وَبَعَثَ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ، حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، إلَى سَيْفِ الْبَحْرِ، مِنْ نَاحِيَةِ الْعِيصِ، فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، لَيْسَ فِيهِمْ مِنْ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ.
فَلَقِيَ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ بِذَلِكَ السَّاحِلِ فِي ثَلَاثِ ماِئَةِ رَاكِبٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ مَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ. وَكَانَ مُوَادِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، فَانْصَرَفَ بَعْضُ الْقَوْمِ عَنْ بَعْضٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ.
(كَانَتْ رَايَةُ حَمْزَةَ أَوَّلَ رَايَةٍ فِي الْإِسْلَامِ وَشِعْرُ حَمْزَةَ فِي ذَلِكَ):
وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: كَانَتْ رَايَةُ حَمْزَةَ أَوَّلَ رَايَةٍ عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَحَدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ [٣] . وَذَلِكَ أَنَّ بَعْثَهُ وَبَعْثَ عُبَيْدَةَ كَانَا مَعًا، فَشُبِّهَ
[٢] يُرِيد ب «ابْن جهل»: عِكْرِمَة بن أَبى جهل، وَكَانَ على الْكفَّار كَمَا تقدم.
[٣] وَإِلَى ذَلِك ذهب ابْن عبد الْبر.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُ هَذَا الشِّعْرَ لِحَمْزَةِ رضي الله عنه:
أَلَا يَا لَقَوْمِي لِلتَّحَلُّمِ وَالْجَهْلِ … وَلِلنَّقْصِ مِنْ رَأْيِ الرِّجَالِ وَلِلْعَقْلِ
وَلِلرَّاكِبِينَا بِالْمَظَالِمِ لَمْ نَطَأْ … لَهُمْ حُرُمَاتٍ مِنْ سَوَامٍ وَلَا أَهْلِ [١] كَأَنَّا تَبَلْنَاهُمْ وَلَا تَبْلَ عِنْدَنَا [٢] … لَهُمْ غَيْرُ أَمْرٍ بِالْعَفَافِ [٣] وَبِالْعَدْلِ
وَأَمْرٍ بِإِسْلَامٍ فَلَا يَقْبَلُونَهُ … وَيَنْزِلُ مِنْهُمْ مِثْلَ مَنْزِلَةِ الْهَزْلِ
فَمَا بَرِحُوا حَتَّى انْتَدَبْتُ [٤] لِغَارَةِ … لَهُمْ حَيْثُ حَلُّوا ابْتَغَى رَاحَةَ الْفَضْلِ
بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ، أَوَّلُ خَافِقٍ … عَلَيْهِ لِوَاءٌ لَمْ يَكُنْ لَاحَ مِنْ قَبْلِي
لِوَاءٌ لَدَيْهِ النَّصْرُ مِنْ ذِي كَرَامَةٍ … إلَهٍ عَزِيزٍ فِعْلُهُ أَفَضْلُ الْفِعْلِ
عَشِيَّةَ سَارُوا حَاشِدِينَ وَكُلُّنَا … مَرَاجِلُهُ مِنْ غَيْظِ أَصْحَابِهِ تَغْلِي [٥] فَلَمَّا تَرَاءَيْنَا أَنَاخُوا فَعَقَّلُوا … مَطَايَا وَعَقَّلْنَا مُدَى غَرَضِ [٦] النَّبْلِ [٧] فَقُلْنَا لَهُمْ: حَبْلُ الْإِلَهِ نَصِيرُنَا … وَمَا لَكُمْ إلَّا الضَّلَالَةُ مِنْ حَبْلٍ
فَثَارَ أَبُو جَهْلٍ هُنَالِكَ بَاغِيًا … فَخَابَ وَرَدَّ اللَّهُ كَيْدَ أَبِي جَهْلِ
وَمَا نَحْنُ إلَّا فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا … وَهُمْ مِائَتَانِ بَعْدُ وَاحِدَةٍ فَضْلِ
[٢] كَذَا فِي أ، ط. وتبلناهم، أَي عاديناهم، والتبل: الْعَدَاوَة. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «نبلناهم وَلَا نبل» بالنُّون فيهمَا.
[٣] فِي أ: «بالعقاب» .
[٤] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. يُقَال: انتدبته لِلْأَمْرِ فَانْتدبَ هُوَ لَهُ، أَي دَعوته لَهُ فَأجَاب، لَازم مُتَعَدٍّ.
وَفِي أ: «ابْتَدَرْت بغارة» .
[٥] المراجل: جمع مرجل، وَهُوَ الْقدر. وَقيل: هُوَ قدر النّحاس لَا غير.
[٦] فِي أ: «عرض» وَهُوَ تَصْحِيف.
[٧] مدى غَرَض النبل، أَي أَنهم أناخوا قريبين بَعضهم من بعض، فَكَانَ الْمسَافَة بَينهم مرمى النبل.
(شِعْرُ أَبِي جَهْلٍ فِي الرَّدِّ عَلَى حَمْزَةَ):
فَأَجَابَهُ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، فَقَالَ:
عَجِبْتُ لِأَسْبَابِ الْحَفِيظَةِ وَالْجَهْلِ … وَلِلشَّاغِبِينَ بِالْخِلَافِ وَبِالْبُطْلِ [٣]
وَلِلتَّارِكِينَ مَا وَجَدْنَا جُدُودَنَا … عَلَيْهِ ذَوِي الْأَحْسَابِ وَالسُّؤْدُدِ الْجَزْلِ [٤]
أَتَوْنَا بِإِفْكٍ كَيْ يُضِلُّوا عُقُولَنَا … وَلَيْسَ مُضِلًّا إفْكُهُمْ عَقْلَ ذِي عَقْلِ [٥]
فَقُلْنَا لَهُمْ: يَا قَوْمَنَا لَا تُخَالِفُوا … عَلَى قَوْمِكُمْ إنَّ الْخِلَافَ مُدَى الْجَهْلِ
فَإِنَّكُمْ إنْ تَفْعَلُوا تَدْعُ نِسْوَةٌ … لَهُنَّ بَوَاكٍ بِالرَّزِيَّةِ وَالثُّكْلِ
وَإِنْ تَرْجِعُوا عَمَّا فَعَلْتُمْ فَإِنَّنَا … بَنُو عَمِّكُمْ أَهْلُ الْحَفَائِظِ وَالْفَضْلِ
فَقَالُوا لَنَا: إنَّا وَجَدْنَا مُحَمَّدًا … رِضًا لِذَوِي الْأَحْلَامِ مِنَّا وَذِي الْعَقْلِ
فَلَمَّا أَبَوْا إلَّا الْخِلَافَ وَزَيَّنُوا … جِمَاعَ الْأُمُورِ بِالْقَبِيحِ مِنْ الْفِعْلِ
تَيَمَّمْتُهُمْ بِالسَّاحِلَيْنِ بِغَارَةٍ … لِأَتْرُكَهُمْ كَالْعَصْفِ لَيْسَ بِذِي أصل [٦]
فورّعنى [٧] مَجْدِيٌّ [٨] عَنْهُمْ وَصُحْبَتِي … وَقَدْ وَازَرُونِي بِالسُّيُوفِ وَبِالنَّبْلِ
لِإِلٍّ عَلَيْنَا وَاجِبٍ لَا نُضَيِّعُهُ … أَمِينٌ قَوَاهُ غَيْرُ مُنْتَكِثِ الْحَبْلِ [٩]
فَلَوْلَا ابْنُ عَمْرٍو كُنْتُ غَادَرْتُ مِنْهُمْ … مَلَاحِمَ لِلطَّيْرِ الْعُكُوفِ بِلَا تَبْلِ [١٠]
[٢] الثكل: الْفَقْد والحزن.
[٣] الحفيظة: الْغَضَب.
[٤] الجزل: الْعَظِيم.
[٥] الْإِفْك: الْكَذِب.
[٦] العصف: ورق الزَّرْع الّذي يصفر على سَاقه. وَيُقَال: هُوَ دقاق التِّبْن.
[٧] كَذَا فِي أ. وورعني: أَي كفني، وَهُوَ من الْوَرع عَن الْمَحَارِم: أَي الْكَفّ عَنْهَا. وَفِي ط: «فروغنى» وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فوزعنى» .
[٨] مجدي، هُوَ مجدي بن عَمْرو الجهنيّ. وَقد سبقت الْإِشَارَة إِلَى أَنه حجز بَين الْقَوْم.
[٩] الإل: الْعَهْد. وَغير منتكث: غير منتقض.
[١٠] العكوف: المقيمة اللَّازِمَة.
بِأَيْدِي حُمَاةٍ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ … كِرَامٍ الْمَسَاعِي فِي الْجُدُوبَةِ وَالْمَحْلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُ هَذَا الشِّعْرَ لِأَبِي جَهْلٍ.