخْفِيفِ): السيّئ (بِالتَّشْدِيدِ) .
[٣] عنفتموني: لمتمونى.
[٤] لم نعدله: لم نر مَعَه غَيره.
[٥] الفلجات: جمع فلج، وَهُوَ المَاء الْجَارِي، سمى فلجا لِأَنَّهُ فدخ فِي الأَرْض، وَفرق بَين جانبيه.
والمخاض: الْحَوَامِل من الْإِبِل. والأوارك: الَّتِي ترعى الْأَرَاك، وَهُوَ شجر.
[٦] الْغَوْر: المنخفض من الأَرْض. وعالج: مَكَان فِيهِ رمل كثير.
[٧] الرس: الْبِئْر. والنزوع: الَّتِي يخرج مَاؤُهَا بِالْأَيْدِي. والأرعن: الْجَيْش الْكثير الّذي لَهُ أَتبَاع وفضول.
[٨] الْكُمَيْت: الْفرس. وَجوزهُ: وَسطه، وَيُرِيد بَطْنه. وَقب: جمع أقب، وَهُوَ الضامر. والحوارك جمع حارك، وَهُوَ أَعلَى الْكَتِفَيْنِ من الْفرس.
[٩] العرفج: نَبَات. والعامي: الّذي أَتَى عَلَيْهِ الْعَام. وتذرى أُصُوله: تعقلها وتطرحها. ومناسم:
جمع منسم، وَهُوَ طرف خف الْبَعِير. والرواتك: المسرعة.
[١٠] الحالك: الشَّديد السوَاد.
(شِعْرُ أَبِي سُفْيَانَ فِي الرَّدِّ عَلَى حَسَّانٍ):
فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ:
أَحَسَّانُ إنَّا يَا بن آكِلَةِ الْفَغَا … وَجَدُّكَ نَغْتَالُ الْخُرُوقَ كَذَلِكِ [٢]
خَرَجْنَا وَمَا تَنْجُو الْيَعَافِيرُ بَيْنَنَا … وَلَوْ وَأَلَتْ مِنَّا بِشَدٍّ مُدَارِكِ [٣]
إذَا مَا انْبَعَثْنَا مِنْ مُنَاخٍ حَسِبْتَهُ … مُدَمَّنَ أَهْلِ الْمَوْسِمِ الْمُتَعَارِكِ [٤]
أَقَمْتَ عَلَى الرَّسِّ النَّزُوعِ تُرِيدُنَا … وَتَتْرُكُنَا فِي النَّخْلِ عِنْدَ الْمَدَارِكِ [٥]
عَلَى الزَّرْعِ تَمْشِي خَيْلُنَا وَرِكَابُنَا … فَمَا وَطِئَتْ أَلْصَقْنَهُ بِالدَّكَادِكِ [٦]
أَقَمْنَا ثَلَاثًا بَيْنَ سَلْعٍ وَفَارِعٍ … بِجُرْدِ الْجِيَادِ وَالْمَطِيِّ الرَّوَاتِكِ [٧]
حَسِبْتُمْ جِلَادَ الْقَوْمِ عِنْدَ قِبَابِهِمْ … كَمَأْخَذِكُمْ بِالْعَيْنِ أَرْطَالَ آنُكِ [٨]
فَلَا تَبْعَثْ [٩] الْخَيْلَ الْجِيَادَ وَقُلْ لَهَا … عَلَى نَحْوِ قَوْلِ الْمُعْصِمِ الْمُتَمَاسِكِ [١٠]
[٢] الفغا: التَّمْر، وَقيل: هُوَ غبرة تعلو التَّمْر قبل أَن يطيب. قَالَ أَبُو ذَر: يُرِيد أَنهم أهل نخيل وتمر. ونغتال: نقطع. والخروق: جمع خرق، وَهُوَ الفلاة الواسعة
[٣] اليعافير: جمع يَعْفُور، وَهُوَ ولد الظبية، يُرِيد أَنهم لكثرتهم لَا تنجو مَعَهم الظباء. ووألت:
اعتصمت ولجأت، يُقَال: وألت إِلَى الْجَبَل، أَي اعتصمت بِهِ، وَمِنْه: الموئل، وَهُوَ الملجأ. والشد:
الجرى. والمدارك: المتتابع.
[٤] المدمن: الْموضع الّذي ينزلون فِيهِ فيتركون بِهِ الدمن، أَي آثَار الدَّوَابّ وَالْإِبِل، وأرواثها وبعارها. وَأهل الْمَوْسِم، أَي جمَاعَة الْحجَّاج، وكل مَكَان كَانَت الْعَرَب تَجْتَمِع فِيهِ فَهُوَ موسم، إِذا كَانَ ذَلِك عَادَة مِنْهُم فِي ذَلِك الْمَكَان، كسوق عكاظ وَذي الْمجَاز وأشباهها. والمتعارك: الّذي يزدحم فِيهِ النَّاس.
[٥] الرس النُّزُوع: الْبِئْر الَّتِي تنْزع مَاؤُهَا بِالْأَيْدِي والمدارك: الْمَوَاضِع الْقَرِيبَة. ويروى:
«الْمُبَارك» .
[٦] الدكادك: جمع دكدك، وَهُوَ الرمل اللين.
[٧] سلع وفارع: جبلان. والرواتك: المسرعة.
[٨] كَذَا فِي أ. قَالَ أَبُو ذَر: «الْعين (هُنَا): المَال الْحَاضِر. وَالْعين (أَيْضا): الدّرّ، وَكِلَاهُمَا يصلح هَا هُنَا» . وَفِي سَائِر الْأُصُول: «العبر» . قَالَ أَبُو ذَر: «وَمن رَوَاهُ «بالعير» فالعير: الرّفْقَة من الْإِبِل. والآنك: القزدير.
[٩] فِي أ: «لَا تنْعَت» .
[١٠] المعصم: المستمسك بالشَّيْء.
فَإِنَّكَ لَا فِي هِجْرَةٍ إنْ ذَكَرْتَهَا … وَلَا حُرُمَاتِ الدِّينِ أَنْتَ بِنَاسِكِ [٢] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بَقِيَتْ مِنْهَا أَبْيَاتٌ تَرَكْنَاهَا، لِقُبْحِ اخْتِلَافِ قَوَافِيهَا. وَأَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ هَذَا الْبَيْتَ:
خَرَجْنَا وَمَا تَنْجُو الْيَعَافِيرُ بَيْنَنَا
وَالْبَيْتَ الَّذِي بَعْدَهُ لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ فِي قَوْلِهِ:
دَعُوا فَلَجَاتِ الشَّأْمِ قَدْ حَالَ دُونَهَا
وَأَنْشَدَنِي لَهُ فِيهَا بَيْتَهُ «فَأَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ» .