(التَّحْرِيضُ عَلَى غَزْوِ الرَّسُولِ):
لَمَّا أُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ أَصْحَابِ الْقَلِيبِ، وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِعِيرِهِ، مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ، مِمَّنْ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ فِي تِلْكَ الْعِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةٌ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ، وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ، فَلَعَلَّنَا نُدْرِكُ مِنْهُ ثَأْرَنَا بِمَنْ أَصَابَ مِنَّا، فَفَعَلُوا.
(مَا نَزَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَفِيهِمْ، كَمَا ذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً، ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» ٨: ٣٦.
(اجْتِمَاعُ قُرَيْشٍ لِلْحَرْبِ):
فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ لِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ
إنِّي فَقِيرٌ ذُو عِيَالٍ وَحَاجَةٍ قَدْ عَرَفْتَهَا فَامْنُنْ عَلَيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَسَلَّمَ، فَمَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: يَا أَبَا عَزَّةَ إنَّكَ امْرُؤٌ شَاعِرٌ، فَأُعِنَّا بِلِسَانِكَ، فَاخْرُجْ مَعَنَا، فَقَالَ: إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَنَّ عَلَيَّ فَلَا أُرِيدُ أَنْ أُظَاهِرَ عَلَيْهِ، قَالَ: (بَلَى) [٢] فَأَعِنَّا بِنَفْسِكَ، فَلَكَ اللَّهُ عَلَيَّ إنْ رَجَعْتُ أَنْ أُغْنِيَكَ، وَإِنْ أُصِبْتَ أَنْ أَجَعَلَ بَنَاتِكَ مَعَ بَنَاتِي، يُصِيبُهُنَّ مَا أَصَابَهُنَّ مِنْ عُسْرٍ وَيُسْرٍ. فَخَرَجَ أَبُو عَزَّةَ فِي تِهَامَةَ، وَيَدْعُو بَنِي كِنَانَةَ وَيَقُولُ:
إيهًا [٣] بَنِي عَبْدِ مَنَاةَ الرُّزَّامِ … أَنْتُمْ حُمَاةٌ وَأَبُوكُمْ حَامْ [٤] لَا تَعْدُونِي نَصَّرَكُمْ بَعْدَ الْعَامِ … لَا تُسْلِمُونِي لَا يَحِلُّ إسْلَامْ
وَخَرَجَ مُسَافِعُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ إلَى بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ، يُحَرِّضُهُمْ وَيَدْعُوهُمْ إلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ:
يَا مَالُ، مَالُ الْحَسَبَ الْمُقَدَّمِ … أَنْشُدُ ذَا الْقُرْبَى وَذَا التَّذَمُّمْ [٥] مَنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ وَمَنْ لَمْ يَرْحَمْ … الْحِلْفَ وَسْطَ الْبَلَدِ الْمُحَرَّمْ
عِنْدَ حَطِيمِ الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمْ
وَدَعَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ غُلَامًا لَهُ حَبَشِيًّا يُقَالُ لَهُ: وَحْشِيٌّ، يَقْذِفُ بِحَرْبَةِ لَهُ قَذْفَ الْحَبَشَةِ، قَلَّمَا يُخْطِئُ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: اُخْرُجْ مَعَ النَّاسِ، فَإِنْ أَنْتَ قَتَلْتُ حَمْزَةَ عَمَّ مُحَمَّدٍ بِعَمِّي طُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيٍّ، فَأَنْتَ عَتِيقٌ.
(خُرُوجُ قُرَيْشٍ مَعَهُمْ نِسَاؤُهُمْ):
(قَالَ) [٢] فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ بِحَدِّهَا وَجَدِّهَا وَحَدِيدِهَا وَأَحَابِيشِهَا، وَمَنْ تَابَعَهَا
[٢] زِيَادَة عَن أ.
[٣] كَذَا فِي أ: وَفِي سَائِر الْأُصُول «أيا» .
[٤] الرزام: جمع رازم، وَهُوَ الّذي يثبت وَلَا يبرح مَكَانَهُ. يُرِيد أَنهم يثبتون فِي الْحَرْب وَلَا ينهزمون.
[٥] يَا مَال: أَرَادَ: يَا مَالك، فَحذف الْكَاف للترخيم. وَذُو التذمم: هُوَ الّذي لَهُ ذمام، أَي عهد.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: رُقَيَّةُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِرَيْطَةَ بِنْتِ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَخَرَجَ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَأَبُو طَلْحَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، بِسُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شَهِيدٍ الْأَنْصَارِيَّةِ وَهِيَ أُمُّ بَنِي طَلْحَةَ: مُسَافِعُ وَالْجُلَاسُ وَكِلَابٌ، قُتِلُوا يَوْمئِذٍ (هُمْ) [٢] وَأَبُوهُمْ، وَخَرَجَتْ خُنَاسُ بِنْتُ مَالِكٍ بْنِ الْمُضْرِبِ إحْدَى نِسَاءِ بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ مَعَ ابْنِهَا أَبِي عَزِيزِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَهِيَ أُمُّ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَخَرَجَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ إحْدَى نِسَاءِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ. وَكَانَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ كُلَّمَا مَرَّتْ بِوَحْشِيٍّ أَوْ مَرَّ بِهَا، قَالَتْ: وَيْهَا [٣] أَبَا دَسْمَةَ اشْفِ وَاسْتَشْفِ، وَكَانَ وَحْشِيٌّ يُكَنَّى بِأَبِي دَسْمَةَ، فَأَقْبَلُوا حَتَّى تزلوا بِعَيْنَيْنِ، بِجَبَلٍ بِبَطْنِ السَّبْخَةِ مِنْ قَنَاةٍ عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي، مُقَابِلَ الْمَدِينَةِ.
(رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ:
(قَالَ) [٢] فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ نَزَلُوا حَيْثُ نَزَلُوا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْمُسْلِمِينَ: إنِّي قَدْ رَأَيْتُ وَاَللَّهِ خَيْرًا، رَأَيْتُ بَقَرًا، وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثَلْمًا، وَرَأَيْتُ أَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ.
[٢] الزِّيَادَة عَن أ.
[٣] وَبهَا: كلمة مَعْنَاهَا الإغراء والتحضيض.
(مُشَاوَرَةُ الرَّسُولِ الْقَوْمَ فِي الْخُرُوجِ أَوْ الْبَقَاءِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ وَتَدْعُوهُمْ حَيْثُ نَزَلُوا، فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مُقَامٍ، وَإِنْ هُمْ دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِيهَا وَكَانَ رَأْيُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ مَعَ رَأْيِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، يَرَى رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَلَّا يَخْرَجَ إلَيْهِمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَكْرَهُ الْخُرُوجَ، فَقَالَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّنْ أَكْرَمَ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ يَوْمَ أُحُدٍ وَغَيْرِهِ، مِمَّنْ كَانَ فَاتَهُ بَدْرٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اُخْرُجْ بِنَا إلَى أَعْدَائِنَا، لَا يَرَوْنَ أَنَّا جَبُنَّا عَنْهُمْ وَضَعُفْنَا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِمْ بِالْمَدِينَةِ لَا تخرج إِلَيْهِم، فو الله مَا خَرَجْنَا مِنْهَا إلَى عَدُوٍّ لَنَا قَطُّ إلَّا أَصَابَ مِنَّا، وَلَا دَخَلَهَا عَلَيْنَا إلَّا أَصَبْنَا مِنْهُ، فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مَحْبِسٍ وَإِنْ دَخَلُوا قَاتَلَهُمْ الرِّجَالُ فِي وَجْهِهِمْ، وَرَمَاهُمْ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ كَمَا جَاءُوا. فَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، الَّذِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ حُبُّ لِقَاءِ الْقَوْمِ، حَتَّى دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْتَهُ [١]، فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَيْنَ فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ. وَقَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو، أَحَدُ بَنِي النَّجَّارِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُول الله ﷺ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ نَدِمَ النَّاسُ، وَقَالُوا: اسْتَكْرَهْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَلَمْ يَكُنْ لَنَا ذَلِكَ. فَلَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: اسْتَكْرَهْنَاكَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَنَا، فَإِنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إذَا لَبِسَ لَأَمْتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي أَلْفٍ مِنْ أَصْحَابِهِ.
(انْخِذَالُ الْمُنَافِقِينَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَتَّى إذَا كَانُوا بِالشَّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ، انْخَزَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ بِثُلُثِ النَّاسِ، وَقَالَ: أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي، مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيُّهَا النَّاسُ فَرَجَعَ بِمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ، وَاتَّبَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، يَقُولُ: يَا قَوْمِ، أذكِّركم اللَّهَ أَلَّا تَخْذُلُوا قومكم ونبيّكم عِنْد مَا حَضَرَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَقَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمَا أَسْلَمْنَاكُمْ، وَلَكِنَّا لَا نَرَى أَنَّهُ يَكُونُ قِتَالٌ. قَالَ: فَلَمَّا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ وَأَبَوْا إلَّا الِانْصِرَافَ عَنْهُمْ، قَالَ: أَبْعَدَكُمْ اللَّهُ أَعْدَاءَ اللَّهِ، فَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ نَبِيَّهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ غَيْرُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ الْأَنْصَارَ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَسْتَعِينُ بِحُلَفَائِنَا مِنْ يَهُودَ؟ فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِمْ.
(حَادِثَةٌ تَفَاءَلَ بِهَا الرَّسُولُ):
قَالَ زِيَادٌ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ، قَالَ: وَمَضَى رَسُول الله ﷺ حَتَّى سَلَكَ فِي حَرَّةِ بَنِي حَارِثَةَ، فَذَبَّ [٢] فَرَسُ بِذَنَبِهِ، فَأَصَابَ كَلَّابَ سَيْفٍ [٣] فَاسْتَلَّهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: كِلَابُ سَيْفٍ [٤] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَكَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ وَلَا يَعْتَافُ [٥]، لِصَاحِبِ السَّيْفِ: شِمْ سَيْفَكَ [٦]، فَإِنِّي أَرَى السُّيُوفَ سَتُسَلُّ الْيَوْمَ.
[٢] ذب بِذَنبِهِ، أَي حركه ليذب بِهِ الطير.
[٣] الْكلاب: مِسْمَار يكون فِي قَائِم السَّيْف، وَفِيه الذؤابة لتَعَلُّقه بهَا.
[٤] لَعَلَّه: «كلب سيف» بِالْفَتْح، إِذْ الْكلاب وَالْكَلب بِمَعْنى وَاحِد.
[٥] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَلَا يعتاف: لَا يتطير. وَفِي أ: «يعتان بالنُّون» .
[٦] شم سَيْفك، أَي أغمده. وَهَذَا الْفِعْل من الأضداد.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ: أَيْ مِنْ قُرْبٍ، مِنْ طَرِيقٍ لَا يَمُرُّ بِنَا عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَفَذَ بِهِ فِي حَرَّةِ بَنِي حَارِثَةَ، وَبَيْنَ أَمْوَالِهِمْ، حَتَّى سَلَكَ فِي مَالٍ لِمِرْبَعِ بْنِ قَيْظِيٍّ، وَكَانَ رَجُلًا مُنَافِقًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ، فَلَمَّا سَمِعَ حِسَّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، قَامَ يَحْثِي فِي وُجُوهِهِمْ التُّرَابَ، وَيَقُولُ: إنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ فَإِنِّي لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ حَائِطِي. وَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّهُ أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لَا أُصِيبُ بِهَا غَيْرَكَ يَا مُحَمَّدُ لَضَرَبْتُ بِهَا وَجْهَكَ. فَابْتَدَرَهُ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَقْتُلُوهُ، فَهَذَا الْأَعْمَى أَعْمَى الْقَلْبِ، أَعْمَى الْبَصَرِ. وَقَدْ بَدَرَ إلَيْهِ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، قَبْلَ نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنْهُ، فَضَرَبَهُ بِالْقَوْسِ فِي رَأْسِهِ، فَشَجَّهُ.
(نُزُولُ الرَّسُولِ بِالشِّعْبِ وَتَعْبِيَتُهُ لِلْقِتَالِ):
قَالَ: وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى نَزَلَ الشِّعْبَ مِنْ أُحُدٍ، فِي عُدْوَةِ الْوَادِي إلَى الْجَبَلِ، فَجَعَلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إلَى أُحُدٍ، وَقَالَ: لَا يُقَاتِلُنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ حَتَّى نَأْمُرُهُ بِالْقِتَالِ. وَقَدْ سَرَّحَتْ قُرَيْشٌ الظَّهْرَ وَالْكُرَاعَ [١] فِي زُرُوعٍ كَانَتْ بِالصَّمْغَةِ [٢]، مِنْ قَنَاةِ لِلْمُسْلِمِينَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ الْقِتَالِ: أَتُرْعَى زُرُوعُ بَنِي قَيْلَةَ [٣] وَلِمَا نُضَارِبُ! وَتُعَبَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْقِتَالِ، وَهُوَ فِي سبع مائَة رَجُلٍ، وَأَمَّرَ عَلَى الرُّمَاةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ مُعْلَمٌ يَوْمئِذٍ بِثِيَابِ بِيضٍ، وَالرُّمَاةُ خَمْسُونَ رَجُلًا، فَقَالَ: انْضَحْ [٤] الْخَيْلَ عَنَّا بِالنَّبْلِ،
[٢] الصمغة: أَرض قرب أحد.
[٣] بَنو قيلة: هم الْأَوْس والخزرج وقيلة: أم من أُمَّهَات الْأَنْصَار نسبوا إِلَيْهَا.
[٤] انْضَحْ الْخَيل، أَي ادفعهم.
٥- سيرة ابْن هِشَام- ٢
وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ دِرْعَيْنِ [١]، وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إلَى مُصْعَبِ ابْن عُمَيْرٍ، أَخِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ.
(مَنْ أَجَازَهُمْ الرَّسُولُ وَهُمْ فِي الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمئِذٍ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الْفَزَارِيَّ، وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، أَخَا بَنِي حَارِثَةَ، وَهُمَا ابْنَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ قَدْ رَدَّهُمَا، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ رَافِعًا رَامٍ، فَأَجَازَهُ، فَلَمَّا أَجَازَ رَافِعًا، قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ سَمُرَةَ يَصْرَعُ رَافِعًا، فَأَجَازَهُ. وَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، أَحَدَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، أَحَدَ بَنِي حَارِثَةَ، وَعَمْرَو بْنَ حَزْمٍ، أَحَدَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَأُسَيْدَ بْنَ ظُهَيْرٍ، أَحَدَ بَنِي حَارِثَةَ، ثُمَّ أَجَازَهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَهُمْ أَبْنَاءُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَتَعَبَّأَتْ قُرَيْشٌ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ رجل، وَمَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ قَدْ جَنَبُوهَا [٢]، فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهَا عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ.
(أَمْرُ أَبِي دُجَانَةَ):
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟ فَقَامَ إلَيْهِ رِجَالٌ، فَأَمْسَكَهُ عَنْهُمْ، حَتَّى قَامَ إلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ، أَخُو بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالَ: وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَن تشرب بِهِ الْعَدُوَّ حَتَّى يَنْحَنِيَ، قَالَ:
أَنَا آخُذُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِحَقِّهِ، فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ. وَكَانَ أَبُو دُجَانَةَ رَجُلًا شُجَاعًا يَخْتَالُ عِنْدَ الْحَرْبِ، إذَا كَانَتْ، وَكَانَ إذَا أَعُلِمَ بِعِصَابَةِ لَهُ حَمْرَاءَ، فاعتصب بهَا على لناس أَنَّهُ سَيُقَاتِلُ، فَلَمَّا أَخَذَ السَّيْفَ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَخْرَجَ عِصَابَتَهُ تِلْكَ، فَعَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ، وَجَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ.
[٢] جنبوها: قادوها إِلَى جنُوبهم يستعملونها إِذا أعيا بعض خيلهم أَو قتل.
(أَمْرُ أَبِي عَامِرٍ الْفَاسِقُ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: أَنَّ أَبَا عَامِرٍ، عَبْدَ عَمْرِو ابْن صَيْفِيِّ بْنِ مَالِكِ بْنِ النُّعْمَانِ، أَحَدَ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَقَدْ كَانَ خَرَجَ حِينَ خَرَجَ إلَى مَكَّةَ مُبَاعِدًا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، مَعَهُ خَمْسُونَ غُلَامًا مِنْ الْأَوْسِ، وَبَعْضُ النَّاسِ كَانَ يَقُولُ: كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَكَانَ يَعِدُ قُرَيْشًا أَنْ لَوْ قَدْ لَقِيَ قَوْمَهُ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلَانِ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَهُمْ أَبُو عَامِرٍ فِي الْأَحَابِيشِ وَعُبْدَانُ أَهْلِ مَكَّةَ، فَنَادَى: يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ، أَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالُوا: فَلَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا يَا فَاسِقُ- وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ: الرَّاهِبَ، فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْفَاسِقَ- فَلَمَّا سَمِعَ رَدَّهُمْ عَلَيْهِ قَالَ: لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرٌّ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ رَاضَخَهُمْ [١] بِالْحِجَارَةِ.
(أُسْلُوبُ أَبِي سُفْيَانَ فِي تَحْرِيضِ قُرَيْشٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِأَصْحَابِ اللِّوَاءِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ يُحَرِّضُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْقِتَالِ: يَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، إنَّكُمْ قَدْ وَلَّيْتُمْ لِوَاءَنَا يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَصَابَنَا مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى النَّاسُ مِنْ قِبَلِ رَايَاتِهِمْ إذَا زَالَتْ زَالُوا، فَإِمَّا أَنْ تَكْفُونَا لِوَاءَنَا، وَإِمَّا أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَنَكْفِيكُمُوهُ، فَهَمُّوا بِهِ وَتُوَاعَدُوهُ، وَقَالُوا: نَحْنُ نُسْلِمُ إلَيْكَ لِوَاءَنَا، سَتَعْلَمُ غَدًا إذَا الْتَقَيْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ! وَذَلِكَ أَرَادَ أَبُو سُفْيَانَ.
(تَحْرِيضُ هِنْدَ وَالنِّسْوَةِ مَعَهَا):
فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ، وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، قَامَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فِي النِّسْوَةِ اللَّاتِي مَعَهَا، وَأَخَذْنَ الدُّفُوفَ يَضْرِبْنَ بِهَا خَلَفَ الرِّجَالِ، وَيُحَرِّضْنَهُمْ، فَقَالَتْ هِنْدُ فِيمَا تَقُولُ:
إنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ … وَنَفْرِشُ النَّمَارِقْ [٣] أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ … فِرَاقَ غَيْرَ وَامِقْ [٤]
(شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ):
وَكَانَ شِعَارُ [٥] أَصْحَابِ رَسُول الله ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ: أَمِتْ، أَمِتْ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
(تَمَامُ قِصَّةِ أَبِي دُجَانَةَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَاقْتَتَلَ النَّاسُ حَتَّى حَمِيَتْ الْحَرْبُ، وَقَاتَلَ أَبُو دُجَانَةَ حَتَّى أَمْعَنَ فِي النَّاسِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ قَالَ:
وَجِدْتُ فِي نَفْسِي حِينَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ السَّيْفَ فَمَنَعْنِيهِ وَأَعْطَاهُ أَبَا دُجَانَةَ، وَقُلْتُ: أَنَا ابْنُ صَفِيَّةَ عَمَّتَهِ، وَمِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ قُمْتُ إلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ إيَّاهُ قَبْلَهُ، فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ وَتَرَكَنِي، وَاَللَّهِ لَأَنْظُرَنَّ مَا يَصْنَعُ، فَاتَّبَعَتْهُ، فَأَخْرَجَ عِصَابَةً لَهُ حَمْرَاءَ، فَعَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: أَخْرِجْ أَبُو دُجَانَةَ عِصَابَةَ الْمَوْتِ، وَهَكَذَا كَانَتْ تَقُولُ لَهُ إذَا تَعَصَّبَ بِهَا. فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا الَّذِي عَاهَدَنِي خَلِيلِي … وَنَحْنُ بِالسَّفْحِ لَدَى النَّخِيلِ
أَلَّا أَقَوْمَ الدَّهْرَ فِي الْكَيُّولِ … أَضْرِبُ بِسَيْفِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ [٦]
[٢] البتار: الْقَاطِع.
[٣] النمارق: جمع نمرقة، وَهِي الوسادة الصَّغِيرَة.
[٤] الوامق: الْمُحب وَهَذَا الرجز لهِنْد بنت طَارق بن بياضة الإيادية قالته فِي حَرْب الْفرس لإياد وتمثلت بِهِ هِنْد بنت عتبَة (السهيليّ وَاللِّسَان) .
[٥] الشعار (هُنَا): عَلامَة ينادون بهَا فِي الْحَرْب، ليعرف بَعضهم بَعْضًا.
[٦] الكيول: آخر الصُّفُوف فِي الْحَرْب. وَلم يسمع إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث وَهُوَ عَليّ التَّشْبِيه بكيول الزندى، وَهُوَ سَواد ودخان يخرج مِنْهُ آخرا بعد الْقدح إِذا لم يور نَارا، وَذَلِكَ شَيْء لَا غناء فِيهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَجَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إلَّا قَتَلَهُ. وَكَانَ فِي الْمُشْرِكِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَنَا جَرِيحًا إلَّا ذَفَّفَ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْنُو مِنْ صَاحِبِهِ.
فَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَالْتَقَيَا، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَضَرَبَ الْمُشْرِكُ أَبَا دُجَانَةَ، فَاتَّقَاهُ بِدَرَقَتِهِ، فَعَضَّتْ بِسَيْفِهِ، وَضَرَبَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَقَتَلَهُ ثُمَّ رَأَيْتُهُ قَدْ حَمَلَ السَّيْفَ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ، ثُمَّ عَدَلَ السَّيْفَ عَنْهَا. قَالَ الزَّبِيرُ فَقُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ: رَأَيْتُ إنْسَانًا يَخْمُشُ [٢] النَّاسَ خَمْشًا شَدِيدًا، فَصَمَدْتُ لَهُ، فَلَمَّا حَمَلْتُ عَلَيْهِ السَّيْفَ وَلْوَلَ فَإِذَا امْرَأَةٌ، فَأَكْرَمْتُ سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنْ أَضْرِبَ بِهِ امْرَأَةً.
(مَقْتَلُ حَمْزَةَ):
وَقَاتَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى قَتَلَ أَرْطَاةَ بْنَ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، وَكَانَ أَحَدَ النَّفَرِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ اللِّوَاءَ ثُمَّ مَرَّ بِهِ سِبَاعُ ابْن عَبْدِ الْعُزَّى الْغُبْشَانِيُّ، وَكَانَ يُكَنَّى بِأَبِي نِيَارٍ، فَقَالَ لَهُ حَمْزَةُ: هَلُمَّ إلَيَّ يَا بن مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ- وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمَّ أَنْمَارٍ مَوْلَاةُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ.
(قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: شَرِيقُ بْنُ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ) [٣] . وَكَانَتْ خَتَّانَةً بِمَكَّةَ- فَلَمَّا الْتَقَيَا ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَقَتَلَهُ.
قَالَ وَحْشِيٌّ، غُلَامُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَنْظُرُ إلَى حَمْزَةَ يَهُدُّ [٤]
وَقد زَادَت م، ب بعد هَذِه الْكَلِمَة: «يعْنى آخر الصُّفُوف» وَهِي تَفْسِير الكيول (بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة)
[٢] فِي م، ر: «يحمش» بِالْحَاء الْمُهْملَة.
[٣] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ.
[٤] يهد، قَالَ أَبُو ذَر: «من رَوَاهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، فَمَعْنَاه. يسْرع فِي قطع لُحُوم النَّاس بِسَيْفِهِ. وَمن رَوَاهُ بِالدَّال الْمُهْملَة، فَمَعْنَاه يرديهم ويهلكهم» .
(وَحْشِيٌّ يُحَدِّثُ الضَّمْرِيَّ وَابْنَ الْخِيَارِ عَنْ قَتْلِهِ حَمْزَةَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسِ [٥] بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمِّيَّةَ الضَّمْرِيَّ قَالَ: خُرِجْتُ أَنَا وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، أَخُو بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَدْرَبْنَا مَعَ النَّاسِ [٦]، فَلَمَّا قَفَلْنَا مَرَرْنَا بِحِمْصَ- وَكَانَ وَحْشِيٌّ، مَوْلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَدْ سَكَنَهَا، وَأَقَامَ بِهَا- فَلَمَّا قَدِمْنَاهَا، قَالَ لِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ: هَلْ لَكَ فِي أَنْ نَأْتِيَ وَحْشِيًّا فَنَسْأَلَهُ عَنْ قَتْلِ حَمْزَةَ كَيْفَ قَتَلَهُ؟
قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إنْ شِئْتَ. فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْهُ بِحِمْصَ، فَقَالَ لَنَا رَجُلٌ، وَنَحْنُ نَسْأَلُ عَنْهُ: إنَّكُمَا سَتَجِدَانِهِ بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَهُوَ رَجُلٌ قَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْخَمْرُ، فَإِنْ تَجِدَاهُ صَاحِيًا تَجِدَا رَجُلًا عَرَبِيًّا، وَتَجِدَا عِنْدَهُ بَعْضَ مَا تُرِيدَانِ، وَتُصِيبَا عِنْدَهُ مَا شِئْتُمَا مِنْ حَدِيثٍ تَسْأَلَانِهِ عَنْهُ، وَإِنْ تَجِدَاهُ وَبَهْ بَعْضُ مَا يَكُونُ بِهِ، فَانْصَرَفَا
[٢] الأورق: الّذي لَونه إِلَى الغبرة.
[٣] كَأَن مَا أَخطَأ رَأسه، أَي كَانَ الْأَمر والشأن مَا أَخطَأ رَأسه، وَمَا: نَافِيَة وَالنُّون فِي «كَأَن» مُنْفَصِلَة عَن «مَا» . وَيجوز أَن تكون «مَا» مُتَّصِلَة بكأن، وَيكون الْمَعْنى: كَأَنَّهُ أَخطَأ رَأسه، أَي أسْرع الضَّرْب وَالْقطع وَكَأن السَّيْف لم يُصَادف مَا يُريدهُ. (رَاجع شرح السِّيرَة لأبى ذَر) .
[٤] الثنة: مَا بَين أَسْفَل الْبَطن إِلَى الْعَانَة.
[٥] فِي أ: «عَيَّاش» . وَهُوَ تَحْرِيف. قَالَ أَبُو ذَر: «الصَّوَاب: ابْن عَبَّاس، بِالْبَاء وَالسِّين الْمُهْملَة»
[٦] فأدربنا مَعَ النَّاس، أَي جزنا الدروب.
– قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْبُغَاثُ: ضَرْبٌ مِنْ الطَّيْرِ إلَى السَّوَادِ [٢]- فَإِذَا هُوَ صَاحٍ لَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إلَيْهِ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ، فَقَالَ: ابْنٌ لِعَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ مَا رَأَيْتُكَ مُنْذُ نَاوَلْتُكَ أُمَّكَ السَّعْدِيَّةَ الَّتِي أَرْضَعَتْكَ بِذِي طُوًى [٣]، فَإِنِّي نَاوَلْتُكهَا وَهِيَ عَلَى بَعِيرِهَا، فَأَخَذَتْكَ بِعُرْضَيْكَ [٤]، فَلَمَعَتْ لِي قَدَمَاكَ حِينَ رفعتك إِلَيْهَا، فو الله مَا هُوَ إلَّا أَنْ وَقَفْتَ عَلَيَّ فَعَرَفْتُهُمَا. قَالَ: فَجَلَسْنَا إلَيْهِ، فَقُلْنَا لَهُ: جِئْنَاكَ لِتُحَدِّثَنَا عَنْ قَتْلِكَ حَمْزَة، كَيفَ قتلت؟ فَقَالَ: أَمَا إنِّي سَأُحَدِّثُكُمَا كَمَا حَدَّثْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ سَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ، كُنْتُ غُلَامًا لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَكَانَ عَمُّهُ طُعَيْمَةَ بْنَ عَدِيٍّ قَدْ أُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمَّا سَارَتْ قُرَيْشٌ إلَى أُحُدٍ، قَالَ لِي جُبَيْرٌ: إنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ عَمَّ مُحَمَّدٍ بِعَمِّي فَأَنْتَ عَتِيقٌ قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ، وَكُنْتُ رَجُلًا حَبَشِيًّا أَقْذِفُ بِالْحَرْبَةِ قَذْفَ الْحَبَشَةِ، قَلَّمَا أُخْطِئُ بِهَا شَيْئًا، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ خَرَجْتُ انْظُر حَمْزَة وأ تبصّره، حَتَّى رَأَيْتُهُ فِي عُرْضِ النَّاسِ مِثْلَ الْجَمْلِ الْأَوْرَقِ [٥]، يَهُدُّ النَّاسَ بِسَيْفِهِ هَدًّا، مَا يَقُومُ لَهُ شَيْء، فو الله إنِّي لَأَتَهَيَّأُ لَهُ، أُرِيدُهُ وَأَسْتَتِرُ مِنْهُ بِشَجَرَةِ أَوْ حَجَرٍ لِيَدْنُوَ مِنِّي إذْ تَقَدَّمَنِي إلَيْهِ سِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، فَلَمَّا رَآهُ حَمْزَةُ قَالَ لَهُ: هَلُمَّ إلَيَّ يَا بن مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ. قَالَ: فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً كَأَنَّ مَا أَخَطَأَ رَأْسَهُ. قَالَ: وَهَزَّزَتْ
[٢] فِي أ: «قَالَ ابْن هِشَام: مثل البغاثة، وَهِي ضرب من الطير» .
[٣] ذُو طوى: مَوضِع بِمَكَّة.
[٤] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي أ: «بعرضك» . قَالَ أَبُو ذَر: «أخذتك بعرضتك» من رَوَاهُ هَكَذَا، فالعرضة: الْجلد الّذي يكون فِيهِ الصبى إِذا أرضع، ويربى فِيهِ. وَمن رَوَاهُ «بعرصتك» بالصَّاد الْمُهْملَة، فَمَعْنَاه أَنه رَفعه إِلَيْهَا بِالثَّوْبِ الّذي كَانَ تَحْتَهُ، وَمِنْه عَرصَة الدَّار- وَهُوَ مَا يَقع عَلَيْهِ الْبناء- وَمن رَوَاهُ «بعرضيك» فَمَعْنَاه بجانبيك. وَعرض الشَّيْء (بِضَم الْعين): جَانِبه» .
[٥] الْجمل الأورق: الّذي لَونه بَين الغبرة والسواد، سَمَّاهُ كَذَلِك لما عَلَيْهِ من الْغُبَار.
(وَحْشِيٌّ بَيْنَ يَدَيْ الرَّسُولِ يُسْلِمُ):
فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ، خَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ، فَلَمْ يَرُعْهُ إلَّا بِي قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ أَتَشَهَّدُ بِشَهَادَةِ الْحَقِّ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ:
أَوَحْشِيٌّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: اُقْعُدْ فَحَدِّثْنِي كَيْفَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ، قَالَ: فَحَدَّثْتُهُ كَمَا حَدَّثْتُكُمَا، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ حَدِيثِي قَالَ: وَيْحَكَ! غَيِّبْ عَنِّي وَجْهَكَ، فَلَا أُرَيَنَّكَ. قَالَ: فَكُنْتُ أَتَنَكَّبُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَيْثُ كَانَ لِئَلَّا يَرَانِي، حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ ﷺ.
(قَتْلُ وَحْشِيٍّ لَمُسَيْلِمَةَ):
فَلَمَّا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ إلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ خَرَجْتُ مَعَهُمْ، وَأَخَذْتُ حَرْبَتِي الَّتِي قَتَلْتُ بِهَا حَمْزَةَ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ رَأَيْتُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ قَائِمًا فِي يَدِهِ السَّيْفَ، وَمَا أَعْرِفُهُ، فَتَهَيَّأْتُ لَهُ، وَتَهَيَّأَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، كِلَانَا يُرِيدُهُ، فَهَزَزْتُ حَرْبَتِي حَتَّى إذَا رَضِيتُ مِنْهَا دَفَعْتُهَا عَلَيْهِ، فَوَقَعَتْ فِيهِ، وَشَدَّ عَلَيْهِ الْأَنْصَارِيُّ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ، فَرَبُّكَ أَعْلَمُ أَيُّنَا قَتَلَهُ،
[٢] فِي أ: فَكنت.
[٣] فِي م، ر: شَهَادَة الْحق.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ الْيَمَامَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ يَوْمئِذٍ صَارِخًا يَقُولُ: قَتَلَهُ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ.
(خَلْعُ وَحْشِيٍّ مِنْ الدِّيوَانِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَبَلَغَنِي أَنَّ وَحْشِيًّا لَمْ يَزَلْ يُحَدُّ فِي الْخَمْرِ حَتَّى خُلِعَ مِنْ الدِّيوَانِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ قَاتِلَ حَمْزَةَ.
(مَقْتَلُ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَاتَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى قُتِلَ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُ ابْنُ قَمِئَةَ اللَّيْثِيُّ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَرَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: قَتَلْتُ مُحَمَّدًا. فَلَمَّا قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ اللِّوَاءَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَقَاتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَرِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ الْمَازِنِيَّ، قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَالُ يَوْمَ أُحُدٍ، جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ رَايَةِ الْأَنْصَارِ، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ: أَنْ قَدَّمَ الرَّايَةَ. فَتَقَدَّمَ عَلِيٌّ، فَقَالَ: أَنَا أَبُو الْفُصَمِ [١]، وَيُقَالُ: أَبُو الْقُصَمِ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- فَنَادَاهُ أَبُو سَعْدِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَهُوَ صَاحِبُ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ: أَنْ هَلْ لَكَ يَا أَبَا الْقُصَمِ فِي الْبِرَازِ مِنْ حَاجَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَبَرَزَا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَتَلَ أَبَا سَعْدِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ [٤] .
(شَأْنُ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ):
وَقَاتَلَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ، فَقَتَلَ مُسَافِعَ بْنَ طَلْحَةَ وَأَخَاهُ الْجُلَاسَ ابْن طَلْحَةَ، كِلَاهُمَا يَشْعُرُهُ [٥] سَهْمًا، فَيَأْتِي أُمَّهُ سُلَافَةَ، فَيَضَعُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهَا فَتَقُولُ: يَا بُنَيَّ، مَنْ أَصَابَكَ؟ فَيَقُولُ: سَمِعْتُ رَجُلًا حِينَ رَمَانِي وَهُوَ يَقُولُ:
خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ أَبِي الْأَقْلَحِ. فَنَذَرْتُ إنْ أَمْكَنَهَا اللَّهُ مِنْ رَأْسِ عَاصِمٍ أَنْ تُشْرَبَ فِيهِ الْخَمْرُ، وَكَانَ عَاصِمٌ قَدْ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ لَا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا، وَلَا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ يَوْمئِذٍ، وَهُوَ يَحْمِلُ لِوَاءَ الْمُشْرِكِينَ:
إنَّ عَلَى أَهْلِ اللِّوَاءِ حَقَّا … أَنْ يَخْضِبُوا الصَّعْدَةَ أَوْ تَنْدَقَّا [٦]
فَقَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
[٢] فِي م، ر: «أَبَا قَاسم» .
[٣] زِيَادَة عَن أ، ط.
[٤] قَالَ السهيليّ: رَوَاهُ الْكشِّي فِي تَفْسِيره عَن سعد، قَالَ: «لما كف عَنهُ على طعنته فِي حنجرته، فدلع لِسَانه إِلَى كَمَا يصنع الْكَلْب، ثمَّ مَاتَ» .
[٥] يشعره سَهْما، اى يُصِيبهُ بِهِ فِي جسده، فَيصير لَهُ مثل الشعار. والشعار: مَا ولى الْجَسَد من الثِّيَاب.
[٦] الصعدة: الْقَنَاة.
وَالْتَقَى حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الْغَسِيلُ وَأَبُو سُفْيَانَ، فَلَمَّا اسْتَعْلَاهُ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ رَآهُ شَدَّادُ بْنُ الْأَسْوَدِ [١]، وَهُوَ ابْنُ شَعُوبٍ، قَدْ عَلَا أَبَا سُفْيَانَ. فَضَرَبَهُ شَدَّادٌ فَقَتَلَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّ صَاحِبَكُمْ، يَعْنِي حَنْظَلَةَ لَتُغَسِّلَهُ الْمَلَائِكَةُ. فَسَأَلُوا أَهْلَهُ مَا شَأْنُهُ؟ فَسُئِلَتْ [٢] صَاحِبَتُهُ عَنْهُ. فَقَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ حِينَ سَمِعَ الْهَاتِفَةَ [٣] .
– قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: الْهَائِعَةُ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: خَيْرُ النَّاسِ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ، كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةَ طَارَ إلَيْهَا. قَالَ الطّرمّاح بن حكم الطَّائِيُّ، وَالطِّرِمَّاحُ: الطَّوِيلُ مِنْ الرِّجَالِ-:
أَنَا ابْنُ حُمَاةَ الْمَجْدِ مِنْ آلِ مَالِكٍ … إذَا جَعَلَتْ خُورُ الرِّجَالِ تَهِيعُ [٤] (وَالْهَيْعَةُ: الصَّيْحَةُ الَّتِي فِيهَا الْفَزَعُ) [٥] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ. سلم: لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ.
(شِعْرُ الْأَسْوَدِ فِي قَتْلِهِمَا حَنْظَلَةَ وَأَبَا سُفْيَانَ):
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ) [٥]: وَقَالَ شَدَّادُ بْنُ الْأَسْوَدِ فِي قَتْلِهِ حَنْظَلَةَ:
لَأَحْمِيَنَّ صَاحِبِي وَنَفْسِي … بِطَعْنَةِ مِثْلِ شُعَاعِ الشَّمْسِ
وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَهُوَ يَذْكُرُ صَبْرَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمُعَاوَنَةَ ابْنِ شَعُوبٍ إيَّاهُ عَلَى حَنْظَلَةَ:
وَلَوْ شِئْتُ نَجَّتْنِي كُمَيْتٌ طِمَرَّةٍ … وَلَمْ أَحْمِلْ النَّعْمَاءَ لِابْنِ شَعُوبِ [٦]
وَمَا زَالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الْكَلْبِ مِنْهُمْ … لَدُنْ غُدْوَةٍ حَتَّى دَنَتْ لِغُرُوبِ [٧]
[٢] فِي م، ر: «فَسَأَلت» .
[٣] الهاتفة: الصَّيْحَة.
[٤] الخور: جمع أخور، وَهُوَ الضَّعِيف الجبان.
[٥] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ:
[٦] الطمرة: الْفرس السريعة الوثب.
[٧] مزجر الْكَلْب: يُرِيد أَنه لم يبعد مِنْهُم إِلَّا بِمِقْدَار الْموضع الّذي يزْجر الْكَلْب فِيهِ. وَدنت لغروب
فَبَكِّي وَلَا تَرْعَى مَقَالَةَ عَاذِلٍ … وَلَا تَسْأَمِي مِنْ عَبْرَةٍ وَنَحِيبِ
أَبَاكِ وَإِخْوَانًا لَهُ قَدْ تَتَابَعُوا … وَحُقَّ لَهُمْ مِنْ عَبْرَةٍ بِنَصِيبِ
وَسَلَّى الَّذِي قَدْ كَانَ فِي النَّفْسِ أَنَّنِي … قَتَلْتُ مِنْ النَّجَّارِ كُلَّ نَجِيبِ
وَمِنْ هَاشِمٍ قَرْمًا كَرِيمًا وَمُصْعَبًا … وَكَانَ لَدَى الْهَيْجَاءِ غَيْرُ هَيُوبِ [١] وَلَوْ أَنَّنِي لَمْ أَشْفِ نَفْسِي مِنْهُمْ … لَكَانَتْ شَجًا فِي الْقَلْبِ ذَاتَ نُدُوبِ [٢] فَآبَوْا وَقَدْ أَوْدَى الْجَلَابِيبُ مِنْهُمْ … بِهِمْ خَدَبٌ مِنْ مُعْطِبٍ وَكَئِيبِ [٣] أَصَابَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِدِمَائِهِمْ … كِفَاءً وَلَا فِي خُطَّةٍ بِضَرِيبِ [٤]
(شِعْرُ حَسَّانَ فِي الرَّدِّ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ):
فَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ، فَقَالَ:
ذَكَرْتَ الْقُرُومَ الصَّيْدَ مِنْ آلِ هَاشِمٍ … وَلَسْتَ لِزُورٍ قُلْتَهُ بِمُصِيبِ
أَتَعْجَبُ أَنْ أَقَصَدْتُ حَمْزَةَ مِنْهُمْ … نَجِيبًا وَقَدْ سَمَّيْتَهُ بِنَجِيبِ [٥]
أَلَمْ يَقْتُلُوا عَمْرًا وَعُتْبَةُ وَابْنَهُ … وَشَيْبَةَ وَالْحَجَّاجَ وَابْنَ حَبِيبِ
غَدَاةَ دَعَا الْعَاصِي عَلِيًّا فَرَاعَهُ … بِضَرْبَةِ عَضْبٍ بَلَّهُ بِخَضِيبِ [٦]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ ابْنُ شَعُوبٍ يَذْكُرُ يَدَهُ عِنْدَ أَبِي سُفْيَانَ فِيمَا دَفَعَ عَنْهُ، فَقَالَ:
[١] القرم: الْفَحْل الْكَرِيم من الْإِبِل، وَيُرِيد بِهِ هُنَا حَمْزَة رضى الله عَنهُ. والهجاء الْحَرْب.
[٢] الشجا: الْحزن. والندوب: أثار الجروح، الْوَاحِد: ندب.
[٣] الجلابيب: جمع جِلْبَاب، وَهُوَ (هَا هُنَا): الْإِزَار الخشن. وَكَانَ مشركو أهل مَكَّة يسمون من أسلم مَعَ رَسُول الله ﷺ: الجلابيب، يلقبونهم بذلك. وأودى: هلك. والخدب: الطعْن النَّافِذ إِلَى الْجوف. والمعطب، قَالَ أَبُو ذَر: هُوَ الّذي يسيل دَمه. والكثيب: الحزين. ويروى: كبيب أَي قد كب على وَجهه.
[٤] الخطة (هُنَا): الْخصْلَة الرفيعة. والضريب: الشبيه.
[٥] أقصده: رَمَاه فَأَصَابَهُ.
[٦] العضب: السَّيْف الْقَاطِع. وبخضيب: أَي خضيب بِدَم.
(شِعْرُ الْحَارِثِ فِي الرَّدِّ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ أَيْضًا):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ يُجِيبُ أَبَا سُفْيَانَ:
جَزَيْتهمْ يَوْمًا بِبَدْرٍ كَمِثْلِهِ … عَلَى سَابِحٍ ذِي مَيْعَةٍ وَشَبِيبِ [٤]
لَدَى صَحْنِ بَدْرٍ أَوْ أَقَمْتُ نَوَائِحًا … عَلَيْكَ وَلَمْ تَحْفِلْ مُصَابَ حَبِيبِ
وَإِنَّكَ لَوْ عَايَنْتَ مَا كَانَ مِنْهُمْ … لَأُبْتَ بِقَلْبِ مَا بَقِيتُ نَخِيبُ [٥]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَإِنَّمَا أَجَابَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ أَبَا سُفْيَانَ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ عَرَّضَ بِهِ فِي قَوْلِهِ:
وَمَا زَالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الْكَلْبِ مِنْهُمْ
لِفِرَارِ الْحَارِثِ يَوْمِ بَدْرٍ.
(حَدِيثُ الزُّبَيْرِ عَنْ سَبَبِ الْهَزِيمَةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَصَدَقَهُمْ وَعْدَهُ، فَحَسُّوهُمْ بِالسُّيُوفِ [٦] حَتَّى كَشَفُوهُمْ عَنْ الْعَسْكَرِ، وَكَانَتْ الْهَزِيمَةُ لَا شَكَّ فِيهَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتنِي أَنْظُرُ إلَى خَدَمِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةُ وَصَوَاحِبُهَا مُشَمَّرَاتٌ هَوَارِبُ، مَا دُونِ أَخْذِهِنَّ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ
[٢] فِي م، ر: «النَّعْت» وَهُوَ تَحْرِيف.
[٣] قرقرت: أسرعت وَخفت لأكله. وَالضَّرَّاء: الضاربة المتعودة الصَّيْد أَو أكل لُحُوم النَّاس.
وكليب: اسْم لجَماعَة الْكلاب.
[٤] السابح: الْفرس الّذي كَأَنَّهُ يسبح فِي جريه. والميعة: الخفة والنشاط. وشبيب، أَي شباب، وَهُوَ أَن يرفع الْفرس يَدَيْهِ جَمِيعًا. ويروى: «سبيب» بِالسِّين الْمُهْملَة، والسبيب،: شعر نَاصِيَة الْفرس.
[٥] أَبَت: رجعت. والنخيب: الجبان الْفَزع.
[٦] حسوهم بِالسُّيُوفِ: قتلوهم واستأصلوهم.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الصَّارِخُ: أَزَبُّ الْعَقَبَةِ، يَعْنِي الشَّيْطَانَ.
(شَجَاعَةُ صُؤَابٍ وَشِعْرُ حَسَّانَ فِي ذَلِكَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ اللِّوَاءَ لَمْ يَزَلْ صَرِيعًا حَتَّى أَخَذَتْهُ عَمْرَةُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ الْحَارِثِيَّةُ، فَرَفَعته لقريش، فَلَا ثَوَابه [٣] . وَكَانَ اللِّوَاءُ مَعَ صُؤَابٍ، غُلَامٌ لِبَنِي أَبِي طَلْحَةَ، حَبَشِيٌّ وَكَانَ آخِرُ مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ، فَقَاتَلَ بِهِ حَتَّى قُطِعَتْ يَدَاهُ، ثُمَّ بَرَكَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَ اللِّوَاءَ بِصَدْرِهِ وَعُنُقِهِ حَتَّى قُتِلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهمّ هَلْ أَعْزَرْتُ- يَقُولُ: أَعَذَرْتُ [٤]- فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ:
فَخَرْتُمْ بِاللِّوَاءِ وَشَرُّ فَخْرٍ … لِوَاءٌ حِينَ رُدَّ إلَى صُؤَابِ
جَعَلْتُمْ فَخَرَكُمْ فِيهِ بِعَبْدٍ … وَأَلْأَمُ مَنْ يَطَا عَفَرَ التُّرَابِ [٥]
ظَنَنْتُمْ، وَالسَّفِيهُ لَهُ ظُنُونُ … وَمَا إنْ ذَاكَ مِنْ أَمْرِ الصَّوَابِ
بِأَنَّ جِلَادَنَا [٦] يَوْمَ الْتَقَيْنَا … بِمَكَّةَ بَيْعُكُمْ حُمْرَ الْعِيَابِ [٧]
أَقَرَّ الْعَيْنَ أَنْ عُصِبَتْ يَدَاهُ … وَمَا إنْ تُعْصَبَانِ عَلَى خِضَابِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: آخِرُهَا بَيْتًا يُرْوَى لِأَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ، وَأَنْشَدَنِيهِ لَهُ خَلَفٌ الْأَحْمَرُ:
[٢] انكفأنا: رَجعْنَا.
[٣] لاثوا بِهِ: اجْتَمعُوا حوله والتفوا.
[٤] قَالَ أَبُو ذَر: «يعْنى أَنه كَانَ فِي لِسَانه لكنة أَعْجَمِيَّة فَغير الذَّال من «أعذرت» إِلَى الزاء، لِأَنَّهُ كَانَ حَبَشِيًّا» .
[٥] يطا، الأَصْل فِيهِ الْهَمْز وَسَهل للشعر. وعفر التُّرَاب: الّذي لَونه بَين الْحمرَة والغبرة.
[٦] فِي م، ر: «جلادكم» .
[٧] العياب. جمع عَيْبَة، وَهِي مَا يضع فِيهَا الرجل مَتَاعه.
فِي أَبْيَاتٍ لَهُ، يَعْنِي امْرَأَتَهُ، فِي غَيْرِ حَدِيثِ أُحُدٍ. وَتُرْوَى الْأَبْيَاتُ أَيْضًا لِمَعْقِلِ ابْن خُوَيْلِدٍ الْهُذَلِيُّ.
(شِعْرُ حَسَّانَ فِي عَمْرَةِ الْحَارِثِيَّةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَأْنِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَلْقَمَةَ الْحَارِثِيَّةِ وَرَفْعِهَا اللِّوَاءِ:
إذَا عَضَلٌ سِيقَتْ إلَيْنَا كَأَنَّهَا … جِدَايَةُ شِرْكٍ مُعْلِمَاتِ الْحَوَاجِبِ [١]
أَقَمْنَا لَهُمْ طَعْنًا مُبِيرًا مُنَكِّلًا … وَحُزْنَاهُمْ بِالضَّرْبِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ [٢]
فَلَوْلَا لِوَاءُ الْحَارِثِيَّةِ أَصْبَحُوا … يُبَاعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ بَيْعَ الْجَلَائِبِ [٣]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
(مَا لَقِيَهُ الرَّسُولُ يَوْمَ أُحُدٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، فَأَصَابَ فِيهِمْ الْعَدُوَّ، وَكَانَ يَوْمَ بَلَاءٍ وَتَمْحِيصٍ، أَكْرَمَ اللَّهُ فِيهِ مَنْ أَكْرَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّهَادَةِ، حَتَّى خَلَصَ الْعَدُوُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَدُثَّ [٤] بِالْحِجَارَةِ حَتَّى وَقَعَ لِشِقِّهِ [٥]، فَأُصِيبَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَشُجَّ [٦] فِي وَجْهِهِ، وَكُلِمَتْ [٧] شَفَتُهُ، وَكَانَ الَّذِي أَصَابَهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي حُمَيْدُ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:
وشرك، قَالَ أَبُو ذَر: بِضَم الشين وَكسرهَا: مَوضِع، وَلم نجد فِي المعاجم بِهَذَا الِاسْم غير موضِعين، أَحدهمَا بِالْفَتْح، وَهُوَ جبل بالحجاز، وَالْآخر بِالْكَسْرِ، وَهُوَ مَاء وَرَاء جبل القنان لبني منقذ بن أعيا، من أَسد.
[٢] مبيرا: مهْلكا. ومنكلا: قامعا لَهُم ولغيرهم.
[٣] الجلائب: مَا يجلب إِلَى الْأَسْوَاق ليباع فِيهَا.
[٤] فَدُثَّ، قَالَ أَبُو ذَر: «من رَوَاهُ بالراء فَمَعْنَاه أُصِيب بهَا. وَمن رَوَاهُ (فَدُثَّ) بِالدَّال الْمُهْملَة، فَمَعْنَاه رمى حَتَّى التوى بعض جسده» .
[٥] الشق: الْجَانِب.
[٦] شج: أَصَابَته شجة.
[٧] كلم: جرح (بِالْبِنَاءِ للْمَجْهُول فيهمَا) .
[٢] المغفر: شَبيه بحلق الدرْع يَجْعَل على الرَّأْس يتّقى بِهِ فِي الْحَرْب.
[٣] ازْدَردهُ: ابتلعه.
[٤] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ.
[٥] هَذِه الْكَلِمَة سَاقِطَة فِي أ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ لِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ:
إذَا اللَّهُ جَازَى مَعْشَرًا بِفِعَالِهِمْ … وَضَرَّهُمْ [١] الرَّحْمَنُ رَبُّ الْمَشَارِقِ
فَأَخْزَاكَ رَبِّي يَا عُتَيْبُ بْنَ مَالِكٍ … وَلَقَّاكَ قَبْلَ الْمَوْتِ إحْدَى الصَّوَاعِقِ
بَسَطْتَ يَمِينًا لِلنَّبِيِّ تَعَمُّدًا … فَأَدْمَيْتُ فَاهُ، قُطِّعَتْ بِالْبَوَارِقِ [٢] فَهَلَّا ذَكَرْتَ اللَّهَ وَالْمَنْزِلَ الَّذِي … تَصِيرُ إلَيْهِ عِنْدَ إحْدَى الْبَوَائِقِ [٣] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتَيْنِ أَقْذَعَ فِيهِمَا.
(ابْنُ السَّكَنِ وَبَلَاؤُهُ يَوْمَ أُحُدٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، حِينَ غَشِيَهُ الْقَوْمُ:
مَنْ رَجُلٌ يَشْرِي لَنَا نَفْسَهُ؟ كَمَا حَدَّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ ابْن مَعَاذٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: فَقَامَ زِيَادُ [٤] بْنُ السَّكَنِ فِي نَفَرٍ خَمْسَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ- وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: إنَّمَا هُوَ عُمَارَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ- فَقَاتَلُوا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، رَجُلًا ثُمَّ رَجُلًا، يُقْتَلُونَ دُونَهُ، حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ زِيَادَ أَوْ عُمَارَةَ، فَقَاتَلَ حَتَّى أَثَبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، ثُمَّ فَاءَتْ فِئَةٌ [٥] مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَأَجْهَضُوهُمْ [٦] عَنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَدْنُوهُ مِنِّي، فَأَدْنَوْهُ مِنْهُ، فَوَسَّدَهُ قَدِمَهُ، فَمَاتَ وَخَدُّهُ عَلَى قَدَمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
(حَدِيثُ أُمِّ سَعْدٍ عَنْ نَصِيبِهَا فِي الْجِهَادِ يَوْمَ أُحُدٍ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَاتَلَتْ أُمُّ عُمَارَةَ، نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ الْمَازِنِيَّةُ يَوْمَ أُحُدٍ.
فَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَّ أُمَّ سَعْدِ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ كَانَتْ تَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ عُمَارَةَ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا خَالَةُ، أَخْبِرِينِي خَبَرَكَ، فَقَالَتْ:
[٢] البوارق: السيوف.
[٣] البوائق: الدَّوَاهِي ومصائب الدَّهْر.
[٤] فِي م، ر: «زيد» .
[٥] الفئة: الْجَمَاعَة.
[٦] أجهضوهم: أزالوهم وغلبوهم.
٦- سيرة ابْن هِشَام- ٢
فَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، انْحَزْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقُمْتُ أُبَاشِرُ الْقِتَالَ، وَأَذُبُّ عَنْهُ بِالسَّيْفِ، وَأَرْمِي عَنْ الْقَوْسِ، حَتَّى خَلَصَتْ الْجِرَاحُ إلَيَّ.
قَالَتْ: فَرَأَيْتُ عَلَى عَاتِقِهَا جُرْحًا أَجْوَفَ لَهُ غَوْرٌ، فَقُلْتُ: مَنْ أَصَابَكَ بِهَذَا؟
قَالَتْ: ابْنُ قَمِئَةَ، أَقْمَأَهُ [٢] اللَّهُ! لَمَّا وَلَّى النَّاسُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَقْبَلَ يَقُولُ: دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ، فَلَا نَجَوْتُ إنْ نَجَا، فَاعْتَرَضْتُ لَهُ أَنَا وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَأُنَاسٌ مِمَّنْ ثَبَتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَضَرَبَنِي هَذِهِ الضَّرْبَةَ وَلَكِنْ فَلَقَدْ ضَرَبْتُهُ عَلَى ذَلِكَ ضَرْبَاتٍ، وَلَكِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ كَانَ عَلَيْهِ دِرْعَانِ.
(أَبُو دُجَانَةَ وَابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَدْفَعَانِ عَنْ الرَّسُولِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَتَرَّسَ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَبُو دُجَانَةَ بِنَفْسِهِ، يَقَعُ النَّبْلُ فِي ظَهْرِهِ، وَهُوَ مُنْحَنٍ عَلَيْهِ، حَتَّى كَثُرَ فِيهِ النَّبْلُ. وَرَمَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. قَالَ سَعْدٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يُنَاوِلُنِي النَّبْلَ وَهُوَ يَقُولُ: ارْمِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، حَتَّى إنَّهُ لَيُنَاوِلُنِي السَّهْمَ مَا لَهُ نَصْلٌ، فَيَقُولُ: ارْمِ بِهِ.
(بَلَاءُ قَتَادَةَ وَحَدِيثُ عَيْنِه):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: رَمَى عَنْ قَوْسِهِ حَتَّى انْدَقَّتْ سِيَتُهَا [٣]، فَأَخَذَهَا قَتَادَةَ بْنُ النُّعْمَانِ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ، وَأُصِيبَتْ يَوْمئِذٍ عَيْنُ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، حَتَّى وَقَعَتْ عَلَى وَجْنَتِهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَدَّهَا بِيَدِهِ، فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ وَأَحَدَّهُمَا.
[٢] أقمأه الله: أذله.
[٣] السية: طرف الْقوس.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ أَخُو بَنِي عدىّ بن لنجّار، قَالَ: انْتَهَى أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فِي رِجَالٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَقَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: مَا يُجْلِسُكُمْ؟ قَالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: فَمَاذَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ؟ (قُومُوا) [١] فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَبَهْ سُمِّيَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي حُمَيْدُ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا بِأَنَسِ بْنِ النَّضْرِ يَوْمئِذٍ سَبْعِينَ ضَرْبَةً، فَمَا عَرَفَهُ إلَّا أُخْتُهُ، عَرَفَتْهُ بِبَنَاتِهِ.
(مَا أَصَابَ ابْنَ عَوْفٍ مِنْ الْجِرَاحَاتِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أُصِيبَ فُوهُ يَوْمئِذٍ فَهُتِمَ [٢]، وَجُرِحَ عِشْرِينَ جِرَاحَةً أَوْ أَكْثَرَ، أَصَابَهُ بَعْضُهَا فِي رِجْلِهِ فَعَرِجَ.
(أَوَّلُ مَنْ عَرَفَ الرَّسُولَ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَرَفَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ، وَقَوْلُ النَّاسِ: قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، كَمَا ذَكَرَ لِي ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: عَرَفْتُ عَيْنَيْهِ تَزْهَرَانِ [٣] مِنْ تَحْتِ الْمِغْفَرِ، فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَبْشِرُوا، هَذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَأَشَارَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَنْ أَنْصِتْ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَضُوا بِهِ، وَنَهَضَ مَعَهُمْ نَحْوَ الشِّعْبِ، مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ، وَرَهْطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
[٢] همّ: كسرت ثنيته.
[٣] تزهران: تضيئان.
(قَالَ) [١]: فَلَمَّا أُسْنِدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الشِّعْبِ أَدْرَكَهُ أُبَيُّ ابْن خَلَفٍ وَهُوَ يَقُولُ: أَيْ [٢] مُحَمَّدُ، لَا نَجَوْتُ إنْ نَجَوْتَ، فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَعْطِفُ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَّا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: دَعُوهُ، فَلَمَّا دَنَا، تَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْحَرْبَةَ مِنْ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ، يَقُولُ بَعْضُ الْقَوْمِ، فِيمَا ذُكِرَ لِي: فَلَمَّا أَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْهُ انْتَفَضَ بِهَا انْتِفَاضَةً، تَطَايَرْنَا عَنْهُ تَطَايُرَ الشَّعْرَاءِ عَنْ ظَهْرِ الْبَعِيرِ إذَا انْتَفَضَ بِهَا- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الشَّعْرَاءُ: ذُبَابٌ لَهُ لَدْغٌ- ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُ فَطَعَنَهُ فِي عُنُقِهِ طَعْنَةً تَدَأْدَأَ مِنْهَا عَنْ فَرَسِهِ مِرَارًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَدَأْدَأَ، يَقُولُ: تَقَلَّبَ عَنْ فَرَسِهِ فَجَعَلَ يَتَدَحْرَجُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، كَمَا حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، يَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِمَكَّةَ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ عِنْدِي الْعَوْذَ، فَرَسًا أَعْلِفُهُ كُلَّ يَوْمٍ فَرَقًا [٣] مِنْ ذُرَةٍ، أَقْتُلُكَ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمَّا رَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ وَقَدْ خَدَشَهُ فِي عُنُقِهِ خَدْشًا غَيْرَ كَبِيرٍ، فَاحْتَقَنَ الدَّمُ، قَالَ: قَتَلَنِي وَاَللَّهِ مُحَمَّدٌ! قَالُوا لَهُ: ذَهَبَ وَاَللَّهِ فُؤَادُكَ! وَاَللَّهِ إنْ بِكَ مِنْ بَأْسٍ، قَالَ: إنَّهُ قَدْ كَانَ قَالَ لِي بِمَكَّةَ: أَنا أَقْتلك، فو الله لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي. فَمَاتَ عدوّ الله بسرف [٤] وَهُمْ قَافِلُونَ بِهِ إلَى مَكَّةَ.
(شِعْرُ حَسَّانَ فِي مَقْتَلِ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ:
لَقَدْ وَرِثَ الضَّلَالَةَ عَنْ أَبِيهِ … أُبَيٌّ يَوْمَ بَارَزَهُ الرَّسُولُ
[٢] فِي أ: «أَي» وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أَيْن» .
[٣] الْفرق (بِفَتْح الرَّاء وإسكانها): مكيال يسع سِتَّة عشر منا، وَقيل: اثنى عشر رطلا.
[٤] سرف: مَوضِع على سِتَّة أَمْيَال من مَكَّة، وَقيل، سَبْعَة وَتِسْعَة واثنى عشر، تزوج بِهِ رَسُول الله ﷺ مَيْمُونَة بنت الْحَارِث، وَهُنَاكَ بنى بهَا، وَهُنَاكَ توفيت. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
وَتَبَّ ابْنَا رَبِيعَةَ إذْ أَطَاعَا … أَبَا جَهْلٍ، لِأُمِّهِمَا الْهَبُولُ [٣] وَأَفْلَتْ حَارِثٌ لَمَّا شَغَلْنَا … بِأَسْرِ الْقَوْمِ، أُسْرَتُهُ فَلَيْلُ [٤] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أُسْرَتُهُ: قَبِيلَتُهُ.
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا فِي ذَلِكَ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي أُبَيَّا … لَقَدْ أُلْقِيَتْ فِي سُحْقِ السَّعِيرِ [٥] تَمَنَّى بِالضَّلَالَةِ مِنْ بَعِيدٍ … وَتُقْسِمُ أَنْ قَدَرْتُ مَعَ [٦] النُّذُورِ
تَمَنِّيكَ الْأَمَانِيِّ مِنْ بَعِيدٍ … وَقَوْلُ الْكُفْرِ يَرْجِعُ فِي غُرُورِ
فَقَدْ لَاقَتْكَ طَعْنَةُ ذِي حِفَاظٍ … كَرِيمِ الْبَيْتِ لَيْسَ بِذِي فُجُورِ [٧] لَهُ فَضْلٌ عَلَى الْأَحْيَاءِ طُرَّا … إذَا نَابَتْ مُلِمَّاتُ الْأُمُورِ
(انْتِهَاءُ الرَّسُولِ إلَى الشِّعْبِ):
(قَالَ) [٨]: فَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى فَمِ الشِّعْبِ خَرَجَ عَلِيُّ ابْن أَبِي طَالِبٍ، حَتَّى مَلَأَ دَرَقَتَهُ مَاءً مِنْ الْمِهْرَاسِ [٩]، فَجَاءَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِيَشْرَبَ مِنْهُ، فَوَجَدَ لَهُ رِيحًا، فَعَافَهُ [١٠]، فَلَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ، وَغَسَلَ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ، وَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ نَبِيِّهِ
[٢] فِي أ: «إِن» .
[٣] تب: هلك. والهبول: الْفَقْد، يُقَال: هبلته أمه، أَي فقدته.
[٤] الفليل: المنهزمون. ويروى. «قَلِيل» بِالْقَافِ، وَهُوَ مَعْلُوم.
[٥] السحق: الْبعد والعمق.
[٦] فِي م، ر: «على» .
[٧] الْحفاظ: الْغَضَب فِي الْحَرْب.
[٨] زِيَادَة عَن أ.
[٩] قَالَ أَبُو ذَر: «قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: المهراس: مَاء بِأحد. وَقَالَ غَيره: المهراس: حجر ينقر وَيجْعَل إِلَى جَانب الْبِئْر، وَيصب فِيهِ المَاء لينْتَفع بِهِ النَّاس» .
[١٠] عافه: كرهه.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: وَاَللَّهِ مَا حَرَصْتُ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ قَطُّ كَحِرْصِي عَلَى قَتْلِ عُتْبَةَ ابْن أَبِي وَقَّاصٍ، وَإِنْ كَانَ مَا عَلِمْتُ لِسَيِّئِ الْخَلْقِ مُبْغَضًا فِي قَوْمِهِ، وَلَقَدْ كَفَانِي مِنْهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ رَسُولِهِ.
(صُعُودُ قُرَيْشٍ الْجَبَلَ وَقِتَالُ عُمَرَ لَهُمْ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالشِّعْبِ، مَعَهُ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ، إذْ عَلَتْ عَالِيَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ الْجَبَلَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: كَانَ عَلَى تِلْكَ الْخَيْلِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اللَّهمّ إنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا! فَقَاتَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَرَهْطٌ مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى أَهْبَطُوهُمْ مِنْ الْجَبَلِ.
(ضَعْفُ الرَّسُولِ عَنْ النُّهُوضِ وَمُعَاوَنَةُ طَلْحَةَ لَهُ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى صَخْرَةٍ مِنْ الْجَبَلِ لِيَعْلُوَهَا، وَقَدْ كَانَ بَدُنَ [١] رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَنْهَضَ ﷺ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَجَلَسَ تَحْتَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَنَهَضَ بِهِ، حَتَّى اسْتَوَى عَلَيْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، كَمَا حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَوْمئِذٍ يَقُولُ: أَوْجَبَ [٢] طَلْحَةُ حِينَ صَنَعَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَا صَنَعَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَبْلُغْ الدَّرَجَةَ الْمَبْنِيَّةَ فِي الشِّعْبِ.
[٢] أوجب: وَجَبت لَهُ الْجنَّة.
قَالَ ابْنُ هِشَام: وَذكر عمره ولى غُفْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ أُحُدٍ قَاعِدًا مِنْ الْجِرَاحِ الَّتِي أَصَابَتْهُ، وَصَلَّى الْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُ قُعُودًا.
(مَقْتَلُ الْيَمَانِ وَابْنِ وَقْشٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ النَّاسُ انْهَزَمُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى انْتَهَى بَعْضُهُمْ إلَى الْمُنَقَّى، دُونَ الْأَعْوَصِ [١] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ:
لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى أُحُدٍ، رَفَعَ حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ، وَهُوَ الْيَمَانُ [٢] أَبُو حُذَيْفَةَ [٣] بْنُ الْيَمَانِ، وَثَابِتُ بْنُ وَقْشٍ فِي الْآطَامِ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانِ: مَا أَبَا لَكَ، مَا تنْتَظر؟ فو الله لَا بَقِيَ لِوَاحِدِ مِنَّا مِنْ عُمْرِهِ إلَّا ظِمْءُ [٤] حِمَارٍ، إنَّمَا نَحْنُ هَامَةُ [٥] الْيَوْمِ أَوْ غَدٍ، أَفَلَا نَأْخُذُ أَسْيَافَنَا، ثُمَّ نَلْحَقُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لَعَلَّ اللَّهَ يَرْزُقُنَا شَهَادَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ فَأَخَذَا أَسْيَافَهُمَا ثُمَّ خَرَجَا، حَتَّى دَخَلَا فِي النَّاسِ، وَلَمْ يُعْلَمْ بِهِمَا، فَأَمَّا ثَابِتُ بْنُ وَقْشٍ فَقَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَمَّا حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ، فَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ أَسْيَافُ الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلُوهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ [٦]، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَبِي [٧]، فَقَالُوا: وَاَللَّهِ إنْ عَرَفْنَاهُ، وَصَدَقُوا. قَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ
[٢] قَالَ السهيليّ: «وسمى حسيل بن جَابر: الْيَمَانِيّ، لِأَنَّهُ من ولد جروة بن مَازِن بن قطيعة بن عبس، وَكَانَ جروة قد بعد عَن أَهله فِي الْيمن زَمنا طَويلا ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِم فَسَموهُ الْيَمَانِيّ» .
[٣] ويكنى حُذَيْفَة: أَبَا عبد الله، وَهُوَ حَلِيف لبني عبد الْأَشْهَل. وَأمه الربَاب بنت كَعْب. (رَاجع الرَّوْض) .
[٤] الظمء: مِقْدَار مَا يكون بَين الشربتين. وأقصر الأظماء ظمء الْحمار، لِأَنَّهُ لَا يصبر عَن المَاء، فَضرب مثلا لقرب الْأَجَل.
[٥] الهامة: طَائِر يخرج من رَأس الْقَتِيل إِذا قتل (زَعَمُوا) فَلَا يزَال يَصِيح: اسقوني اسقوني! حَتَّى يُؤْخَذ بثأره فضربته الْعَرَب مثلا للْمَوْت.
[٦] قيل إِن الّذي قَتله خطأ هُوَ عتبَة بن مَسْعُود، أَخُو عبد الله بن مَسْعُود، وجد عبد الله بن عبد الله ابْن عتبَة بن مَسْعُود الْفَقِيه. وَعتبَة هَذَا هُوَ أول من سمى الْمُصحف مُصحفا.
[٧] فِي م، ر: «أَبى وَالله» .
(مَقْتَلُ حَاطِبٍ وَمَقَالَةُ أَبِيهِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ كَانَ يُدْعَى حَاطِبَ بْنَ أُمِّيَّةَ بْنِ رَافِعٍ، وَكَانَ لَهُ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ بْنُ حَاطِبٍ، أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأُتِيَ بِهِ إلَى دَارِ قَوْمِهِ وَهُوَ بِالْمَوْتِ، فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ أَهْلُ الدَّارِ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ لَهُ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ: أَبْشِرْ يَا بن حَاطِبٍ بِالْجَنَّةِ، قَالَ: وَكَانَ حَاطِبٌ شَيْخًا قَدْ عَسَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَجَمَ يَوْمئِذٍ نِفَاقُهُ، فَقَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ تُبَشِّرُونَهُ؟ بِجَنَّةٍ مِنْ حَرْمَلٍ [١] ! غَرَرْتُمْ وَاَللَّهِ هَذَا الْغُلَامَ مِنْ نَفْسِهِ.
(مَقْتَلُ قُزْمَانَ مُنَافِقًا كَمَا حَدَّثَ الرَّسُولُ بِذَلِكَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ فِينَا رَجُلٌ أَتَى [٢] لَا يُدْرَى مِمَّنْ هُوَ، يُقَالُ لَهُ: قُزْمَانُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ، إذَا ذُكِرَ لَهُ: إنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقَتَلَ وَحْدَهُ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ ذَا بَأْسٍ، فَأَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، فَاحْتُمِلَ إلَى دَارِ بَنِي ظَفَرٍ، قَالَ: فَجَعَلَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ لَهُ: وَاَللَّهِ لَقَدْ أَبْلَيْتَ الْيَوْمَ يَا قُزْمَانُ، فأبشر، قَالَ: بِمَاذَا أبشر؟ فو الله إنْ قَاتَلْتُ إلَّا عَنْ أَحْسَابِ قَوْمِي، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا قَاتَلْتُ. قَالَ: فَلَمَّا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ جِرَاحَتُهُ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فَقَتَلَ بِهِ نَفْسَهُ.
(قَتْلُ مُخَيْرِيقٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ مُخَيْرِيقَ، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ الْفِطْيُونِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ نَصْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ لَحَقٌّ، قَالُوا: إنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ، قَالَ: لَا سَبْتَ لَكُمْ.
[٢] أَتَى: غَرِيب.
(أَمْرُ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ صَامَتْ مُنَافِقًا، فَخَرَجَ يَوْمَ أُحُدٍ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ، عَدَا عَلَى الْمُجَذَّرِ بْنِ ذِيَادٍ الْبَلَوِيِّ، وَقَيْسِ بْنِ زَيْدٍ، أَحَدِ بَنِي ضُبَيْعَةَ، فَقَتَلَهُمَا، ثُمَّ لَحِقَ بِمَكَّةَ بِقُرَيْشٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيمَا يَذْكُرُونَ- قَدْ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِقَتْلِهِ إنْ هُوَ ظَفِرَ بِهِ، فَفَاتَهُ، فَكَانَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ بَعَثَ إلَى أَخِيهِ الْجُلَاسِ بْنِ سُوَيْدٍ يَطْلُبُ التَّوْبَةَ، لِيَرْجِعَ إلَى قَوْمِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، فِيمَا بَلَغَنِي، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:
«كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ، وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ، وَالله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ٣: ٨٦» إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
(تَحْقِيقُ ابْنِ هِشَامٍ فِيمَنْ قَتَلَ الْمُجَذَّرَ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ قَتَلَ الْمُجَذَّرَ بْنَ ذِيَادٍ، وَلَمْ يَقْتُلْ قِيسَ بْنَ زَيْدٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ ابْنَ إسْحَاقَ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي قَتْلَى أُحُدٍ، وَإِنَّمَا قَتَلَ الْمُجَذَّرَ، لِأَنَّ الْمُجَذَّرَ بْنَ ذِيَادٍ كَانَ قَتَلَ أَبَاهُ سُوَيْدًا فِي بَعْضِ الْحُرُوبِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.
فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، إذْ خَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ مِنْ بَعْضِ حَوَائِطِ الْمَدِينَةِ، وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُضَرَّجَانِ [١]، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَيُقَالُ: بَعْضُ الْأَنْصَارِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَتَلَ سُوَيْدَ بْنَ الصَّامِتِ مَعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ غِيلَةً، فِي غَيْرِ حَرْبٍ رَمَاهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ قَبْلَ يَوْمِ بُعَاثٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مَعَاذٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ يَقُولُ: حَدِّثُونِي عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَمْ يُصَلِّ قَطُّ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ سَأَلُوهُ: مَنْ هُوَ؟ فَيَقُولُ:
أُصَيْرِمٌ، بَنِي [١] عَبْدِ الْأَشْهَلِ، عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ. قَالَ الْحُصَيْنُ: فَقُلْتُ لِمَحْمُودِ بْنِ أَسَدٍ: كَيْفَ كَانَ شَأْنُ الْأُصَيْرِمِ؟ قَالَ: كَانَ يَأْبَى الْإِسْلَامَ عَلَى قَوْمِهِ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى أُحُدٍ، بَدَا لَهُ فِي الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ، فَعَدَا حَتَّى دَخَلَ فِي عُرْضِ النَّاسِ، فَقَاتَلَ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ. قَالَ: فَبَيْنَا رِجَالٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَلْتَمِسُونَ قَتَلَاهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ إذَا هُمْ بِهِ، فَقَالُوا: وَاَللَّهِ إنَّ هَذَا لَلْأُصَيْرِمُ، مَا جَاءَ بِهِ؟ لَقَدْ تَرَكْنَاهُ وَإِنَّهُ لِمُنْكِرٍ لِهَذَا الْحَدِيثَ، فَسَأَلُوهُ مَا جَاءَ بِهِ، فَقَالُوا: مَا جَاءَ بِكَ يَا عَمْرُو؟ أَحَدَبٌ عَلَى قَوْمِكَ أَمْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: بَلْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، آمَنْتُ باللَّه وَبِرَسُولِهِ وَأَسْلَمْتُ، ثُمَّ أَخَذْتُ سَيْفِي، فَغَدَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَاتَلْتُ حَتَّى أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ فِي أَيْدِيهِمْ. فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: إنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
(مَقْتَلُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ كَانَ رَجُلًا أَعْرَجَ شَدِيدَ الْعَرَجِ، وَكَانَ لَهُ بَنُونَ أَرْبَعَةٌ مِثْلَ الْأُسْدِ، يَشْهَدُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْمَشَاهِدَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَرَادُوا حَبْسَهُ، وَقَالُوا لَهُ: إنَّ اللَّهَ عز وجل: قَدْ عَذَرَكَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: إنَّ بَنِيَّ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْبِسُونِي عَنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْخُرُوجِ مَعَك فِيهِ، فو الله إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَطَأَ بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ عَذَرَكَ اللَّهُ فَلَا جِهَادَ عَلَيْكَ، وَقَالَ لِبَنِيهِ:
(هِنْدُ وَتَمْثِيلُهَا بِحَمْزَةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَوَقَعَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، كَمَا حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَالنِّسْوَةُ اللَّاتِي مَعَهَا، يُمَثِّلْنَ بِالْقَتْلَى مِنْ أَصْحَابِ رَسُول الله ﷺ، يجدّ عَن [٢] الْآذَانَ وَالْأُنُفَ، حَتَّى اتَّخَذَتْ هِنْدُ مِنْ آذَانِ الرِّجَالِ وَآنُفِهِمْ خَدَمًا [٣] وَقَلَائِدَ، وَأَعْطَتْ خَدَمَهَا وَقَلَائِدَهَا وَقِرَطَتَهَا وَحْشِيًّا، غُلَامَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَبَقَرَتْ [٤] عَنْ كَبِدِ حَمْزَةَ، فَلَاكَتْهَا [٥]، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُسِيغَهَا [٦]، فَلَفَظَتْهَا [٧]، ثُمَّ عَلَتْ عَلَى صَخْرَةٍ مُشْرِفَةٍ، فَصَرَخَتْ بِأَعْلَى صَوْتِهَا فَقَالَتْ:
نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَدْرٍ … وَالْحَرْبُ بَعْدَ الْحَرْبِ ذَاتِ سُعْرِ [٨]
مَا كَانَ عَنْ عُتْبَةَ لِي مِنْ صَبْرِ … وَلَا أَخِي وَعَمِّهِ وَبَكْرِي
شَفَيْتُ نَفْسِي وَقَضَيْتُ نَذْرِي … شَفَيْتَ وَحْشِيُّ غَلِيلَ صَدْرِي [٩]
فَشُكْرُ وَحْشِيٍّ عَلَيَّ عُمْرِي … حَتَّى تَرُمَّ أَعْظُمِي فِي قَبْرِي [١٠]
(شِعْرُ هِنْدَ بِنْتِ أُثَاثَةَ فِي الرَّدِّ عَلَى هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ):
فَأَجَابَتْهَا هِنْدُ بِنْتُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَتْ:
خَزِيتُ فِي بَدْرٍ وَبَعْدَ بدر … يَا بت وَقَّاعٍ عَظِيمِ الْكُفْرِ [١١]
[٢] يجدعن: يقطعن.
[٣] الخدم: جمع خدمَة، وَهِي الخلخال.
[٤] بقرت: شقَّتْ.
[٥] لاكتها: مضغتها.
[٦] أَن تسيغها: أَن تبتلعها.
[٧] لفظتها: طرحتها.
[٨] السّعر (بِضَمَّتَيْنِ وَسكن للشعر): الالتهاب.
[٩] الغليل: الْعَطش، أَو حرارة الْجوف.
[١٠] ترم: تبلى وتفتت.
[١١] الوقاع، الْكثير الْوُقُوع فِي الدُّنْيَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْنَا مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ أَقْذَعَتْ فِيهَا.
(شِعْرُ لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ أَيْضًا):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ أَيْضًا:
شَفَيْتُ مِنْ حَمْزَةَ نَفْسِي بِأُحُدْ … حَتَّى بَقَرْتُ بَطْنَهُ عَنِ الْكَبِدْ
أَذْهَبَ عَنِّي ذَاكَ مَا كُنْتُ أَجِدْ … مِنْ لَذْعَةِ الْحُزْنِ الشَّدِيدِ الْمُعْتَمِدْ [٤]
وَالْحَرْبُ تَعْلُوكُمْ بِشَؤْبُوبِ بَرِدْ … تُقْدِمُ إقْدَامًا عَلَيْكُمْ كَالْأَسَدْ [٥]
(تَحْرِيضُ عُمَرَ لِحَسَّانَ عَلَى هَجْوِ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ أَنَّهُ حُدِّثَ: أَنَّ عُمْرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: يَا بن الْفُرَيْعَةِ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْفُرَيْعَةُ بِنْتُ خَالِدِ بْنِ خُنَيْسٍ، وَيُقَالُ: خُنَيْسٌ: ابْنُ حَارِثَةَ بْنِ لَوْذَانَ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ- لَوْ سَمِعْتَ مَا تَقُولُ هِنْدُ، وَرَأَيْتُ أَشْرَهَا [٦] قَائِمَةً عَلَى صَخْرَةٍ تَرْتَجِزُ بِنَا، وَتَذْكُرُ مَا صَنَعَتْ بِحَمْزَةِ؟ قَالَ لَهُ حَسَّانُ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَنْظُرُ إلَى الْحَرْبَةِ تَهْوِي وَأَنَا عَلَى رَأْسِ فَارِعٍ- يَعْنِي أُطُمَهُ- فَقُلْتُ: وَاَللَّهِ إنَّ هَذِهِ لَسِلَاحٌ مَا هِيَ بِسِلَاحِ الْعَرَبِ، وَكَأَنَّهَا إنَّمَا تهوى إِلَى جمزة وَلَا أَدْرِي، لَكِنْ
[٢] الحسام: السَّيْف الْقَاطِع. ويفرى: يقطع.
[٣] شيب: أَرَادَت شيبَة. فرخمته فِي غير النداء. وضواحي النَّحْر: مَا ظهر من الصَّدْر.
[٤] اللذعة: ألم النَّار، أَو مَا يشبه بهَا. وَالْمُعْتَمد: القاصد المؤلم.
[٥] الشؤبوب: دفْعَة الْمَطَر الشَّدِيدَة. وَبرد، أَي ذُو برد، شبهت الْحَرْب بهَا.
[٦] الأشر: البطر.
أَشْرَتْ لَكَاعُ وَكَانَ عَادَتُهَا … لُؤْمًا إذَا أَشْرَتْ مَعَ الْكُفْرِ [١] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ تَرَكْنَاهَا، وَأَبْيَاتًا أَيْضًا لَهُ عَلَى الدَّالِ.
وَأَبْيَاتًا أُخَرَ عَلَى الذَّالِ، لِأَنَّهُ أَقْذَعَ فِيهَا.
(اسْتِنْكَارُ الْحُلَيْسِ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ تَمْثِيلَهُ بِحَمْزَةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ الْحُلَيْسُ بْنُ زَبَّانٍ، أَخُو بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ، وَهُوَ يَوْمئِذٍ سَيِّدُ الْأُبَيْشِ، قَدْ مَرَّ بِأَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ يَضْرِبُ فِي شَدْقِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِزُجِّ الرُّمْحِ وَيَقُولُ: ذُقْ [٢] عُقَقُ، فَقَالَ الْحُلَيْسُ: يَا بَنِي كِنَانَةَ، هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ يَصْنَعُ بِابْنِ عَمِّهِ مَا تَرَوْنَ لَحْمًا [٣]؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ! اُكْتُمْهَا عَنِّي، فَإِنَّهَا كَانَتْ زَلَّةً.
(شَمَاتَةُ أَبِي سُفْيَانَ بِالْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أُحُدٍ وَحَدِيثُهُ مَعَ عُمَرَ):
ثُمَّ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، حِينَ أَرَادَ الِانْصِرَافَ، أَشْرَفَ عَلَى الْجَبَلِ، ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ فَقَالَ: أَنْعَمْتَ فَعَالِ [٤]، وَإِنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ [٥] يَوْمٌ بِيَوْمِ، أُعْلُ هُبَلُ [٦]، أَيْ أَظْهِرْ دِينَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قُمْ يَا عُمَرُ فَأَجِبْهُ، فَقُلْ: اللَّهُ أَعَلَى وَأَجَلُّ، لَا سَوَاءَ [٧]، قَتَلَانَا فِي الْجَنَّةِ، وَقَتْلَاكُمْ
[٢] ذُقْ عُقُق، أَرَادَ ياعاق، فعدله إِلَى فعل.
[٣] لَحْمًا: أَي مَيتا لَا يقدر على الِانْتِصَار.
[٤] أَنْعَمت فعال، أَي بالغت، يُقَال: أنعم فِي الشَّيْء، إِذا بَالغ فِيهِ. قَالَ أَبُو ذَر. «أَنْعَمت (بِفَتْح التَّاء) يُخَاطب بِهِ نَفسه. وَمن رَوَاهُ أَنْعَمت (بِسُكُون التَّاء)، فَإِنَّهُ يعْنى بِهِ الْحَرْب أَو الوقيعة. وَقَوله فعال، أَي ارْتَفع (بِصِيغَة الْأَمر فيهمَا) يُقَال: أعل عَن الوسادة، وَعَاد عَنْهَا، أَي ارْتَفع. وَقد يجوز أَن تكون معدولة من الفعلة، كَمَا عدلوا فجار عَن الفجرة، أَي بالغت فِي هَذِه الفعلة، ويعنى بالفعلة الوقيعة»
[٥] السجال: الْمُكَافَأَة فِي الْحَرْب وَغَيرهَا وَأَصله أَن السَّاقَيْن على بِئْر يتساجلان يمْلَأ هَذَا سجلا.
وَهَذَا سجلا. والسجل: الدَّلْو.
[٦] هُبل: اسْم صنم.
[٧] لَا سَوَاء أَي لَا نَحن سَوَاء. قَالَ السهيليّ: «وَلَا يجوز دُخُول (لَا) على اسْم مبتدإ معرفَة إِلَّا مَعَ التّكْرَار وَلكنه جَازَ فِي هَذَا الْموضع لِأَن الْقَصْد فِيهِ إِلَى نفى الْفِعْل: أَي لَا نستوى.
(تَوَعُّدُ أَبِي سُفْيَانَ الْمُسْلِمِينَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ نَادَى أَبُو سُفْيَانَ: إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي قَتْلَاكُمْ مُثُلٌ، وَاَللَّهِ مَا رَضِيتُ، وَمَا سَخِطْتُ، وَمَا نَهَيْتُ، وَمَا أَمَرْتُ.
وَلَمَّا انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ، نَادَى: إنَّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ لِلْعَامِ الْقَابِلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِرَجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ: قُلْ: نَعَمْ، هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدٌ.
(خُرُوجُ عَلِيٍّ فِي آثَارِ الْمُشْرِكِينَ):
ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: اُخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَا يُرِيدُونَ فَإِنْ كَانُوا قَدْ جَنَّبُوا الْخَيْلَ [١]، وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مَكَّةَ، وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنَّ إلَيْهِمْ فِيهَا، ثُمَّ لَأُنَاجِزَنَّهُمْ قَالَ عَلِيٌّ: فَخَرَجْتُ فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ، فَجَنَّبُوا الْخَيْلَ، وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ، وَوَجَّهُوا إِلَى مَكَّة.
(مر الْقَتْلَى بِأُحُدِ):
وَفَرَغَ [٢] النَّاسُ لِقَتْلَاهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيَّ، أَخُو بَنِي النَّجَّارِ: مَنْ رَجُلٌ يَنْظُرُ لِي مَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ؟ أَفِي الْأَحْيَاءِ هُوَ أَمْ فِي الْأَمْوَاتِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ
[٢] ويروى: «فزع» أَي خَافُوا لَهُم وَلم يشتغلوا بِشَيْء سواهُم.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الزُّبَيْرِيُّ: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَبِنْتٌ لِسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ جَارِيَةٌ صَغِيرَةٌ عَلَى صَدْرِهِ يَرْشُفُهَا [٣] وَيُقَبِّلُهَا، فَقَالَ لَهَ الرَّجُلُ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَذِهِ بِنْتُ رَجُلٍ خَيْرٍ مِنِّي، سَعْدِ ابْن الرَّبِيعِ، كَانَ مِنْ النُّقَبَاءِ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، وَشَهِدَ بَدْرًا، وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ
(حُزْنُ الرَّسُولِ عَلَى حَمْزَةَ وَتَوَعُّدُهُ الْمُشْرِكِينَ بِالْمُثْلَةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فِيمَا بَلَغَنِي، يَلْتَمِسُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَوَجَدَهُ بِبَطْنِ الْوَادِي قَدْ بُقِرَ بَطْنُهُ عَنْ كَبِدِهِ، وَمُثِّلَ بِهِ، فَجُدِعَ أَنْفُهُ وَأُذُنَاهُ.
فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ حِينَ رَأَى مَا رَأَى: لَوْلَا أَنْ تَحْزَنَ صَفِيَّةُ، وَيَكُونُ سُنَّةً مِنْ بَعْدِي لَتَرَكْتُهُ، حَتَّى يَكُونَ فِي بِطُونِ السِّبَاعِ، وَحَوَاصِلِ الطَّيْرِ، وَلَئِنْ أَظْهَرنِي اللَّهُ عَلَى قُرَيْشٍ
يَا سعد بن الرّبيع، مرّة بعد مرّة، فَلم يجبهُ أحد، حَتَّى قَالَ: يَا سعد، إِن رَسُول الله ﷺ أرسلنى انْظُر مَا صنعت، فَأَجَابَهُ حِينَئِذٍ بِصَوْت ضَعِيف وَذكر الحَدِيث. وَهَذَا خلاف مَا ذكره أَبُو عمر فِي كتاب الصَّحَابَة، فَإِنَّهُ ذكر فِيهِ من طَرِيق ربيح بن عبد الرَّحْمَن بن أَبى سعيد الخدريّ عَن أَبِيه عَن جده أَن الرجل الّذي التمس سَعْدا فِي الْقَتْلَى هُوَ ابْن أَبى كَعْب» .
[٢] يُقَال: طرف بِعَيْنِه يطرف: إِذا ضرب بجفن عينه الْأَعْلَى على جفن عينه الْأَسْفَل.
[٣] يرشفها: يمص رِيقهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَلَمَّا وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى حَمْزَةَ قَالَ:
لَنْ أُصَابَ بِمِثْلِكَ أَبَدًا! مَا وَقَفْتُ مَوْقِفًا قَطُّ أَغْيَظَ إلَيَّ مِنْ هَذَا! ثُمَّ قَالَ: جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَكْتُوبٌ فِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ: حَمْزَةُ ابْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَسَدُ اللَّهِ، وَأَسَدُ رَسُولِهِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَحَمْزَةُ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ، إخْوَةٌ مِنْ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْهُمْ مَوْلَاةٌ لِأَبِي لَهَبٍ [١] .
(مَا نَزَلَ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُثْلَةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ فَرْوَةَ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ اللَّهَ عز وجل أَنْزَلَ فِي ذَلِكَ، مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَوْلِ أَصْحَابِهِ: «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا باللَّه، وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ»، فَعَفَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَصَبَرَ وَنَهَى عَنْ الْمُثْلَةِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي حُمَيْدُ الطَّوِيلُ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ: مَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي مَقَامٍ قَطُّ فَفَارَقَهُ، حَتَّى يَأْمُرَنَا بِالصَّدَقَةِ، وَيَنْهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ [٢] .
[٢] قَالَ السهيليّ: «وَهُوَ حَدِيث صَحِيح فِي النهى عَن الْمثلَة، فَإِن قيل: فقد مثل رَسُول الله ﷺ بالعرنيين فَقطع أَيْديهم وأرجلهم، وسمل أَعينهم، وتركهم بِالْحرَّةِ؟ قُلْنَا: فِي ذَلِك جوابان: أَحدهمَا أَنه فعل ذَلِك قصاصا لأَنهم قطعُوا أَيدي الرعاء وأرجلهم وسملوا أَعينهم، وَقيل إِن ذَلِك قبل تَحْرِيم الْمثلَة، فَإِن قيل: فقد تَركهم يستسقون فَلَا يسقون حَتَّى مَاتُوا عطاشا. قُلْنَا: عطشهم لأَنهم عطشوا أهل بَيت النَّبِي ﷺ تِلْكَ اللَّيْلَة،.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ مِقْسَمٍ، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِحَمْزَةِ فَسُجِّيَ [١] بِبُرْدَةِ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ، فَكَبَّرَ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ أُتِيَ بِالْقَتْلَى فَيُوضَعُونَ إلَى حَمْزَةَ، فَصَلَّى عَلَيْهِمْ وَعَلَيْهِ مَعَهُمْ، حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ صَلَاةً [٢] .
(صَفِيَّةُ وَحُزْنُهَا عَلَى حَمْزَةَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ أَقْبَلَتْ فِيمَا بَلَغَنِي، صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِتَنْظُرَ إلَيْهِ، وَكَانَ أَخَاهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِابْنِهَا الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ: الْقَهَا فَأَرْجِعْهَا، لَا تَرَى مَا بِأَخِيهَا، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّهُ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَأْمُرُكَ أَنْ تَرْجِعِي، قَالَتْ: وَلِمَ؟ وَقَدْ بَلَغَنِي أَنْ قَدْ مُثِّلَ بِأَخِي، وَذَلِكَ فِي اللَّهِ، فَمَا أَرْضَانَا بِمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ! لَأَحْتَسِبَنَّ وَلَأَصْبِرَنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَلَمَّا جَاءَ الزُّبَيْرُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، قَالَ: خَلِّ سَبِيلَهَا، فَأَتَتْهُ، فَنَظَرَتْ إلَيْهِ، فَصَلَّتْ عَلَيْهِ، وَاسْتَرْجَعَتْ [٣]، وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَدُفِنَ.
(دَفْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ مَعَ حَمْزَةَ):
قَالَ: فَزَعَمَ لِي آلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ- وَكَانَ لِأُمَيْمَةِ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، حَمْزَةُ خَالُهُ، وَقَدْ كَانَ مُثِّلَ بِهِ كَمَا مُثِّلَ بِحَمْزَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُبْقَرْ عَنْ كَبِدِهِ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَفَنَهُ مَعَ حَمْزَةَ فِي قَبْرِهِ، وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ إلَّا عَنْ أَهْلِهِ
[٢] قَالَ السهيليّ: «وَلم يَأْخُذ بِهَذَا الحَدِيث فُقَهَاء الْحجاز وَلَا الْأَوْزَاعِيّ لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا ضعف إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث. قَالَ ابْن إِسْحَاق: حَدثنِي من لَا أتهم يعْنى الْحسن بن عمَارَة فِيمَا ذكرُوا وَلَا خلاف فِي ضعف الْحسن بن عمَارَة عِنْد أهل الحَدِيث، وَأَكْثَرهم لَا يرونه شَيْئا، وَإِن كَانَ الّذي قَالَ فِيهِ ابْن إِسْحَاق حَدثنِي من لَا أتهم غير الْحسن، فَهُوَ مَجْهُول، وَالْجهل يوبقه.
وَالْوَجْه الثَّانِي، أَنه حَدِيث لم يَصْحَبهُ الْعَمَل، وَلَا يرْوى عَن رَسُول الله ﷺ أَنه صلى على شَهِيد فِي شَيْء من مغازيه إِلَّا هَذِه الرِّوَايَة فِي غَزْوَة أحد، وَكَذَلِكَ فِي مُدَّة الخليفتين، إِلَّا أَن يكون الشَّهِيد مرتثا من المعركة» .
[٣] استرجعت: قَالَت: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ٢: ١٥٦.
٧- سيرة ابْن هِشَام- ٢
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ قَدْ احْتَمَلَ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَتْلَاهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ، فَدَفَنُوهُمْ بِهَا، ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: ادْفِنُوهُمْ حَيْثُ صُرِعُوا. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ الْعُذْرِيِّ، حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْقَتْلَى يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ، إنَّهُ مَا مِنْ جَرِيحٍ يُجْرَحُ فِي اللَّهِ، إلَّا وَاَللَّهُ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى جُرْحُهُ، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ، اُنْظُرُوا أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ جَمْعًا لِلْقُرْآنِ، فَاجْعَلُوهُ أَمَامَ أَصْحَابِهِ فِي الْقَبْرِ- وَكَانُوا يَدْفِنُونَ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَمِّي مُوسَى بْنُ يَسَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ﷺ: مَا مِنْ جَرِيحٍ يُجْرَحُ فِي اللَّهِ إلَّا وَاَللَّهُ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ يَوْمَئِذٍ، حِينَ أَمَرَ بِدَفْنِ الْقَتْلَى: اُنْظُرُوا إلَى عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، فَإِنَّهُمَا كَانَا مُتَصَافِيَيْنِ فِي الدُّنْيَا، فَاجْعَلُوهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ.
(حُزْنُ حَمْنَةَ عَلَى حَمْزَةَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَة، فَلَقِيته حمتة بِنْتُ جَحْشٍ، كَمَا ذُكِرَ لِي، فَلَمَّا لَقِيَتْ النَّاسَ نُعِيَ إلَيْهَا أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، فَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ نُعِيَ لَهَا خَالُهَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ نُعِيَ لَهَا زَوْجُهَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَصَاحَتْ وَوَلْوَلَتْ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ مِنْهَا لَبِمَكَانِ! لِمَا رَأَى مِنْ تَثَبُّتِهَا عِنْدَ أَخِيهَا وَخَالِهَا، وَصِيَاحِهَا عَلَى زَوْجِهَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِدَارِ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَظَفَرٍ، فَسَمِعَ الْبُكَاءَ وَالنَّوَائِحَ عَلَى قَتْلَاهُمْ، فَذَرَفَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ! فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ إلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَمَرَا نِسَاءَهُمْ أَنْ يَتَحَزَّمْنَ، ثُمَّ يَذْهَبْنَ فَيَبْكِينَ عَلَى عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ بَعْضِ رِجَالِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، قَالَ: لَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بُكَاءَهُنَّ عَلَى حَمْزَةَ خَرَجَ عَلَيْهِنَّ وَهُنَّ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ يَبْكِينَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْنَ يَرْحَمْكُنَّ اللَّهُ، فَقَدْ آسَيْتُنَّ [١] بِأَنْفُسِكُنَّ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَنُهِيَ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّوْحِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا سَمِعَ بُكَاءَهُنَّ، قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الْأَنْصَارَ! فَإِنَّ الْمُوَاسَاةَ مِنْهُمْ مَا عَتَّمَتْ [٢] لَقَدِيمَةٌ، مُرُوهُنَّ فَلْيَنْصَرِفْنَ.
(شَأْنُ الْمَرْأَةِ الدِّينَارِيَّةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِامْرَأَةِ مِنْ بَنِي دِينَارٍ، وَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا وَأَبُوهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِأُحُدٍ، فَلَمَّا نُعُوا لَهَا، قَالَتْ: فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ قَالُوا:
خَيْرًا يَا أُمَّ فُلَانٍ، هُوَ بِحَمْدِ اللَّهِ كَمَا تُحِبِّينَ، قَالَتْ: أَرُونِيهِ حَتَّى أَنْظُرَ إلَيْهِ؟ قَالَ:
فَأُشِيرَ لَهَا إلَيْهِ، حَتَّى إذَا رَأَتْهُ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ! تُرِيدُ صَغِيرَةً قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْجَلَلُ: يَكُونُ مِنْ الْقَلِيلِ، وَمِنْ الْكثير، وَهُوَ هَا هُنَا مِنْ الْقَلِيلِ.
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي الْجَلَلِ الْقَلِيلِ:
[٢] فِي أ: «مَا علمت» .
وَلَئِنْ عَفَوْتُ لَأَعْفُوَنَّ جَلَلًا … وَلَئِنْ سَطَوْتُ لَأُوْهِنَنْ عَظْمِي
(فَهُوَ مِنْ الْكَثِيرِ) [٤] .
(غَسْلُ السُّيُوفِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى أَهْلِهِ نَاوَلَ سَيْفَهُ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: اغْسِلِي عَنْ هَذَا دَمَهُ يَا بنيّة، فو الله لَقَدْ صَدَقَنِي الْيَوْمَ، وَنَاوَلَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ سَيْفَهُ، فَقَالَ: وَهَذَا أَيْضًا، فَاغْسِلِي عَنهُ دَمه، فو الله لَقَدْ صَدَقَنِي الْيَوْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَئِنْ كُنْتُ صَدَقْتَ الْقِتَالَ لَقَدْ صَدَقَ مَعَكَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَأَبُو دُجَانَةَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ يُقَالُ لِسَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ:
ذُو الْفَقَارِ [٥] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ: نَادَى مُنَادٍ يَوْمَ أُحُدٍ:
لَا سَيْفَ إلَّا ذُو الْفَقَارِ، وَلَا فَتَى إلَّا عَلِيٌّ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: لَا يُصِيبُ الْمُشْرِكُونَ مِنَّا مِثْلَهَا حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [٦]: وَكَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ.
[٢] فِي أ: «خلاه» .
[٣] كَذَا وَردت هَذِه الْعبارَة فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أَي صَغِير قَلِيل. قَالَ ابْن هِشَام:
والجلل أَيْضا الْعَظِيم. قَالَ الشَّاعِر … إِلَخ» .
[٤] زِيَادَة عَن أ، ط.
[٥] وَكَانَ ذُو الفقار سيف العَاصِي بن مُنَبّه، فَلَمَّا قتل كَافِرًا يَوْم بدر صَار إِلَى النَّبِي ﷺ ثمَّ جَاءَ إِلَى على بن أَبى طَالب.
[٦] فِي أ: «قَالَ ابْن هِشَام» .
قَالَ: فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ (مِنْ) [١] يَوْمِ الْأَحَدِ لِسِتَّ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَوَّالٍ، أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي النَّاسِ بِطَلَبِ الْعَدُوِّ، فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُهُ أَنْ لَا يَخْرُجَنَّ مَعَنَا أَحَدٌ إلَّا أَحَدٌ حَضَرَ يَوْمَنَا بِالْأَمْسِ. فَكَلَّمَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبِي كَانَ خَلَّفَنِي عَلَى أَخَوَاتٍ لِي سَبْعٍ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِي وَلَا لَكَ أَنْ نَتْرُكَ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةَ لَا رَجُلَ فِيهِنَّ، وَلَسْتُ بِاَلَّذِي أُوثِرُكَ بِالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى نَفْسِي، فَتَخَلَّفْ عَلَى أَخَوَاتِكَ، فَتَخَلَّفْتُ عَلَيْهِنَّ. فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَخَرَجَ مَعَهُ. وَإِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُرْهِبًا لِلْعَدُوِّ، وَلِيُبَلِّغَهُمْ أَنَّهُ خَرَجَ فِي طَلَبِهِمْ، لِيَظُنُّوا بِهِ قُوَّةً، وَأَنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ لَمْ يُوهِنْهُمْ عَنْ عَدُوِّهِمْ.
(مَثَلٌ مِنْ اسْتِمَاتَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي نُصْرَةِ الرَّسُولِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى عَائِشَةَ بِنْتِ عُثْمَانَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، كَانَ شَهِدَ أُحُدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ:
شَهِدْتُ أُحُدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أَنَا وَأَخٌ لِي، فَرَجَعْنَا جَرِيحَيْنِ، فَلَمَّا أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ، قُلْتُ لِأَخِي أَوْ [٢] قَالَ لِي: أَتَفُوتُنَا غَزْوَةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ وَاَللَّهِ مَا لَنَا مِنْ دَابَّةٍ نَرْكَبُهَا، وَمَا مِنَّا إلَّا جَرِيحٌ ثَقِيلٌ، فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكُنْتُ أَيْسَرَ جُرْحًا، فَكَانَ إذَا غُلِبَ حَمَلْتُهُ عُقْبَةً [٣]، وَمَشَى عُقْبَةً، حَتَّى انْتَهَيْنَا إلَى مَا انْتَهَى إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ.
(اسْتِعْمَالُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْمَدِينَةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى انْتَهَى إلَى حَمْرَاءِ
[٢] فِي أ: «وَقَالَ» .
[٣] عقبَة: من الاعتقاب فِي الرّكُوب.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ بِهَا الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ.
(شَأْنُ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ):
قَالَ: وَقَدْ مَرَّ بِهِ كَمَا حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، مَعْبَدُ بْنُ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيُّ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ، مُسْلِمُهُمْ وَمُشْرِكُهُمْ عَيْبَةَ [١] نُصْحٍ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، بِتِهَامَةَ، صَفْقَتُهُمْ [٢] مَعَهُ، لَا يُخْفُونَ عَنْهُ شَيْئًا كَانَ بِهَا، وَمَعْبَدٌ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ عَزَّ عَلَيْنَا مَا أَصَابَكَ، وَلَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ عَافَاكَ فِيهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ، حَتَّى لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ بِالرَّوْحَاءِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا الرَّجْعَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالُوا: أَصَبْنَا حَدَّ أَصْحَابِهِ وَأَشْرَافَهُمْ وَقَادَتَهُمْ، ثُمَّ نَرْجِعُ قَبْلَ أَنْ نَسْتَأْصِلَهُمْ! لَنَكُرَنَّ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ، فَلَنَفْرُغَنَّ مِنْهُمْ. فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ مَعْبَدًا، قَالَ: مَا وَرَاءَكَ يَا مَعْبَدُ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَدْ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ يَطْلُبُكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، يَتَحَرَّقُونَ [٣] عَلَيْكُمْ تَحَرُّقًا، قَدْ اجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي يَوْمِكُمْ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا [٤]، فِيهِمْ مِنْ الْحَنَقِ [٥] عَلَيْكُمْ شَيْءٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، قَالَ: وَيْحكَ! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَرَى أَنْ تَرْتَحِلَ حَتَّى أَرَى نَوَاصِيَ الْخَيل، قَالَ: فو الله لَقَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ، لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ: قَالَ: فَإِنِّي أَنْهَاكَ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْتُ عَلَى أَنْ قُلْتُ فِيهِمْ أَبْيَاتًا مِنْ شِعْرٍ، قَالَ: وَمَا قُلْتُ؟ قَالَ: قُلْتُ:
[٢] صفقتهم مَعَه، أَي اتِّفَاقهم مَعَه. يُقَال: أصفقت مَعَ فلَان على الْأَمر: إِذا اجْتمعت مَعَه عَلَيْهِ.
وَكَانَ الأَصْل أَن يُقَال: إصفاقهم مَعَه، إِلَّا أنّه اسْتعْمل الْمصدر ثلاثيا.
ويروى: «ضلعهم مَعَه» وَمَعْنَاهُ: ميلهم.
[٣] يتحرقون: يلتهبون من الغيظ.
[٤] فِي م، ر: «ضيعوا» .
[٥] الحنق: شدَّة الغيظ.
(رِسَالَةُ أَبِي سُفْيَانَ إلَى الرَّسُولِ عَلَى لِسَانِ رَكْبٍ):
وَمَرَّ بِهِ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ الْمَدِينَةَ؟
قَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ الْمِيرَةَ، قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُبَلِّغُونَ عَنِّي مُحَمَّدًا رِسَالَةً أُرْسِلُكُمْ بِهَا إلَيْهِ، وَأُحَمِّلُ لَكُمْ هَذِهِ غَدًا زَبِيبًا بِعُكَاظٍ إذَا وَافَيْتُمُوهَا؟ قَالُوا نَعَمْ، قَالَ: فَإِذَا وَافَيْتُمُوهُ فَأَخْبِرُوهُ أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا السَّيْرَ إلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ، فَمَرَّ الرَّكْبُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ، فَأَخْبَرُوهُ بِاَلَّذِي قَالَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ،
الْجَمَاعَات.
[٢] تردى: تسرع. والتنابلة: الْقصار. والميل: جمع أميل، وَهُوَ الّذي لَا رمح أَو لَا ترس مَعَه، وَقيل: هُوَ الّذي لَا يثبت على السرج. والمعازيل: الَّذين لَا سلَاح مَعَهم.
[٣] الْعَدو: الْمَشْي السَّرِيع. وَسموا: علوا وارتفعوا.
[٤] ابْن حَرْب: هُوَ أَبُو سُفْيَان.
[٥] كَذَا ورد هَذَا الشّطْر فِي أ، ط. وتغطمطت: اهتزت وارتجت، وَمِنْه: بَحر غطامط، إِذا علت أمواجه. والبطحاء: السهل من الأَرْض. والجيل: الصِّنْف من النَّاس. وَفِي سَائِر الْأُصُول:
إِذا تعظمت الْبَطْحَاء بِالْخَيْلِ
وَهُوَ ظَاهر التحريف.
[٦] أهل البسل: قُرَيْش، لأَنهم أهل مَكَّة، وَمَكَّة حرَام. والضاحية: البارزة للشمس. والإربة:
الْعقل.
[٧] الوخش: رذالة النَّاس وأخساؤهم. والتنابلة: الْقصار. والقيل: القَوْل.
كَفُّ صَفْوَانَ لِأَبِي سُفْيَانَ عَنْ مُعَاوَدَةِ الْكَرَّةِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ لَمَّا انْصَرَفَ يَوْمَ أُحُدٍ، أَرَادَ الرُّجُوعَ إلَى الْمَدِينَةِ، لِيَسْتَأْصِلَ [١] بَقِيَّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ لَهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ: لَا تَفْعَلُوا، فَإِنَّ الْقَوْمَ قَدْ حَرِبُوا [٢]، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ قِتَالٌ غَيْرُ الَّذِي كَانَ، فَارْجِعُوا، فَرَجَعُوا.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ، وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ، حِينَ بَلَغَهُ أَنَّهُمْ هَمُّوا بِالرَّجْعَةِ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ سُوِّمَتْ [٣] لَهُمْ حِجَارَةٌ، لَوْ صُبِّحُوا بِهَا لَكَانُوا كَأَمْسِ الذَّاهِبِ [٤] .
(مَقْتَلُ أَبِي عَزَّةَ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ):
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ [٥]: وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي جِهَةِ ذَلِكَ، قَبْلَ رُجُوعِهِ إلَى الْمَدِينَةِ، مُعَاوِيَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَهُوَ جَدُّ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، أَبُو أُمِّهِ عَائِشَةَ بِنْتِ مُعَاوِيَةَ، وَأَبَا عَزَّةَ الْجُمَحِيَّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَسَرَهُ بِبَدْرِ، ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِلْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَاَللَّهِ لَا تَمْسَحْ عَارِضَيْكَ بِمَكَّةَ بَعْدَهَا وَتَقُولُ: خَدَعْتُ مُحَمَّدًا مَرَّتَيْنِ، اضْرِبْ عُنُقَهُ يَا زُبَيْرُ. فَضَرَبَ عُنُقَهُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ، اضْرِبْ عُنُقَهُ يَا عَاصِمُ ابْن ثَابِتٍ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
(مَقْتَلُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: إنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ قَتَلَا مُعَاوِيَةَ
[٢] حربوا: غضبوا.
[٣] سومت، أَي جعلت لَهَا عَلامَة يعرف بهَا أَنَّهَا من عِنْد الله.
[٤] فِي أ: «قَالَ» .
[٥] قَالَ أَبُو ذَر: «وَوَقع فِي كتاب أَبى على الغساني بعد هَذَا: حَدثنَا أَبُو صَالح وَابْن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب، قَالَ أخبرنى سعيد بن الْمسيب أَن أَبَا هُرَيْرَة أخبرهُ أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ: لَا يلْدغ الْمُؤمن من جُحر وَاحِد مرَّتَيْنِ، هَذَا الحَدِيث حَاشِيَة فِي كتاب أَبى على الغساني رحمه الله» .
(شَأْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بَعْدَ ذَلِكَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ، كَمَا حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، لَهُ مَقَامٌ يَقُومُهُ كُلَّ جُمُعَةٍ لَا يُنْكَرُ، شَرَفًا لَهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي قَوْمِهِ، وَكَانَ فِيهِمْ شَرِيفًا، إذَا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ، قَامَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، هَذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، أَكْرَمَكُمْ اللَّهُ وَأَعَزَّكُمْ بِهِ، فَانْصُرُوهُ وَعَزِّرُوهُ، وَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، ثُمَّ يَجْلِسُ حَتَّى إذَا صَنَعَ يَوْمَ أُحُدٍ مَا صَنَعَ، وَرَجَعَ بِالنَّاسِ، قَامَ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ، فَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ بِثِيَابِهِ مِنْ نَوَاحِيهِ، وَقَالُوا: اجْلِسْ، أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، لَسْتُ لِذَلِكَ بِأَهْلِ، وَقَدْ صَنَعْتَ مَا صَنَعْتَ، فَخَرَجَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاَللَّهِ لَكَأَنَّمَا قُلْتُ بَجْرًا [١] أَنْ قُمْتُ أُشَدِّدُ أَمْرَهُ. فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِبَابِ الْمَسْجِد، فَقَالَ: مَالك؟ وَيْلَكَ! قَالَ: قُمْتُ أُشَدِّدُ أَمْرَهُ، فَوَثَبَ عَلَيَّ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَجْذِبُونَنِي وَيُعَنِّفُونَنِي، لَكَأَنَّمَا قُلْتُ بَجْرًا أَنْ قُمْتُ أُشَدِّدُ أَمْرَهُ، قَالَ: وَيْلَكَ! ارْجِعْ يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَبْتَغِي أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي.
(كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ مِحْنَةٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ بَلَاءٍ وَمُصِيبَةٍ وَتَمْحِيصٍ، اخْتَبَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَحَنَ بِهِ الْمُنَافِقِينَ، مِمَّنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ بِلِسَانِهِ، وَهُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْكُفْرِ فِي قَلْبِهِ، وَيَوْمًا أَكْرَمَ اللَّهُ فِيهِ مَنْ أَرَادَ كَرَامَتَهُ بِالشَّهَادَةِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَتِهِ.