هَذَا كِتَابُ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم. قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاسْمُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: شَيْبَةُ [٢] بْنُ هَاشِمٍ، وَاسْمُ هَاشِمٍ: عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَاسْمُ عَبْدِ مَنَافٍ: الْمُغِيرَةُ بْنُ قُصَيٍّ، (وَاسْمُ قُصَيٍّ: زَيْدُ) [١] بْنُ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ [٣] بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ [٤]
[٢] وَقيل إِن اسْم عبد الْمطلب: عَامر (كَمَا فِي المعارف لِابْنِ قُتَيْبَة، وَشرح الْمَوَاهِب اللدنية ج ١ ص ٧١ طبع المطبعة الأزهرية) . وَالصَّحِيح أَن اسْمه: «شيبَة» كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِك السهيليّ فِي «الرَّوْض الْأنف» . وسمى كَذَلِك لِأَنَّهُ ولد وَفِي رَأسه شيبَة. وَأما غَيره من الْعَرَب مِمَّن اسْمه شيبَة فَإِنَّمَا قصد بتسميته بِهَذَا الِاسْم التفاؤل. وَقد عَاشَ عبد الْمطلب مائَة وَأَرْبَعين سنة، وَكَانَ لِدَة عبيد بن الأبرص الشَّاعِر.
[٣] واسْمه قُرَيْش، وَإِلَيْهِ تنْسب الْقَبِيلَة، وَقيل: بل فهر اسْمه، وقريش لقب لَهُ. وَقد روى عَن نسابى الْعَرَب أَنهم قَالُوا: من جَاوز فهرا فَلَيْسَ من قُرَيْش (انْظُر شرح الْمَوَاهِب اللدنية، ج ١ ص ٧٥) .
[٤] واسْمه قيس، ولقب بالنضر لنضارة وَجهه، وَأمه برة بنت أدبن طابخة، تزَوجهَا أَبوهُ كنَانَة بعد أَبِيه خُزَيْمَة، فَولدت لَهُ النَّضر على مَا كَانَت الْجَاهِلِيَّة تفعل: إِذا مَاتَ الرجل خلف على زَوجته أكبر بنيه من غَيرهَا. وَقد ذكر الجاحظ أَن هَذَا غلط نَشأ من اشْتِبَاه، إِذْ أَن كنَانَة خلف على زَوْجَة أَبِيه، فَمَاتَتْ وَلم تَلد لَهُ ذكرا وَلَا أُنْثَى، فنكح ابْنة أَخِيهَا، وَهِي برة بنت مرّة بن أد بن طابخة، فَولدت النَّضر.
(رَاجع شرح الْمَوَاهِب اللدنية) . ١- سيرة ابْن هِشَام- ١
ابْن كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ، وَاسْمُ مُدْرِكَةَ: عَامِرُ [١] بْنُ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ [٢] بْنِ (أُدٍّ، وَيُقَالُ) [٣]: أُدَدُ [٤] بْنُ مُقَوِّمِ [٥] بْنِ نَاحُورَ بْنِ تَيْرَحَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ نَابِتِ [٦] بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ- خَلِيلِ الرَّحْمَنِ- بْنِ تَارِحٍ [٧]، وَهُوَ آزَرُ [٨] بْنُ نَاحُورَ بْنِ سَارُوغَ [٩] بْنِ رَاعُو [١٠] بْنِ فَالَخٍ [١١]
[٢] اضْطَرَبَتْ كلمة النسابين فِيمَا بعد عدنان، حَتَّى نراهم لَا يكادون يجمعُونَ على جد حَتَّى يَخْتَلِفُوا فِيمَن فَوْقه، وَقد حكى عَن النَّبِي ﷺ أَنه كَانَ إِذا انتسب لم يتَجَاوَز فِي نسبه عدنان بن أدد، ثمَّ يمسك وَيَقُول: كذب النسابون. وَقَالَ عمر بن الْخطاب: إِنِّي لأنتسب إِلَى معد بن عدنان، وَلَا أدرى مَا هُوَ. وَعَن سُلَيْمَان بن أَبى خَيْثَمَة قَالَ: مَا وجدنَا فِي علم عَالم، وَلَا شعر شَاعِر أحدا يعرف مَا وَرَاء معد ابْن عدنان، ويعرب بن قحطان.
[٣] زِيَادَة عَن أ.
[٤] يذهب بعض النسابين إِلَى أَن أد هُوَ ابْن أدد، وليسا شخصا وَاحِدًا، وَيَقُولُونَ: إِن أم أدهى النعجاء بنت عَمْرو بن تبع، وَأم أدد حَيَّة، وَهِي من قحطان (رَاجع أصُول الأحساب وفصول الْأَنْسَاب للجوانى مخطوط مَحْفُوظ بدار الْكتب المصرية برقم ٢٠١٥ تَارِيخ) . وَقد ذهب ابْن قُتَيْبَة فِي كِتَابه «المعارف» إِلَى أَن أد هُوَ ابْن يجثوم بن مقوم، فَيكون مقوم جدا لأد وَلَيْسَ أَبَاهُ.
[٥] ضَبطه السهيليّ فِي كِتَابه «الرَّوْض الْأنف» بالعبارة، فَقَالَ: «… وَأما مقوم بِكَسْر الْوَاو»، وَالظَّاهِر أَنَّهَا مُشَدّدَة كَمَا ضبطت بالقلم فِي المعارف لِابْنِ قُتَيْبَة.
[٦] وَيُقَال لَهُ: نبت أَيْضا (رَاجع كتاب أَنْسَاب الْعَرَب للصحارى مخطوط مَحْفُوظ بدار الْكتب المصرية برقم ٢٤٦١ تَارِيخ) .
[٧] كَذَا بِالْأَصْلِ هُنَا وَفِيمَا سَيَأْتِي، ومروج الذَّهَب للمسعوديّ (ج ١ ص ٢٠ طبع بلاق) . وَفِي الطَّبَرِيّ، والمعارف لِابْنِ قُتَيْبَة، ومروج الذَّهَب (ج ١ ص ٣٠٣) . وروضة الْأَلْبَاب للْإِمَام مُحَمَّد الزيدي (مخطوط مَحْفُوظ بدار الْكتب المصرية برقم ٩٤٥ تَارِيخ): «تَارِيخ» بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة.
[٨] وَقيل: هُوَ عَم إِبْرَاهِيم لَا أَبوهُ، إِذْ لَو كَانَ أَبَاهُ الْحَقِيقِيّ لم يقل تَعَالَى: لِأَبِيهِ آزَرَ ٦: ٧٤ لِأَن الْعَرَب لَا تَقول أَبى فلَان، إِلَّا للعم دون الْأَب الْحَقِيقِيّ. (رَاجع رَوْضَة الْأَلْبَاب) .
[٩] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ، ومروج الذَّهَب. وَفِي المعارف: «شاروغ» وَفِيه: أَن اسْمه «أشرع» أَيْضا، وَهَذَا مَا ذكره ابْن هِشَام بعد قَلِيل نقلا عَن قَتَادَة، وَفِي رَوْضَة الْأَلْبَاب: «شاروخ» (بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة) .
وَفِي الأَصْل هُنَا: «ساروح» (بِالْحَاء الْمُهْملَة) .
[١٠] كَذَا فِي الأَصْل هُنَا. وَفِيمَا سَيَأْتِي بعد قَلِيل: «أرغو» . وَفِي الطَّبَرِيّ وروضة الْأَلْبَاب «أرغوا» وَفِي المعارف لِابْنِ قُتَيْبَة ومروج الذَّهَب (ج ١ ص ٣٠٣): «أرعو» بِالْعينِ الْمُهْملَة، وَفِي مروج الذَّهَب (ج ١ ص ٢٠): «رعو»
[١١] كَذَا بِالْأَصْلِ هُنَا وَفِيمَا سَيَأْتِي. وَفِي الطَّبَرِيّ، والمعارف، ومروج الذَّهَب، وأصول الأحساب، وَالرَّوْض الْأنف، وروضة الْأَلْبَاب، وأنساب الْعَرَب: «فالغ» (بالغين الْمُعْجَمَة) . وَهُوَ «فالخ» كَمَا نَص على ذَلِك فِي أَنْسَاب الْعَرَب. وَيُقَال: إِن مَعْنَاهُ القسام.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ هِشَامٍ: حَدَّثَنَا زِيَادُ [٨] بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ [٩] الْمُطَّلِبِيِّ بِهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ نَسَبِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم إلَى آدَمَ عليه السلام، وَمَا فِيهِ مِنْ حَدِيثِ إدْرِيسَ وَغَيْرِهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي خَلَّادُ بْنُ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ السَّدُوسِيُّ، عَنْ شَيْبَانَ ابْن زُهَيْرِ بْنِ شَقِيقِ بْنِ ثَوْرٍ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ دُعَامةَ، أَنَّهُ قَالَ:
إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ- خَلِيلِ الرَّحْمَنِ- ابْن تَارِحٍ، وهُوَ آزَرُ بْنُ نَاحُورَ بْنِ أَسْرَغَ [١٠]
[٢] كَذَا بِالْأَصْلِ، والمعارف، والطبري، وَالرَّوْض الْأنف، وروضة الْأَلْبَاب. وشالخ مَعْنَاهُ:
الرَّسُول أَو الْوَكِيل، وَفِي مروج الذَّهَب: «شالح» (بِالْحَاء الْمُهْملَة) .
[٣] كَذَا فِي م، ومروج الذَّهَب، وَالرَّوْض الْأنف، وأصول الأحساب، وأنساب الْعَرَب.
وَمعنى أرفخشذ: مِصْبَاح مضيء. وَفِي الطَّبَرِيّ، والمعارف: «أرفخشد» (بِالدَّال الْمُهْملَة) .
[٤] كَذَا فِي شرح القصيدة الحميرية (المخطوطة الْمَحْفُوظ بدار الْكتب المصرية برقم ١٣٥٩ تَارِيخ) وروضة الْأَلْبَاب، ومروج الذَّهَب، وَقد ضبط فِي هَامِش الْأَخير بالعبارة بِفَتْح اللَّام وَسُكُون الْمِيم. وَفِي الأَصْل هُنَا وَفِيمَا سَيَأْتِي: «لامك» .
[٥] متوشلخ مَعْنَاهُ: مَاتَ الرَّسُول. (عَن الرَّوْض الْأنف) .
[٦] فِيمَا سَيَأْتِي: «مهلائيل» وَهِي رِوَايَة أَكثر المراجع الَّتِي بَين أَيْدِينَا.
[٧] كَذَا بِالْأَصْلِ هُنَا. وَفِيمَا سَيَأْتِي: «قاين» . وَفِي الطَّبَرِيّ، ومروج الذَّهَب: «قينان» .
[٨] هُوَ أَبُو مُحَمَّد زِيَاد بن عبد الله بن الطُّفَيْل البكائي الْكُوفِي، نسب إِلَى الْبكاء بن عَمْرو، ربيعَة بن صعصعة بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هوَازن، وَهُوَ من أَصْحَاب الحَدِيث، أخرج لَهُ البُخَارِيّ وَمُسلم (عَن شرح السِّيرَة وتهذيب التَّهْذِيب) .
[٩] هُوَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن بشار مولى قيس بن مخرمَة بن الْمطلب بن عبد منَاف، وَلذَلِك يُقَال فِي نسبه: المطلبي، وَهُوَ من كبار الْمُحدثين لَا سِيمَا فِي الْمَغَازِي وَالسير، وَكَانَ الزُّهْرِيّ يثنى عَلَيْهِ بذلك، ويفضله على غَيره، وَهُوَ مدنِي توفى بِبَغْدَاد سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَة.
[١٠] كَذَا فِي أ. وَفِي م: «استرغ» . (رَاجع الْحَاشِيَة رقم ٩ ص ٢ من هَذَا الْجُزْء) .
ابْن أَرْغُو بْنِ فَالَخٍ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالَخٍ بْنِ أرْفخْشَذَ [١] بْنِ سَامِ بْنِ نُوحِ بْنِ لَمْكِ بْنِ مَتُّوشَلَخِ بْنِ أَخْنُوخَ بْنِ يَرْدِ بْنِ مِهْلَائِيلَ بْنِ قَايِنَ [٢] بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيثِ بْنِ آدَمَ ﷺ.
(نَهْجُ ابْنِ هِشَامٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ مُبْتَدِئٌ هَذَا الْكِتَابَ بِذِكْرِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، وَمَنْ وَلَدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ وَلَدِهِ، وَأَوْلَادِهِمْ لِأَصْلَابِهِمْ، الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، مِنْ إسْمَاعِيلَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم، وَمَا يَعْرِضُ مِنْ حَدِيثهِمْ، وَتَارِكٌ ذِكْرَ غَيْرِهِمْ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ، عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ لِلِاخْتِصَارِ، إلَى حَدِيثِ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَتَارِكٌ بَعْضَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، مِمَّا لَيْسَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِيهِ ذِكْرٌ، وَلَا نَزَلَ فِيهِ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ، وَلَيْسَ سَبَبًا لِشَيْءِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا تَفْسِيرًا لَهُ، وَلَا شَاهِدًا عَلَيْهِ، لِمَا ذَكَرْتُ مِنْ الِاخْتِصَارِ، وَأَشْعَارًا ذَكَرَهَا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يَعْرِفُهَا، وَأَشْيَاءَ بَعْضُهَا يَشْنُعُ الْحَدِيثُ بِهِ، وَبَعْضٌ يَسُوءُ بَعْضَ النَّاسِ ذِكْرُهُ، وَبَعْضٌ لَمْ يُقِرَّ لَنَا الْبَكَّائِيُّ بِرِوَايَتِهِ، وَمُسْتَقْصٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْهُ بِمَبْلَغِ الرِّوَايَةِ لَهُ، وَالْعِلْمِ بِهِ.
سِيَاقَةُ النَّسَبِ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ عليه السلام
(أَوْلَادُ إسْمَاعِيلَ عليه السلام وَنَسَبُ أُمِّهِمْ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطَّلِبِيِّ قَالَ:
وَلَدَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عليهما السلام اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا: نَابِتًا، وَكَانَ أَكْبَرَهُمْ،
[٢] (رَاجع الْحَاشِيَة رقم ٧ ص ٣ من هَذَا الْجُزْء) .
وقَيْذَرُ [١]، وَأَذْبُلَ [٢]، وَمُبِشًّا [٣]، وَمِسْمَعًا، وَمَاشِي [٤]، وَدِمَّا [٥]، وَأَذَرُ [٦]، وَطَيْمَا [٧]، وَيَطُورَ [٨]، ونَبِشَ [٩]، وقَيْذُما [١٠] . وَأُمُّهُمْ (رَعْلَةُ) [١١] بِنْتُ مُضَاضِ بْنِ عَمْرٍو الْجُرْهُمِيُّ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: مِضَاضٌ. وَجُرْهُمُ بْنُ قَحْطَانَ، وَقَحْطَانُ أَبُو الْيَمَنِ كلهَا، وَإِلَيْهِ تَجْتَمِع نَسَبُهَا- ابْنُ عَامِرِ بْنِ شالَخِ بْنِ أرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: جُرْهُمُ بْنُ يَقْطَنَ بْنِ عَيْبَرِ بْنِ شَالَخٍ. و(يَقْطَنُ هُوَ) [١٢] قَحْطَانُ بْنُ عَيْبَرِ بْنِ شالَخٍ.
(عُمْرُ إسْمَاعِيلَ عليه السلام وَمَدْفِنُهُ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ عُمْرُ إسْمَاعِيلَ- فِيمَا يذكرُونَ مائَة سَنَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَاتَ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ فِي الْحِجْرِ [١٣] مَعَ أُمِّهِ هَاجَرَ، رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى
«قيدر» . وَفِي الطَّبَرِيّ، والمعارف: «قيدار» (بِالدَّال الْمُهْملَة فِي الرِّوَايَتَيْنِ) .
[٢] فِي الطَّبَرِيّ وأنساب الْعَرَب: «أدبيل» . وَيُقَال فِيهِ: «أدبال» أَيْضا.
[٣] كَذَا فِي أوالطبري، وأنساب الْعَرَب. وَفِي م: «منشا» . وَفِي أصُول الأحساب: «مشا» .
[٤] فِي الطَّبَرِيّ: «ماسى» بِالسِّين الْمُهْملَة.
[٥] وَيُقَال فِيهِ: «دمار» (رَاجع أَنْسَاب الْعَرَب) .
[٦] فِي أَنْسَاب الْعَرَب: «أدر» (بِالدَّال الْمُهْملَة) .
[٧] كَذَا فِي أ، وَهُوَ بِكَسْر الطَّاء الْمُهْملَة وَفتحهَا وَإِسْكَان الْيَاء. وَفِي أصُول الأحساب: «تيما» (بِفَتْح التَّاء وَسُكُون الْيَاء) . وَقَيده الدارقطنيّ: «ظمياء» (بالظاء الْمُعْجَمَة وَتَقْدِيم الْمِيم ممدودا) . وَفِي الطَّبَرِيّ. «طما» . وَفِي م. «ظيما» .
[٨] كَذَا فِي أوأصول الأحساب. وَفِي م «تطورا» (بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة) . وَفِي الطَّبَرِيّ:
«طور» . وَفِي أَنْسَاب الْعَرَب: «قطور» .
[٩] كَذَا فِي أ. وَفِي م، ر: «نيش» (بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة) . وَفِي الطَّبَرِيّ: «نَفِيس» . وَفِي أصُول الأحساب: «يافيش» . وَفِي أَنْسَاب الْعَرَب: «فنس» .
[١٠] فِي الطَّبَرِيّ وأنساب الْعَرَب: «قيدمان» .
[١١] زِيَادَة عَن أ. والّذي فِي الرَّوْض الْأنف أَن أمّهم اسْمهَا السيدة، وَأَنه كَانَ لإسماعيل امْرَأَة سواهَا من جرهم اسْمهَا جداء بنت سعد، وَهِي الَّتِي أمره أَبوهُ بتطليقها، ثمَّ تزوج أُخْرَى اسْمهَا: سامة بنت مهلهل، وَقيل عَاتِكَة.
[١٢] زِيَادَة يقتضيها السِّيَاق.
[١٣] الْحجر (بِالْكَسْرِ ثمَّ السّكُون وَرَاء): حجر الْكَعْبَة، هُوَ مَا تركت قُرَيْش فِي بنائها من أساس إِبْرَاهِيم عليه السلام، وحجرت على الْمَوَاضِع ليعلم أَنه من الْكَعْبَة فَسمى حجرا لذَلِك، لَكِن فِيهِ زِيَادَة على مَا فِي الْبَيْت، وَقد كَانَ ابْن الزبير أدخلهُ فِي الْكَعْبَة حِين بناها، فَلَمَّا هدم الْحجَّاج بناءه، رده إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَقُولُ الْعَرَبُ: هَاجَرَ وَآجَرَ فَيُبْدِلُونَ الْأَلِفَ مِنْ الْهَاءِ كَمَا قَالُوا:
هَرَاقَ الْمَاءَ، وَأَرَاقَ الْمَاءَ وَغَيْرَهُ. وَهَاجَرُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ.(وَصَاةُ الرَّسُولِ ﷺ بِأَهْلِ مِصْرَ وَسَبَبُ ذَلِكَ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ [١]، عَنْ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ [٢] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ:
اللَّهَ اللَّهَ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ، أَهْلِ الْمَدَرَةِ السَّوْدَاءِ السُّحْمِ الْجِعَادِ [٣]، فَإِنَّ لَهُمْ نَسَبًا وَصِهْرًا. قَالَ عُمَرُ مَوْلَى غُفْرَةَ: نَسَبُهُمْ، أَنَّ أُمَّ إسْمَاعِيلَ النَّبِيِّ- ﷺ مِنْهُمْ. وَصِهْرُهُمْ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وآله وسلم تَسَرَّرَ [٤] فِيهِمْ.
قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: أُمُّ إسْمَاعِيلَ: هَاجَرُ، مِنْ أُمِّ الْعَرَبِ [٥]، قَرْيَةٍ كَانَتْ أَمَامَ الْفَرَمَا [٦]
[٢] هِيَ غفرة بنت بِلَال- وَقيل أُخْته- مولى أَبى بكر الصّديق رضى الله عَنهُ. (رَاجع شرح السِّيرَة وَالرَّوْض الْأنف) .
[٣] المدرة (هُنَا): الْبَلدة، والسحم: السود، واحدهم: أسحم وسحماء. والجعاد: الَّذين فِي شعرهم تكسير.
[٤] يُقَال: تسرر الرجل وتسرى: إِذا اتخذ أمة لفراشه.
[٥] وَيُقَال فِيهَا «أم العريك»، كَمَا يُقَال إِنَّهَا من قَرْيَة يُقَال لَهَا «ياق» عِنْد أم دنين. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[٦] الفرما أَو الطينة (siravAuoesuelP) مَدِينَة بِمصْر من شَرق، تبعد عَن سَاحل بَحر الرّوم بِقدر ميلين، كَانَ لَهَا ميناء عَامر، ويصل إِلَيْهَا فرع من النّيل مُسَمّى باسمها اليوناني (بيلوزة) أَي الطينة، وَكَانَت فِي زمن الفراعنة حصن مصر من جِهَة الشرق، وَلذَلِك وَقعت بهَا جملَة وقائع حربية فِي جَمِيع أزمنة التَّارِيخ الْمصْرِيّ، وتعرف الْآن بتل الفرما، وَيُقَال: إِن فِيهَا قبر أم إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عليهما السلام، وقبر جالينوس الْحَكِيم. وفيهَا ولد بطليموس القلوذى (eemelotPedualC) الفلكي الْمَشْهُور، صَاحب كتاب المجسطي، من أهل الْقرن الثَّانِي من الميلاد. (رَاجع فهرست المعجم الجغرافى لأمين بك واصف) .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيَّ، ثُمَّ السُّلَمِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ:
إذَا افْتَتَحْتُمْ مِصْرَ فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا. فَقُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ: مَا الرَّحِمُ الَّتِي ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لَهُمْ؟ فَقَالَ:
كَانَتْ هَاجَرُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ مِنْهُمْ.(أَصْلُ الْعَرَبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَالْعَرَبُ كُلُّهَا مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ وَقَحْطَانَ. وَبَعْضُ أَهْلِ الْيَمَنِ يَقُولُ: قَحْطَانُ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ، وَيَقُولُ: إسْمَاعِيلُ أَبُو الْعَرَبِ كُلِّهَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: عَاد بن عوض بْنُ إرَمِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَثَمُودُ وَجُدَيْسٌ ابْنَا عَابِرِ [٤] بْنِ إرَمِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وطَسْمُ وَعِمْلَاقُ وَأُمَيْمُ بَنُو لَاوِذْ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ: عَرَبٌ كُلُّهُمْ. فَوَلَدَ نَابِتُ بْنُ إسْمَاعِيلَ: يَشْجُبَ بْنَ نَابِتٍ، فَوَلَدَ يَشْجُبُ: يَعْرُبَ بْنَ يَشْجُبَ، فَوَلَدَ يَعْرُبُ: تَيْرَحَ بْنَ يَعْرُبَ، فَوَلَدَ تَيْرَحُ:
قطاة مَارِيَة، أَي ملساء) . وَسبب إهدائها إِلَى النَّبِي أَنه ﷺ أرسل إِلَى الْمُقَوْقس (واسْمه جريج ابْن ميناء) حَاطِب بن أَبى بلتعة، وجبرا مولى أَبى رهم الغفاريّ، فقارب الْمُقَوْقس الْإِسْلَام، وَأهْدى مَعَهُمَا إِلَى النَّبِي ﷺ بغلته، الَّتِي يُقَال لَهَا دُلْدُل، ومارية، كَمَا أهْدى إِلَيْهِ أَيْضا قدحا من قَوَارِير، فَكَانَ النَّبِي ﷺ يشرب فِيهِ (عَن الرَّوْض الْأنف) .
[٢] حفن: قَرْيَة من قرى الصَّعِيد، وَقيل: نَاحيَة من نواحي مصر، وَفِي الحَدِيث: أهْدى الْمُقَوْقس إِلَى النَّبِي ﷺ مَارِيَة من حفن من رستاق أنصنا، وكلم الْحسن بن على رضى الله عَنهُ مُعَاوِيَة لأهل حفن، فَوضع عَنْهُم خراج الأَرْض.
[٣] أنصنا (بِالْفَتْح ثمَّ السّكُون وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة وَبعدهَا النُّون مَقْصُورا): مَدِينَة من نواحي الصَّعِيد على شرقى النّيل، وَيُقَال إِنَّهَا كَانَت مَدِينَة السَّحَرَة ينْسب إِلَيْهَا كثير من أهل الْعلم، مِنْهُم: أَبُو طَاهِر الْحُسَيْن ابْن أَحْمد بن سُلَيْمَان بن هَاشم الأنصناوي الْمَعْرُوف بالطبري.
[٤] فِي أ: «عاثر» .
نَاحُورَ بْنَ تَيْرَحَ، فَوَلَدَ نَاحُورُ: مُقَوِّمَ بْنَ نَاحُورٍ: أُدَدَ بْنَ مقوّم: فولد مُقَوِّمٍ: فَوَلَدَ أُدَدُ: عَدْنَانَ بْنَ أُدَدَ [١] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: عَدْنَانُ بْنُ أُدٍّ.
(أَوْلَادُ عَدْنَانَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَمِنْ عَدْنَانَ تَفَرَّقَتْ الْقَبَائِلُ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عليهما السلام، فَوَلَدَ عَدْنَانُ رَجُلَيْنِ: مَعَدَّ بْنَ عَدْنَانَ، وَعَكَّ بْنَ عَدْنَانَ.
(مَوْطِنُ عَكٍّ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَصَارَتْ عَكٌّ فِي دَارِ الْيَمَنِ، وَذَلِكَ أَنَّ عَكَّا تَزَوَّجَ فِي الْأَشْعَرِيِّينَ فَأَقَامَ فِيهِمْ، فَصَارَتْ الدَّارُ وَاللُّغَةُ وَاحِدَةً، وَالْأَشْعَرِيُّونَ بَنُو أَشْعَرَ بْنِ نَبْتِ بْنِ أُدَدَ بْنِ زَيْدِ [٢] بْنِ هُمَيْسِعِ [٣] بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ [٤] بْنِ يَشْجُبَ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ ابْن سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ، وَيُقَالُ: أَشْعَرُ [٥]: نَبْتُ بْنُ أُدَدَ، وَيُقَالُ: أَشْعَرُ: ابْنُ مَالِكٍ. وَمَالِكٌ: مَذْحجُ بْنُ أُدَدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ هُمَيْسِعِ. وَيُقَالُ أَشْعَرُ: ابْنُ [٦] سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ.
وَأَنْشَدَنِي أَبُو مُحْرِزٍ خَلَفٌ الْأَحْمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، لِعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ، أَحَدِ بَنِي سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، يَفْخَرُ بِعَكِّ:
[٢] وَيُقَال فِيهِ: زند (بالنُّون) كَمَا يُقَال إِنَّه هُوَ الهميسع. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[٣] كَذَا فِي أ، وَهِي الرِّوَايَة الَّتِي اتّفقت عَلَيْهَا المراجع الَّتِي بَين أَيْدِينَا، وَفِي م: مهسع، وَلم نجد مرجعا يُؤَيّد هَذِه الرِّوَايَة. والهميسع بِفَتْح الْهَاء على وزن السميدع، وَبَعض النسابين يرويهِ بِالضَّمِّ، وَالصَّوَاب الْفَتْح. (رَاجع أصُول الأحساب) .
[٤] الّذي فِي أصُول الأحساب: «يشجب بن عريب» .
[٥] كَذَا فِي أ. وَهَذَا مَا ذهب إِلَيْهِ الجواني فِي كِتَابه أصُول الأحساب، وَقد ذكر أَن أَوْلَاد أدد هم:
مَالك (مذْحج) وأشعر (نبت) وطين (جلهمة) وَمرَّة. وَفِي م، ر: أشعر بن نبت، وَالظَّاهِر أَن كلمة «بن» مقحمة.
[٦] فِي أصُول الأحساب: أَن هَذَا رأى الصِّحَاح، وَأَنه رأى خاطئ.
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَغَسَّانُ: مَاءٌ بِسَدِّ مَأْرِبَ [٢] بِالْيَمَنِ، كَانَ شِرْبًا لِوَلَدِ مَازِنِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ فَسُمُّوا بِهِ، وَيُقَالُ: غَسَّانُ: مَاءٌ بِالْمُشَلَّلِ [٣] قَرِيبٌ مِنْ الْجُحْفَةِ [٤]، وَاَلَّذِينَ شَرِبُوا مِنْهُ [٥] فَسُمُّوا بِهِ قَبَائِلُ مِنْ وَلَدِ مَازِنِ بْنِ الْأَسْدِ [٦] ابْن الْغَوْثِ بْنِ نَبْتِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ ابْن قَحْطَانَ. قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ- وَالْأَنْصَارُ بَنُو الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، ابْنَيْ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ حَارِثَة بن أَمْرِي الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ:
[٢] قَالَ المرحوم أَمِين بك واصف فِي كِتَابه فهرست المعجم الجغرافى: «سبأ» أَو مأرب، أَو مارب من غير همز، (وَهُوَ الصَّحِيح فِيهِ): مَدِينَة كَانَت بِقرب موقع صنعاء الْيمن، بناها عبد شمس بن يشجب من مُلُوك حمير، وَهُوَ الّذي بنى أَيْضا السد الْكَبِير لتخزين مياه الأمطار. وانفجر يَوْمًا فَكَانَ الْغَرق الشهير الْمَعْرُوف بسيل العرم، وَتَفَرَّقَتْ على أَثَره قبائل بنى قحطان، فَكَانَ مِنْهُم أهل الْحيرَة على الْفُرَات، وَأهل غَسَّان ببادية الشَّام، وَلَا تزَال آثَار السد بَاقِيَة.
وَقَالَ فِي مَوضِع آخر:
«لما تفرق بَنو قحطان بعد سيل العرم رَحل آل جَفْنَة من الْيمن، والأزد من بنى كهلان، إِلَى الشَّام، ونزلوا بِمَاء يُقَال لَهُ غَسَّان، فسموا بِهِ، وَأَقَامُوا ببادية الشَّام، وتزاحموا مَعَ سليح، فغلبوهم على أَمرهم، وأخرجوهم من دِيَارهمْ، وَبَقِي الغساسنة ملوكا بِالشَّام أَكثر من أَرْبَعمِائَة سنة، وأولهم جَفْنَة بن عَمْرو بن ثَعْلَبَة، وَآخرهمْ جبلة السَّادِس ابْن الْأَيْهَم، وَصَاحب الحَدِيث الْمَشْهُور مَعَ عمر بن الْخطاب فِي إِسْلَامه وتنصره وفراره إِلَى الرّوم، وَقد سقنا الرأيين هُنَا لما بَينهمَا من خلاف.
[٣] المشلل (بِالضَّمِّ ثمَّ الْفَتْح وَفتح اللَّام أَيْضا): جبل وَرَاء عزور (وَاد قريب من الْمَدِينَة) يهْبط مِنْهُ إِلَى قديد من نَاحيَة الْبَحْر. قَالَ العرجى:
أَلا قل لمن أَمْسَى بِمَكَّة قاطنا … وَمن جَاءَ من عمق ونقب المشلل
دعوا الْحَج لَا تستهلكوا نفقاتكم … فَمَا حج هَذَا الْعَام بالمتقبل
(رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ لياقوت، ومعجم مَا استعجم للبكرى) .
[٤] الْجحْفَة (بِالضَّمِّ ثمَّ السّكُون وَالْفَاء): قَرْيَة كَانَت كَبِيرَة ذَات مِنْبَر على طَرِيق الْمَدِينَة من مَكَّة على أَربع مراحل، وَهِي مِيقَات أهل مصر وَالشَّام إِن لم يمروا على الْمَدِينَة، فَإِن مروا بِالْمَدِينَةِ فميقاتهم ذُو الحليفة، وَكَانَ اسْمهَا مهيعة، وَإِنَّمَا سميت الْجحْفَة لِأَن السَّيْل اجتحفها وَحمل أَهلهَا فِي بعض الأعوام، وَهِي الْآن خراب. (عَن مُعْجم الْبلدَانِ) .
[٥] كَذَا فِي أ. وَفِي م، ر: «… شربوا مِنْهُ تحزبوا فسموا بِهِ … إِلَخ» وَالظَّاهِر أَن كلمة تحزبوا مقحمة.
[٦] وَيُقَال فِيهِ الأزد أَيْضا.
[١] وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
فَقَالَتْ الْيَمَنُ: وَبَعْضُ عَكٍّ، وَهُمْ الَّذِينَ بِخُرَاسَانَ مِنْهُمْ، عَكُّ بْنُ عَدْنَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ [٢]، وَيُقَالُ: عُدْثَانَ [٣] بْنُ عَبْدِ اللَّهِ [٤] بْنِ الْأَسْدِ ابْن الْغَوْثِ.(أَوْلَادُ مَعَدٍّ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلَدَ مَعَدُّ بْنُ عَدْنَانَ [٥] أَرْبَعَةَ نَفَرٍ: نِزَارَ بْنَ مَعَدٍّ، وَقُضَاعَةَ ابْن مَعَدٍّ، وَكَانَ قُضَاعَةُ بِكْرَ [٦] مَعَدٍّ الَّذِي بِهِ يُكَنَّى فِيمَا يَزْعُمُونَ، وقُنُصُ بْنَ مَعَدٍّ، وَإِيَادَ بْنَ مَعَدٍّ.
فَأَمَّا قُضَاعَةُ فَتَيَامَنَتْ إلَى حِمْيَرِ بْنِ سَبَأٍ- وَكَانَ اسْمُ سَبَأٍ عَبْدَ شَمْسٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ سَبَأً، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَبَى فِي الْعَرَبِ- ابْنِ يَشْجُبَ [٧] بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ.
(قُضَاعَةُ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَقَالَتْ الْيَمَنُ وَقُضَاعَةُ: قُضَاعَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ حِمْيَرَ [٨] . وَقَالَ
يَا أُخْت آل فراس إِنَّنِي رجل … من معشر لَهُم فِي الْمجد بُنيان
[٢] وَبِهَذَا قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كِتَابه المعارف، وَابْن دُرَيْد: فِي الِاشْتِقَاق، والجواني: فِي أصُول الأحساب.
[٣] كَذَا فِي أ. وَقد نَقله الجواني أَيْضا فِي أصُول الأحساب عَن الْأَفْطَس الطرابلسي النسابة بعد مَا سَاق الرأى الأول، وَفِي م، ر «عدنان» بالنُّون.
[٤] فِي الأَصْل: «عدثان (عدنان) بن الديث بن عبد الله … إِلَخ» . وَالظَّاهِر أَن كلمة «بن الديث» مقحمة، فَكل الَّذين عرضوا لعك بن عدنان الَّذين فِي الأزد من النسابة لم يذكرُوا فِي نسبهم غير الرأيين السَّابِقين.
[٥] لَا خلاف بَين النسابين فِي أَن نزار هُوَ ابْن معد، وَأما سَائِر ولد معد فمختلف فيهم، وَفِي عَددهمْ.
[٦] الْبكر: أول ولد الرجل، وَأَبوهُ بكر، والثني: وَلَده الثَّانِي، وَأَبوهُ ثنى، وَالثَّالِث: وَلَده الثَّالِث، وَلَا يُقَال للْأَب ثلث، كَمَا لَا يُقَال بعد الثَّالِث شَيْء من هَذَا.
[٧] فِي الأَصْل: «ابْن يعرب بن يشجب» . والتصويب عَن شرح السِّيرَة.
[٨] يخْتَلف النسابون- كَمَا رَأَيْت- فِي نسب قضاعة، فَمنهمْ من جعله فِي معد، وَمِنْهُم من نسبه إِلَى مَالك بن حمير، وَقد سَاق الْمُؤلف قَول ابْن مرّة سندا للرأى الثَّانِي، وَمِمَّا يحْتَج بِهِ أَصْحَاب الرأى الأول، قَول زُهَيْر:
نَحْنُ بَنُو الشَّيْخِ الْهِجَانِ الْأَزْهَرَ [٣] … قُضَاعَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ حِمْيَرِ [٤] النَّسَبِ الْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ … فِي الْحَجَرِ الْمَنْقُوشِ تَحْتَ الْمِنْبَرِ
[٥](قُنُصُ بْنُ مَعَدٍّ، وَنَسَبُ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَمَّا قُنُصُ بْنُ مَعَدٍّ فَهَلَكَتْ بَقِيَّتُهُمْ- فِيمَا يَزْعُمُ نُسَّابُ مَعَدٍّ- وَكَانَ مِنْهُمْ النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ مَلِكُ الْحِيرَةِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ: أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ كَانَ مِنْ وَلَدِ قُنُصِ بْنِ مَعَدٍّ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: قَنَصَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ:
فَفِيهِ أَن قضاعة وَمُضر أَخَوان، كَمَا يحتجون بأشعار كَثِيرَة للبيد وَغَيره. وللكميت يُعَاتب قضاعة على انتسابهم إِلَى الْيمن:
علام نزلتم من غير فقر … وَلَا ضراء منزلَة الْحميل
(والحميل: المسبى، لِأَنَّهُ يحمل من بلد إِلَى بلد) .
وَإِذا عرفنَا أَن امْرَأَة مَالك بن حمير- وَاسْمهَا عكبرة- آمت مِنْهُ وَهِي ترْضع قضاعة، فَتَزَوجهَا معد، فَتَبَنَّاهُ وتكنى بِهِ، وَهَذَا كثير فِي الْعَرَب- فقد نسب بَنو عبد مَنَاة بن كنَانَة إِلَى على بن مَسْعُود بن مَازِن بن الذِّئْب الْأَسدي، لِأَنَّهُ كَانَ حاضن أَبِيهِم وَزوج أمّهم- إِذا عرفنَا هَذَا استطعنا أَن نَعْرِف السِّرّ فِي اخْتِلَاف النسابين، وَأَن للرأيين نَصِيبا من الصِّحَّة.
[١] ويكنى أَبَا مرّة، وَهُوَ من أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ، وَله عَنهُ حديثان أَحدهمَا فِي أَعْلَام النُّبُوَّة، وَالْآخر: «من ولى أَمر النَّاس فسد بَابه دون ذوى الْحَاجة والخلة والمسكنة، سد الله بَابه دون حَاجته وَخلته ومسكنته يَوْم الْقِيَامَة» .
[٢] يجوز فِي «الحاف» قطع الْهمزَة وَكسرهَا، كَأَنَّهُ سمى بمصدر ألحف، وَيجوز أَن يكون اسْم الْفَاعِل من حفى يحفى.
[٣] الهجان: الْكَرِيم، والأزهر: الْمَشْهُور.
[٤] أول هَذَا الرجز:
يَا أَيهَا الدَّاعِي ادعنا وَابْشَرْ … وَكن قضاعيا وَلَا تنزر
[٥] هَذَا الشّطْر الْأَخير سَاقِط فِي أ. وَيُقَال إِن هَذَا الشّعْر لأفلح بن اليعبوب. (رَاجع الرَّوْض الْأنف للسهيلى) .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَمَّا سَائِرُ الْعَرَبِ فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ، مِنْ وَلَدِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ، فاللَّه أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.(نَسَبُ لَخْمِ بْنِ عَدِيٍّ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: لَخْمُ: ابْنُ عَدِيِّ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ أُدَدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ هُمَيْسِعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ، وَيُقَالُ:
لَخْمُ: ابْنُ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَبَأٍ، وَيُقَالُ: رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرِ [٥] بْنِ أَبِي حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، وَكَانَ تَخَلَّفَ بِالْيَمَنِ بَعْدَ خُرُوجِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مِنْ الْيَمَنِ.
[٢] سلحه إِيَّاه: قَلّدهُ إِيَّاه، وَجعله سِلَاحا لَهُ.
[٣] الأشلاء: البقايا. وَكَانَ السَّبَب فِي هَلَاك أَوْلَاد قنص أَنهم لما كَثُرُوا وانتشروا بالحجاز وَقعت بَينهم وَبَين أَبِيهِم حَرْب، وتضايقوا فِي الْبِلَاد، وأجدبت بهم الأَرْض، فَسَارُوا نَحْو سَواد الْعرَاق، وَذَلِكَ أَيَّام مُلُوك الطوائف، فَقَاتلهُمْ الأردانيون وَبَعض مُلُوك الطوائف، وأجلوهم عَن السوَاد، وقتلوهم إِلَّا أشلاء لحقت بقبائل الْعَرَب، ودخلوا فيهم، وانتسبوا إِلَيْهِم.
[٤] وَقيل إِن النُّعْمَان بن الْمُنْذر كَانَ من ولد عجم بن قنص، إِلَّا أَن النَّاس لم يدروا مَا عجم، فَجعلُوا مَكَانَهُ لخما، فَقَالُوا: هُوَ من لخم. (رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[٥] وَيُقَال: هُوَ نصر بن مَالك بن شعوذ بن مَالك بن عجم بن عَمْرو بن نمارة من لخم (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مِنْ الْيَمَنِ- فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ- أَنَّهُ رَأَى جُرَذًا [١] يَحْفِرُ فِي سَدِّ مَأْرِبٍ، الَّذِي كَانَ يَحْبِسُ عَلَيْهِمْ الْمَاءَ، فَيُصَرِّفُونَهُ حَيْثُ شَاءُوا مِنْ أَرْضِهِمْ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلسَّدِّ عَلَى ذَلِكَ، فَاعْتَزَمَ عَلَى النُّقْلَةِ مِنْ الْيَمَنِ، فَكَادَ قَوْمَهُ، فَأَمَرَ أَصْغَرَ وَلَدِهِ إذَا أَغْلَظَ لَهُ وَلَطَمَهُ أَنْ يَقُومَ إلَيْهِ فَيَلْطِمَهُ، فَفَعَلَ ابْنُهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَقَالَ عَمْرٌو: لَا أُقِيمُ بِبَلَدِ لَطَمَ وَجْهِي فِيهِ أَصْغَرُ وَلَدِي، وَعَرَضَ أَمْوَالَهُ. فَقَالَ أَشْرَافٌ مِنْ أَشْرَافِ الْيَمَنِ: اغْتَنِمُوا غَضْبَةَ عَمْرٍو، فَاشْتَرَوْا مِنْهُ أَمْوَالَهُ. وَانْتَقَلَ فِي وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ. وَقَالَتْ الْأَزْدُ: لَا نَتَخَلَّفُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، فَبَاعُوا أَمْوَالَهُمْ، وَخَرَجُوا مَعَهُ، فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا بِلَادَ عَكٍّ مُجْتَازِينَ يَرْتَادُونَ الْبُلْدَانَ، فَحَارَبَتْهُمْ عَكٌّ، فَكَانَتْ حَرْبُهُمْ سِجَالًا [٢] . فَفِي ذَلِكَ قَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ الْبَيْتَ الَّذِي كَتَبْنَا [٣] . ثُمَّ ارْتَحَلُوا عَنْهُمْ فَتَفَرَّقُوا فِي الْبُلْدَانِ، فَنَزَلَ آلُ جَفْنَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الشَّامَ، وَنَزَلَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ يَثْرِبَ، وَنَزَلَتْ خُزَاعَةُ مَرَّا [٤]، وَنَزَلَتْ أَزْد السّراة السَّرَاةَ [٥]، وَنَزَلَتْ أَزْدُ عَمَّانَ عُمَانَ، ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى السَّدِّ السَّيْلَ فَهَدَمَهُ، فَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ، جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ، كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ٣٤: ١٥- ١٦.
[٢] السجال: أَن يغلب هَؤُلَاءِ مرّة وَهَؤُلَاء مرّة. وَأَصله من المساجلة فِي الاستقاء، وَهُوَ أَن يخرج المستقى من المَاء مثل مَا يخرج صَاحبه.
[٣] رَاجع هَذَا الْبَيْت وَالتَّعْلِيق عَلَيْهِ (فِي أول ص ٩ من هَذَا الْجُزْء) .
[٤] مر: هُوَ الّذي يُقَال لَهُ مر الظهْرَان، وَمر ظهران، وَهُوَ مَوضِع على مرحلة من مَكَّة.
[٥] قَالَ الْأَصْمَعِي: الطود: جبل مشرف على عَرَفَة ينقاد إِلَى صنعاء يُقَال لَهُ السراة، وَإِنَّمَا سمى بذلك لعلوه، يُقَال لَهُ سراة ثَقِيف، ثمَّ سراة فهم وعدوان، ثمَّ سراة الأزد. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
قَالَ الْأَعْشَى: أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفْصَى بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدٍّ.
– قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: أَفْصَى بْنِ دُعْمِيِّ بْنِ [١] جَدِيلَةَ، وَاسْمُ الْأَعْشَى، مَيْمُونُ بْنُ قَيْسِ بْنِ جَنْدَلِ بْنِ شَرَاحِيلَ بْنِ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ضُبَيْعَةَ بْنِ قَيْسِ ابْن ثَعْلَبَةَ:
وَفِي ذَاكَ لِلْمُؤْتَسِي أُسْوَةٌ [٢] … ومارِبُ عَفَّى [٣] عَلَيْهَا العَرِمْ
رُخَامٌ بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيرٌ … إذَا جَاءَ [٤] مَوَّارُهُ لَمْ يَرِمْ
فَأَرْوَى الزُّرُوعَ وَأَعْنَابَهَا … عَلَى سَعَةٍ مَاؤُهُمْ إذْ قُسِمْ
فَصَارُوا أيادي [٥] مَا يقدرُونَ … مِنْهُ عَلَى شُرْبِ [٦] طِفْلٍ فُطِمْ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ- وَاسْمُ ثَقِيفٍ قَسِيُّ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدٍّ بْنِ عَدْنَانَ:
مِنْ سَبَأِ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبَ إذْ … يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِهِ الْعَرِمَا
[٧] وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَتُرْوَى لِلنَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ، وَاسْمُهُ قَيْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَحَدُ بَنِي جَعْدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ.
وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ، مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ مَا ذَكَرْتُ مِنْ الِاخْتِصَارِ.
[٢] المؤتسى: المقتدى. والإسوة (بِالْكَسْرِ وَالضَّم): الِاقْتِدَاء.
[٣] ويروى: «نفى» وَمَعْنَاهَا: نحى.
[٤] مواره (بِضَم الْمِيم وَفتحهَا): تلاطم مَائه وتموجه.
[٥] أيادي: مُتَفَرّقين.
[٦] الشّرْب (بِالضَّمِّ): الْمصدر. و(بِالْكَسْرِ): الْحَظ والنصيب من المَاء.
[٧] فِي هَذَا الْبَيْت شَاهد على أَن العرم هُوَ السد.
أَمْرُ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرِ مَلِكِ الْيَمَنِ وَقِصَّةُ شِقٍّ وَسَطِيحٍ الْكَاهِنَيْنِ مَعَهُ
(رُؤْيَا رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ مَلِكُ الْيَمَنِ بَيْنَ أَضْعَافِ مُلُوكِ التَّبَابِعَةِ، فَرَأَى رُؤْيَا هَالَتْهُ، وَفَظِعَ [١] بِهَا فَلَمْ يَدَعْ كَاهِنًا، وَلَا سَاحِرًا، وَلَا عَائِفًا [٢] وَلَا مُنَجِّمًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ إلَّا جَمَعَهُ إلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إنِّي قَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي، وَفَظِعْتُ بِهَا، فَأَخْبِرُونِي بِهَا وَبِتَأْوِيلِهَا، قَالُوا لَهُ: اُقْصُصْهَا عَلَيْنَا نُخْبِرْكَ بِتَأْوِيلِهَا، قَالَ: إنِّي إنْ أَخْبَرْتُكُمْ بِهَا لَمْ أَطْمَئِنَّ إلَى خَبَرِكُمْ عَنْ تَأْوِيلِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَهَا إلَّا مَنْ عَرَفَهَا قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهَا. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ: فَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ يُرِيدُ هَذَا فَلْيَبْعَثْ إلَى سَطِيحٍ [٣] وَشِقٍّ [٤]، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُمَا، فَهُمَا يُخْبِرَانِهِ بِمَا سَأَلَ عَنْهُ.
(نَسَبُ سَطِيحٍ وَشِقٍّ):
وَاسْمُ سَطِيحٍ رَبِيعُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنِ بْنِ ذِئْبِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ مَازِنِ غَسَّانَ.
وَشِقٌّ: ابْنُ صَعْبِ بْنُ يَشْكُرَ بْنِ رُهْمِ بْنِ أَفْرَكَ بْنِ قَسْرِ [٥] بْنِ عَبْقَرَ بْنِ أَنْمَارِ بْنِ نِزَارٍ [٦]، وَأَنْمَارُ أَبُو بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ.
(نَسَبُ بَجِيلَةَ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَتْ: الْيَمَنُ وَبَجِيلَةُ: (بَنُو) [٧] أَنْمَارِ: بْنِ إرَاشِ
[٢] العائف: الّذي يزْجر الطير.
[٣] يُقَال: إِنَّمَا سمى سطيحا لِأَنَّهُ كَانَ كالبضعة الملقاة على الأَرْض، فَكَأَنَّهُ سطح عَلَيْهَا، ويروى عَن وهب بن مُنَبّه أَنه قَالَ: قيل لسطيح: أَنى لَك هَذَا الْعلم؟ فَقَالَ: لي صَاحب من الْجِنّ اسْتمع أَخْبَار السَّمَاء من طور سيناء حِين كلم الله تَعَالَى مِنْهُ مُوسَى عليه السلام، فَهُوَ يُؤدى إِلَى من ذَلِك مَا يُؤَدِّيه، وَقد ولد هُوَ وشق فِي الْيَوْم الّذي مَاتَت فِيهِ طريفة الكاهنة امْرَأَة عَمْرو بن عَامر.
[٤] يُقَال إِنَّه سمى كَذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ كشق إِنْسَان، كَمَا يُقَال إِن خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي كَانَ من وَلَده.
[٥] كَذَا فِي أ. وَفِي م، ر: «قيس» .
[٦] كَذَا فِي م، ر: وَهِي إِحْدَى رِوَايَات المعارف لِابْنِ قُتَيْبَة. وَفِي أ: «أَنْمَار بن أراش» .
[٧] زِيَادَة يقتضيها السِّيَاق.
ابْن لِحْيَانَ [١] بْنِ عَمْرِو بْنِ الْغَوْثِ بْنِ نَبْتِ [٢] بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ، وَيُقَالُ: إرَاشُ بْنُ عَمْرِو بْنِ لِحْيَانَ بْنِ الْغَوْثِ [٣] . وَدَارُ بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ يَمَانِيَّةٌ.
(رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ وَسَطِيحٌ) .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَبَعَثَ إلَيْهِمَا، فَقَدِمَ عَلَيْهِ سَطِيحٌ قَبْلَ شِقٍّ، فَقَالَ لَهُ: إنِّي رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي وَفَظِعْتُ بِهَا، فَأَخْبِرْنِي بِهَا، فَإِنَّكَ إنْ أَصَبْتَهَا أَصَبْتَ تَأْوِيلَهَا.
قَالَ: أَفْعَلُ، رَأَيْتُ حُمَمَهُ [٤] خَرَجَتْ مِنْ ظُلُمِهِ [٥]، فَوَقَعَتْ بِأَرْضِ تُهَمِهِ [٦]، فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ [٧] جُمْجُمَهُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا أَخْطَأْتَ مِنْهَا شَيْئًا يَا سَطِيحٌ، فَمَا عِنْدَكَ فِي تَأْوِيلِهَا؟ فَقَالَ: أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ [٨] مِنْ حَنَشٍ، لَتَهْبِطَنَّ أَرْضَكُمْ الْحَبَشُ [٩]، فَلَتَمْلِكَنَّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ [١٠] إلَى جُرَشَ [١١]، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ:
[٢] كَذَا فِي أوالاشتقاق لِابْنِ دُرَيْد. وَفِي م، ر: «نايت» .
[٣] وَيُقَال أَيْضا فِي نسب بجيلة وخثعم إنَّهُمَا ليسَا لأنمار، وَإِنَّمَا هما حليفان لوَلَده. (رَاجع المعارف لِابْنِ قُتَيْبَة) .
[٤] الحممة: الفحمة، وَإِنَّمَا أَرَادَ فَحْمَة فِيهَا نَار.
[٥] من ظلمَة: أَي من ظلام، يعْنى من جِهَة الْبَحْر، يُرِيد خُرُوج عَسْكَر الْحَبَشَة من أَرض السودَان.
[٦] التُّهْمَة: الأَرْض المتصوبة نَحْو الْبَحْر.
[٧] قَالَ «كل ذَات» لِأَن الْقَصْد إِلَى النَّفس والنسمة، وَيدخل فِيهِ جَمِيع ذَوَات الْأَرْوَاح. (عَن الرَّوْض الْأنف) .
[٨] الْحرَّة: أَرض فِيهَا حِجَارَة سود متشيطة.
[٩] يُقَال إِنَّهُم بَنو حبش بن كوش بن حام بن نوح، وَبِه سميت الْحَبَشَة.
[١٠] أبين (بِفَتْح أَوله وبكسر، وَيُقَال: يبين، وَذكره سِيبَوَيْهٍ فِي الْأَمْثِلَة بِكَسْر الْهمزَة وَلَا يعرف أهل الْيمن غير الْفَتْح، وَحكى أَبُو حَاتِم قَالَ: سَأَلنَا أَبَا عُبَيْدَة: كَيفَ تَقول: عدن أبين أَو إبين؟ فَقَالَ:
أبين وإبين جَمِيعًا): مخلاف بِالْيمن مِنْهُ عدن، يُقَال إِنَّه سمى بأبين بن زُهَيْر بن أَيمن. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: عدن وَأبين ابْنا عدنان بن أدد، وَأنْشد الْفراء:
مَا من أنَاس بَين مصر وعالج … وَأبين إِلَّا قد تركنَا لَهُم وترا
وَنحن قتلنَا الأزد أَزْد شنُوءَة … فَمَا شربوا بعدا على لَذَّة خمرًا
وَقَالَ عمَارَة بن الْحسن الْيُمْنَى الشَّاعِر: أبين: مَوضِع فِي جبل عدن. (عَن مُعْجم الْبلدَانِ) .
[١١] جرش (بِالضَّمِّ ثمَّ الْفَتْح وشين مُعْجمَة): من مخاليف الْيمن من جِهَة مَكَّة، وَقيل: هِيَ مَدِينَة عَظِيمَة بِالْيمن، وَولَايَة وَاسِعَة. وَذكر بعض أهل السّير: أَن تبعا أسعد بن كلى كرب خرج من الْيمن غازيا
وَأَبِيكَ يَا سَطِيحُ، إنَّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ مُوجِعٌ، فَمَتَى هُوَ كَائِنٌ؟ أَفِي زَمَانِي هَذَا، أَمْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ بَعْدَهُ بِحِينِ، أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ أَوْ سَبْعِينَ، يَمْضِينَ مِنْ السِّنِينَ قَالَ: أَفَيَدُومُ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِهِمْ أَمْ يَنْقَطِعُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ يَنْقَطِعُ لِبِضْعِ وَسَبْعِينَ مِنْ السِّنِينَ، ثُمَّ يُقْتَلُونَ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا هَارِبِينَ، قَالَ: وَمَنْ يَلِي مِنْ ذَلِكَ مِنْ قَتْلِهِمْ وَإِخْرَاجِهِمْ؟ قَالَ: يَلِيهِ إرَمُ (بْنُ) [١] ذِي يَزَنَ [٢]، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَنَ، فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ، قَالَ: أَفَيَدُومُ ذَلِكَ مِنْ سُلْطَانِهِ، أَمْ يَنْقَطِعُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ يَنْقَطِعُ، قَالَ: وَمَنْ يَقْطَعُهُ؟ قَالَ: نَبِيٌّ [٣] زَكِيٌّ، يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيِّ، قَالَ: وَمِمَّنْ هَذَا النَّبِيُّ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ، يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ، قَالَ: وَهَلْ لِلدَّهْرِ مِنْ آخِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَوْمٌ يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، يَسْعَدُ فِيهِ الْمُحْسِنُونَ، وَيَشْقَى فِيهِ الْمُسِيئُونَ قَالَ: أَحَقٌّ مَا تُخْبِرُنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَالشَّفَقُ وَالْغَسَقُ، وَالْفَلَقُ إذَا اتَّسَقَ، إنَّ مَا أَنْبَأْتُكَ بِهِ لَحَقٌّ.
(رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ وَشِقٌّ):
ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ شِقٌّ، فَقَالَ لَهُ كَقَوْلِهِ لِسَطِيحِ، وَكَتَمَهُ مَا قَالَ سَطِيحٌ، لِيَنْظُرَ أَيَتَّفِقَانِ أَمْ يَخْتَلِفَانِ، فَقَالَ: نَعَمْ، رَأَيْتُ حُمَمَهُ، خَرَجَتْ مِنْ ظُلُمِهِ، فَوَقَعَتْ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَهْ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ نَسَمَهْ.
[١] زِيَادَة يقتضيها السِّيَاق.
[٢] الْمَعْرُوف: سيف بن ذِي يزن، وَلكنه جعله إرما، إِمَّا لِأَن الإرم هُوَ الْعلم فمدحه بذلك، وَإِمَّا أَن يكون أَرَادَ تشبيهه بعاد إرم فِي عظم الْخلق وَالْقُوَّة. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[٣] قد عمر سطيح زَمَانا طَويلا بعد هَذَا الحَدِيث، حَتَّى أدْرك مولد النَّبِي ﷺ، وَحَتَّى رأى كسْرَى أنوشروان مَا رأى من ارتجاس الإيوان، وخمود النيرَان، فَأرْسل كسْرَى عبد الْمَسِيح بن عَمْرو- وَكَانَ سطيح من أخوال عبد الْمَسِيح- فَقدم عبد الْمَسِيح على سطيح، وَقد أشفى على الْمَوْت، وَله مَعَه حَدِيث ترَاهُ مَبْسُوطا فِي كتب التَّارِيخ.
٢- سيرة ابْن هِشَام- ١
«وَقَعَتْ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَهْ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ نَسَمَهْ» .
فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا أَخْطَأْتَ يَا شِقُّ مِنْهَا شَيْئًا، فَمَا عِنْدَكَ فِي تَأْوِيلِهَا؟ قَالَ:
أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ مِنْ إنْسَانٍ، لَيَنْزِلَنَّ أَرْضَكُمْ السُّودَانُ، فَلَيَغْلِبُنَّ عَلَى كُلِّ طَفْلَةِ [١] الْبَنَانِ، وَلَيَمْلِكُنَّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إلَى نَجْرَانَ.
فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: وَأَبِيكَ يَا شِقُّ، إنَّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ مُوجِعٌ، فَمَتَى هُوَ كَائِنٌ؟
أَفِي زَمَانِي، أَمْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ بَعْدَهُ بِزَمَانِ، ثُمَّ يَسْتَنْقِذُكُمْ مِنْهُمْ عَظِيمٌ ذُو شَأْنٍ، وَيُذِيقُهُمْ أَشَدَّ الْهَوَانِ، قَالَ: وَمَنْ هَذَا الْعَظِيمُ الشَّانِ؟ قَالَ: غُلَامٌ لَيْسَ بِدَنِيِّ، وَلَا مُدَنٍّ [٢]، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ ذِي يَزَنَ، (فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ) [٣]، قَالَ: أَفَيَدُومُ سُلْطَانُهُ، أَمْ يَنْقَطِعُ؟ قَالَ: بَلْ يَنْقَطِعُ بِرَسُولِ مُرْسَلٍ يَأْتِي بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ، يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إلَى يَوْمِ الْفَصْلِ، قَالَ: وَمَا يَوْمُ الْفَصْلِ؟ قَالَ: يَوْمٌ تُجْزَى فِيهِ الْوُلَاةُ، وَيُدْعَى فِيهِ مِنْ السَّمَاءِ بِدَعَوَاتِ، يَسْمَعُ مِنْهَا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، وَيُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ لِلْمِيقَاتِ، يَكُونُ فِيهِ لِمَنْ اتَّقَى الْفَوْزُ وَالْخَيْرَاتُ، قَالَ: أَحَقٌّ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: إِي وَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ رَفْعٍ وَخَفْضٍ، إنَّ مَا أَنْبَأْتُكَ بِهِ لَحَقٌّ مَا فِيهِ أَمْضِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَمْضِ: يَعْنِي شَكَّا، هَذَا بِلُغَةِ حِمْيَرَ، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: أَمْضِ أَيْ بَاطِلٌ.(هِجْرَةُ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ إلَى الْعِرَاقِ):
فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ مَا قَالَا. فَجَهَّزَ بَنِيهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ إلَى الْعِرَاقِ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَكَتَبَ لَهُمْ إلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ يُقَالُ لَهُ سَابُورُ بْنُ خُرَّزاذَ، فَأَسْكَنَهُمْ الْحِيرَةَ.
[٢] الْمدنِي: «بِصِيغَة اسْم الْفَاعِل» المقصر فِي الْأُمُور أَو الّذي يتبع خسيسها. وَفِي ابْن الْأَثِير:
«مزن» من أزننته بِكَذَا: أَي اتهمته بِهِ.
[٣] زِيَادَة عَن أ.
فَمِنْ بَقِيَّةِ وَلَدِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ، فَهُوَ فِي نَسَبِ الْيَمَنِ وَعِلْمِهِمْ [١] النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ، ذَلِكَ الْمَلِكُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْمُنْذِرِ، فِيمَا أَخْبَرَنِي خَلَفٌ الْأَحْمَرُ.اسْتِيلَاءُ أَبِي كَرِبٍ تُبَّانَ أَسْعَدَ عَلَى مَلِكِ الْيَمَنِ وَغَزْوِهِ إلَى يَثْرِبَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا هَلَكَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ رَجَعَ مُلْكُ الْيَمَنِ كُلُّهُ إلَى حَسَّانِ بْنِ تُبَّانَ أَسْعَدَ [٢] أَبِي كَرِبٍ- وَتُبَّانُ أَسْعَدُ هُوَ تُبَّعٌ الْآخِرُ- ابْنُ كُلِي كَرِبِ [٣] بْنِ زَيْدٍ، وَزَيْدٌ هُوَ تُبَّعٌ الْأَوَّلُ بْنُ عَمْرِو ذِي [٤] الْأَذْعَارِ [٥] بْنِ أَبْرَهَةَ ذِي الْمَنَارِ [٦] بْنِ الرِّيشِ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ الرَّائِشُ- قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ابْنَ عَدِيِّ [٧] بْنِ صَيْفِيِّ ابْن سَبَأٍ الْأَصْغَرِ بْنِ كَعْبٍ، كَهْفِ الظُّلْمِ [٨]، بْنِ زَيْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَمْرِو
[٢] تبان أسعد: اسمان جعلا اسْما وَاحِدًا، كَمَا هِيَ الْحَال فِي معديكرب. وتبان من التبانة، وَهِي الذكاء والفطنة.
[٣] كَذَا فِي جَمِيع المراجع الَّتِي بَين أَيْدِينَا، وَفِي الأَصْل «كليككرب» وَهُوَ تَحْرِيف.
[٤] اتّفق أَبُو الْفِدَاء وَابْن جرير مَعَ ابْن إِسْحَاق على أَن ذَا الأذعار هُوَ عَمْرو، وَخَالَفَهُمَا المَسْعُودِيّ فِي «مروج الذَّهَب» فَقَالَ إِن فَقَالَ إِن اسْمه العَبْد بن أَبْرَهَة، كَمَا ذهب ابْن دُرَيْد فِي كِتَابه «الِاشْتِقَاق» إِلَى أَن ذَا الأذعار هُوَ تبع، وَلم يقف الْخلاف فِي المراجع الَّتِي بَين أَيْدِينَا عِنْد هَذَا فِي مُلُوك الْيمن، بل تجاوزه إِلَى كثير غَيره رَأينَا عدم إثْبَاته، إِذْ لَا طائل تَحْتَهُ.
[٥] سمى ذَا الأذعار لِأَنَّهُ- كَمَا زعم ابْن الْكَلْبِيّ- جلب النسناس إِلَى الْيمن فذعر النَّاس، وَهُوَ قَول يحْتَاج إِلَى تمحيص. (رَاجع الِاشْتِقَاق، وَشرح السِّيرَة لأبى ذَر) .
[٦] قيل سمى ذَا الْمنَار لِأَنَّهُ غزا غزوا بَعيدا، وَكَانَ بيني على طَرِيقه الْمنَار ليستدل بِهِ إِذا رَجَعَ. (عَن شرح السِّيرَة) .
[٧] فِي الطَّبَرِيّ «قيس» .
[٨] يُرِيد أَن الظَّالِم كَانَ يلجأ إِلَيْهِ، ويعتمد عَلَيْهِ، فينصره.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يَشْجُبُ: ابْنُ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ [٢] .(شَيْءٌ مِنْ سِيرَةِ تُبَّانَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَتُبَّانُ أَسْعَدُ أَبُو كَرِبٍ الَّذِي قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَسَاقَ الْحِبْرَيْنِ مِنْ يَهُودِ (الْمَدِينَةِ) [٣] إلَى الْيَمَنِ، وَعَمَّرَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَكَسَاهُ، وَكَانَ مُلْكُهُ قَبْلَ مُلْكِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ [٤] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ:
لَيْتَ حَظِّي مِنْ أَبِي كَرِبٍ … أَنْ يَسُدَّ خَيْرُهُ خَبَلَهُ
[٥]
(غَضَبُ تُبَّانَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ قَدْ جَعَلَ طَرِيقَهُ- حِينَ أَقْبَلَ مِنْ الْمَشْرِقِ- عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ قَدْ مَرَّ بِهَا فِي بَدْأَتِهِ فَلَمْ يَهِجْ أَهْلَهَا، وَخَلَّفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ابْنًا لَهُ، فَقُتِلَ غِيلَةً، فَقَدِمَهَا وَهُوَ مُجْمِعٌ لِإِخْرَابِهَا، وَاسْتِئْصَالِ أَهْلِهَا، وَقَطْعِ نَخْلِهَا [٦]، فَجُمِعَ لَهُ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَرَئِيسُهُمْ عَمْرُو بْنُ طَلَّةَ أَخُو بَنِي النَّجَّارِ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ. وَاسْمُ مَبْذُولٍ: عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَاسْمُ النَّجَّارِ:
[٢] وعَلى هَذَا الرأى جَمِيع المراجع الَّتِي بَين أَيْدِينَا.
[٣] زِيَادَة عَن أ.
[٤] الّذي فِي مروج الذَّهَب: أَن تبع بن حسان بن كل كرب هُوَ صَاحب هَذِه الْحَادِثَة.
[٥] الخبل: الْفساد، وَقد نسب هَذَا الْبَيْت إِلَى الْأَعْشَى خطأ، وَإِنَّمَا هُوَ لعجوز من بنى سَالم يُقَال إِن اسْمهَا جميلَة، قالته حِين جَاءَ ملك بن العجلان بِخَبَر تبع.
[٦] وَقيل: إِن تبعا لم يقْصد غزوها، وَإِنَّمَا قصد قتل الْيَهُود الَّذين كَانُوا فِيهَا، وَذَلِكَ أَن الْأَوْس والخزرج كَانُوا نزلوها مَعَهم حِين خَرجُوا من الْيمن على شُرُوط وعهود كَانَت بَينهم فَلم يَفِ لَهُم بذلك الْيَهُود واستضاموهم، فاستغاثوا بتبع، فَعِنْدَ ذَلِك قدمهَا. كَمَا قيل: إِن هَذَا الْخَبَر كَانَ لأبى جبلة الغساني. (رَاجع شرح السِّيرَة لأبى ذَر) .
تَيْمُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ.
(نَسَبُ عَمْرِو بْنِ طَلَّةَ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَمْرُو بْنُ طَلَّةَ: عَمْرُو بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ ابْن النَّجَّارِ، وَطَلَّةُ أُمُّهُ، وَهِيَ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ [١] بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ ابْن غَضْبِ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ.
(سَبَبُ قِتَالِ تُبَّانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، يُقَالُ لَهُ أَحْمَرُ، عَدَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ تُبَّعٍ حِينَ نَزَلَ بِهِمْ فَقَتَلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَجَدَهُ فِي عَذْقٍ [٢] لَهُ يَجُدُّهُ [٣] فَضَرَبَهُ بِمِنْجَلِهِ فَقَتَلَهُ، وَقَالَ: إنَّمَا التَّمْرُ لِمَنْ أَبَّرَهُ [٤] . فَزَادَ ذَلِكَ تُبَّعًا حَنَقًا عَلَيْهِمْ، فَاقْتَتَلُوا. فَتَزْعُمُ الْأَنْصَارُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَاتِلُونَهُ بِالنَّهَارِ، وَيَقْرُونَهُ [٥] بِاللَّيْلِ، فَيُعْجِبُهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَيَقُولُ: وَاَللَّهِ إنَّ قَوْمَنَا لَكِرَامٌ.
(انْصِرَافُ تُبَّانَ عَنْ إهْلَاكِ الْمَدِينَةِ، وَشِعْرُ خَالِدٍ فِي ذَلِكَ):
فَبَيْنَا تُبَّعٌ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِتَالِهِمْ، إذْ جَاءَهُ حَبْرَانِ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ- وَقُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَالنَّجَّامُ [٦] وَعَمْرٌو، وَهُوَ هَدَلُ [٧]، بَنُو الْخَزْرَجِ بْنِ الصَّرِيح بن التّوأمان [٨] بْنِ السِّبْطِ بْنِ الْيَسَعَ بْنِ سَعْدِ بْنِ لَاوِيِّ بْنِ خَيْرِ بْنِ النَّجَّامِ بْنِ تَنْحُومَ بْنِ عَازَرِ بْنِ عُزْرَى بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثِ [٩] ابْنِ لَاوَى بْنِ يَعْقُوبَ، وَهُوَ إسْرَائِيلُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، صَلَّى اللَّهُ
[٢] العذق (بِفَتْح الْعين): النَّخْلَة. (وبكسرها): الكباسة بِمَا عَلَيْهَا من التَّمْر.
[٣] يجده: يقطعهُ.
[٤] أبره: أصلحه.
[٥] يقرونه: يضيفونه، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ نازلا بهم.
[٦] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «النحام» بِالْحَاء الْمُهْملَة.
[٧] هُوَ بِفَتْح الْهَاء وَالدَّال، كَأَنَّهُ مصدر هدل، إِذا استرخت شفته. وَعَن ابْن مَاكُولَا عَن أَبى عَبدة النسابة أَنه بِسُكُون الدَّال. (عَن الرَّوْض الْأنف) .
[٨] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «التومان» .
[٩] وَفِي رِوَايَة: «قاهت» بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة.
أَصَحَّا أَمْ قَدْ نَهَى ذُكَرَهْ [٢] … أَمْ قَضَى مِنْ لَذَّةٍ وَطَرَهْ
أَمْ تَذَكَّرْتَ الشَّبَابَ وَمَا … ذِكْرُكَ الشَّبَابَ أَوْ عُصُرَهْ [٣] إنَّهَا حَرْبٌ رَبَاعِيَةٌ [٤] … مِثْلُهَا أَتَى الْفَتَى عِبَرَهْ
فَاسْأَلَا عِمْرَانَ أَوْ أَسَدًا … إذْ أَتَتْ عَدْوًا [٥] مَعَ الزُّهَرَهْ [٦] فَيْلَقٌ فِيهَا أَبُو كَرِبٍ … سُبَّغٌ أَبْدَانُهَا ذَفِرَهْ [٧] ثُمَّ قَالُوا: مَنْ نَؤُمُّ بِهَا … أَبَنِي عَوْف أَن النَّجَرَهْ [٨]
[٢] الذّكر: جمع ذكرة (كغرفة)، وَهِي بِمَعْنى الذكرى نقيض النسْيَان وَرِوَايَة هَذَا الشّطْر فِي الطَّبَرِيّ: أَصْحَاب أم انْتهى ذكره.
[٣] أَرَادَ: «أَو عصره» (بِالضَّمِّ) . وَالْعصر (بِفَتْح الْعين وَضمّهَا) بِمَعْنى، وحرك الصَّاد بِالضَّمِّ.
قَالَ ابْن جنى: وَلَيْسَ شَيْء على وزن فعل (بِسُكُون الْعين) يمْتَنع فِيهِ فعل.
[٤] يُرِيد: أَي لَيست بصغيرة وَلَا جَذَعَة، بل هِيَ فَوق ذَلِك، وَضرب من الرّبَاعِيّة مثلا، كَمَا يُقَال حَرْب عوان، لِأَن الْعوَان أقوى من الْفتية وأدرب.
[٥] ويروى: «غدوا» (بالغين الْمُعْجَمَة)، وَهُوَ الغدوة.
[٦] أَي صبحهمْ بِغَلَس قبل مغيب الزهرة، والزهرة: الْكَوْكَب الْمَعْلُوم. وَرِوَايَة هَذَا الْبَيْت فِي الطَّبَرِيّ
فسلا عمرَان أَو فسلا … أسدا إِذْ يَغْدُو مَعَ الزهرة
[٧] سبغ: كَامِلَة. والأبدان هُنَا: الدروع. وذفره: من الذفر، وَهُوَ سطوع الرَّائِحَة طيبَة كَانَت أَو كريهة، وَأما الدفر (بِالدَّال الْمُهْملَة) فَهُوَ فِيمَا كره من الروائح.
[٨] يُرِيد بنى النجار، وَهَذَا كَمَا قيل المناذرة فِي بنى الْمُنْذر. والنجرة: جمع ناجر، والناجر والنجار بِمَعْنى وَاحِد، وَبَنُو النجار: هم تيم الله بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن الْخَزْرَج وسمى النجار لِأَنَّهُ- فِيمَا ذكر- نجر وَجه رجل بقدوم.
سَيْدٌ سَامِي [٤] الْمُلُوكِ وَمَنْ … رَامَ عَمْرًا لَا يَكُنْ قَدَرَهْ
وَهَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ حَنَقُ تُبَّعٍ عَلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ يَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ هَلَاكَهُمْ فَمَنَعُوهُمْ مِنْهُ، حَتَّى انْصَرَفَ عَنْهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي شِعْرِهِ:
حَنَقًا عَلَى سَبْطَيْنِ حَلَّا يَثْرِبَا … أَوْلَى لَهُمْ بِعِقَابِ يَوْمٍ مُفْسِدِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الشِّعْرُ الَّذِي فِي هَذَا الْبَيْتِ مَصْنُوعٌ، فَذَلِكَ الَّذِي مَنَعَنَا مِنْ إثْبَاتِهِ.(اعْتِنَاقُ تُبَّانَ النصرانيَّةَ، وَكِسْوَتُهُ الْبَيْتَ وَتَعْظِيمَهُ وَشِعْرُ سُبَيعَةَ فِي ذَلِكَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ تُبَّعٌ وَقَوْمُهُ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا، فَتَوَجَّهَ إلَى مَكَّةَ، وَهِيَ طَرِيقُهُ إلَى الْيَمَنِ، حَتَّى إذَا كَانَ بَيْنَ عُسْفانَ، وَأَمَجٍ [٥]، أَتَاهُ نَفَرٌ مِنْ
وعَلى هَذَا تَقول: طلع الشَّمْس وَالْقَمَر، فتغلب الْمُذكر، كَأَنَّك قلت: طلع هَذَانِ النيرَان، فَإِن جعلت الْوَاو هِيَ الَّتِي تضمر بعْدهَا الْفِعْل. قلت طلعت الشَّمْس وَالْقَمَر، وَتقول فِي نفى الْمَسْأَلَة الأولى: مَا طلع الشَّمْس وَالْقَمَر، وَفِي نفى الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: مَا طلعت الشَّمْس وَلَا الْقَمَر، تعيد حرف النَّفْي لينتفى بِهِ الْفِعْل الْمُضمر (عَن الرَّوْض الْأنف) .
[٢] الغبية: الدفعة من الْمَطَر. والنثرة: المنتثرة، وَهِي الَّتِي لَا تمسك مَاء.
[٣] ملي الْإِلَه قومه: أمتعهم بِهِ.
[٤] سامى: سَاوَى. ويروى: «سَام»، أَي كلفهم أَن يَكُونُوا مثله، فَلم يقدروا على ذَلِك.
[٥] عسفان (بِضَم أَوله وَسُكُون ثَانِيَة ثمَّ فَاء وَآخره نون): فعلان من عسفت الْمَفَازَة، وَهُوَ يعسفها، وَهُوَ قطعهَا بِلَا هِدَايَة وَلَا قصد، وَكَذَلِكَ كل أَمر يركب بِغَيْر روية. قيل: سميت عسفان لتعسف اللَّيْل فِيهَا، كَمَا سميت الْأَبْوَاء لتبوّئ السَّيْل بهَا. قَالَ أَبُو مَنْصُور: عسفان: منهلة من مناهل الطَّرِيق بَين الْجحْفَة وَمَكَّة. وَقَالَ غَيره: عسفان: بَين المسجدين، وَهِي من مَكَّة على مرحلَتَيْنِ، وَقيل: عسفان: قَرْيَة جَامِعَة.
مَا أَرَادَ الْقَوْمُ إلَّا هَلَاكَكَ وَهَلَاكَ جُنْدِكَ، مَا نَعْلَمُ بَيْتًا للَّه اتَّخَذَهُ فِي الْأَرْضِ لِنَفْسِهِ غَيْرَهُ، وَلَئِنْ فَعَلْتَ مَا دَعَوْكَ إلَيْهِ لَتَهْلَكَنَّ وَلَيَهْلَكَنَّ مَنْ مَعَكَ جَمِيعًا، قَالَ: فَمَاذَا تَأْمُرَانِنِي أَنْ أَصْنَعَ إذَا أَنَا قَدِمْتُ عَلَيْهِ؟ قَالَا: تَصْنَعُ عِنْدَهُ مَا يَصْنَعُ أَهْلُهُ: تَطُوفُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ وَتُكْرِمُهُ، وَتَحْلِقُ رَأْسَكَ عِنْدَهُ، وَتَذِلُّ لَهُ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْتُمَا مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ إنَّهُ لَبَيْتُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ، وَإِنَّهُ لَكَمَا أَخْبَرْنَاكَ، وَلَكِنَّ أَهْلَهُ حَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ بِالْأَوْثَانِ الَّتِي نَصَبُوهَا حَوْلَهُ، وَبِالدِّمَاءِ الَّتِي يُهْرِقُونَ عِنْدَهُ، وَهُمْ نَجَسٌ أَهْلُ شِرْكٍ- أَوْ كَمَا قَالَا لَهُ- فَعَرَفَ نُصْحَهُمَا وَصِدْقَ حَدِيثِهِمَا فَقَرَّبَ النَّفَرَ مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَنَحَرَ عِنْدَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ سِتَّةَ أَيَّامٍ- فِيمَا يَذْكُرُونَ- يَنْحَرُ بِهَا لِلنَّاسِ، وَيُطْعِمُ أَهْلَهَا وَيَسْقِيهِمْ الْعَسَلَ، وَأُرَى فِي الْمَنَامِ أَنْ يَكْسُوَ الْبَيْتَ، فَكَسَاهُ الْخَصَفَ [١]، ثُمَّ أُرَى أَنْ يَكْسُوَهُ أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ، فَكَسَاهُ الْمَعَافِرَ [٢]، ثُمَّ أُرَى أَنْ يَكْسُوَهُ أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ، فَكَسَاهُ الْمُلَاءَ وَالْوَصَائِلَ [٣]، فَكَانَ تُبَّعٌ- فِيمَا يَزْعُمُونَ-
[١] الخصف: حصر تنسج من خوص النّخل وَمن الليف. فيسوى مِنْهَا شقق تلبس بيُوت الْأَعْرَاب.
[٢] المعافر: ثِيَاب تنْسب إِلَى قَبيلَة من الْيمن. وَأَصله الْمعَافِرِي، ثمَّ صَار اسْما لَهَا بِغَيْر نِسْبَة.
[٣] الملاء: جمع ملاءة، وَهِي الملحفة. والوصائل: ثِيَاب مخططة يمنية، يُوصل بَعْضهَا إِلَى بعض.
أَبُنَيَّ لَا تَظْلِمْ بِمَكَّةَ … لَا الصَّغِيرَ وَلَا الْكَبِيرْ
واحفظ محارمها بنىّ … وَلَا يَغُرَّنكَ الغَرورْ
أَبُنَيَّ مَنْ يَظْلِمْ بِمَكَّةَ … يَلْقَ أَطْرَافَ الشُّرورْ
أَنا أكسو الْكَعْبَة سنة وحدي، وَجَمِيع قُرَيْش سنة، وَاسْتمرّ يفعل ذَلِك إِلَى أَن مَاتَ. ثمَّ كساها النَّبِي ﷺ الثِّيَاب اليمانية، وَكَسَاهَا أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وعَلى. وكسيت فِي زمن الْمَأْمُون والمتوكل وَالْعَبَّاس، ثمَّ فِي زمن النَّاصِر العباسي كُسِيت السوَاد من الْحَرِير، ثمَّ هِيَ تُكْسَى إِلَى الْآن فِي كل سنة، وَيُقَال: إِن أول من كسا الْكَعْبَة الديباج الْحجَّاج، وَقيل: بل عبد الله بن الزبير.
[٢] كَذَا فِي ط، والطبري، والمئلاة: خرقَة الْحيض، وَجَمعهَا: المآلى، وَفِي سَائِر الْأُصُول «مثلاثا» بالثاء الْمُثَلَّثَة، وَلَا معنى لَهَا.
[٣] لَعَلَّه يُرِيد: المحيضة (وَاحِدَة المحايض)، وَهِي خرقَة الْحيض، إِذْ السِّيَاق يَقْتَضِي الْإِفْرَاد.
[٤] ويروون لتبع هَذَا شعرًا حِين كسا الْبَيْت، وَهُوَ:
كسونا الْبَيْت الّذي حرم الله … ملاء منضدا وبرودا
فَأَقَمْنَا بِهِ من الشَّهْر عشرا … وَجَعَلنَا لبَابَة إقليدا
ونحرنا بِالشعبِ سِتَّة ألف … فترى النَّاس نحوهن ورودا
ثمَّ سرنا عَنهُ نَؤُم مهيلا … فرفعنا لواءنا معقودا
[٥] وتروى الْكَلِمَة بِالْجِيم بدل الْحَاء.
[٦] زبينة (بالزاي وَالْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ الْيَاء وَالنُّون): فعيلة من الزَّبْن، وَالنّسب إِلَيْهَا زبانى على غير قِيَاس. وَلَو سمى بِهِ رجل لقيل فِي النّسَب إِلَيْهِ زبني على الْقيَاس.
[٧] وَقيل: إِنَّمَا قَالَت بنت الأحب هَذَا الشّعْر فِي حَرْب كَانَت بَين بنى السباق بن عبد الدَّار وَبَين بنى على بن سعد بن تيم حِين تفانوا، وَلَحِقت طَائِفَة من بنى السباق بعك فهم فيهم، وَيُقَال إِنَّه أول بغى كَانَ فِي قُرَيْش. (عَن الرَّوْض الْأنف) .
أَبُنَيَّ قَدْ جَرَّبْتهَا … فَوَجَدْتُ ظَالِمهَا يَبُورْ [١] اللَّهُ أَمَّنَهَا وَمَا … بُنِيَتْ بِعَرْصَتِهَا قُصورْ
وَاَللَّهُ أَمَّنَ طَيْرَهَا … وَالْعُصْمُ [٢] تَأْمَنُ فِي ثَبيرْ [٣] وَلَقَدْ غَزَاهَا تُبَّعٌ … فَكَسَا بَنِيَّتَهَا الْحَبِيرْ [٤] وَأَذَلَّ رَبِّي مُلْكَهُ … فِيهَا فَأَوْفَى بالنُّذُورْ
يَمْشِي إلَيْهَا حَافِيًا … بِفِنَائِهَا أَلْفَا بَعِيرْ
وَيَظَلُّ يُطْعِمُ أَهْلَهَا … لَحْمَ الْمَهَارَى [٥] والجَزورْ
يَسْقِيهِمْ الْعَسَلَ الْمُصَفَّى … وَالرَّحِيضَ [٦] مِنْ الشعيرْ
وَالْفِيلُ أُهْلِكَ جَيْشُهُ … يُرْمَوْنَ فِيهَا بِالصُّخُورْ
وَالْمُلْكَ فِي أقْصَى الْبِلَاد … وَفِي الْأَعَاجِمِ وَالْخَزِيرْ [٧] فَاسْمَعْ إذَا حُدِّثْتَ وَافْهَمْ … كَيْفَ عَاقِبَةُ الأمورْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُوقَفُ عَلَى قَوَافِيهَا لَا تُعْرَبُ [٨] .(دَعْوَةُ تُبَّانَ قَوْمَهُ إلَى النصرانيَّة، وَتَحْكِيمُهُمْ النَّارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ) .
ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا مُتَوَجِّهًا إلَى الْيَمَنِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنُودِهِ وَبِالْحَبْرَيْنِ، حَتَّى إذَا دَخَلَ
[٢] العصم: الوعول، لِأَنَّهَا تعتصم بالجبال.
[٣] ثبير: جبل بِمَكَّة.
[٤] بنيتها: يعْنى الْكَعْبَة. والحبير: ضرب من ثِيَاب الْيمن موشى.
[٥] المهارى: الْإِبِل العراب النجيبة.
[٦] الرحيض: المنقى، والمصفى.
[٧] كَذَا فِي شرح السِّيرَة. والخزير: أمة من الْعَجم، وَيُقَال لَهَا الخزر أَيْضا. وَفِي أ: «الجزير» قَالَ أَبُو ذَر: «وَيحْتَمل أَن يكون جمع جَزِيرَة بِبِلَاد الْعَرَب» . وَفِي م، ر: «الخذير» وَلَا معنى لَهَا.
[٨] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي أ: «قَالَ ابْن هِشَام: وَهَذَا الشّعْر مُقَيّد، والمقيد: الّذي لَا يرفع وَلَا ينصب وَلَا يخْفض» .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكِ القُرَظيُّ، قَالَ سَمِعْتُ إبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ:
أَنَّ تُبَّعًا لَمَّا دَنَا مِنْ الْيَمَنِ لِيَدْخُلَهَا حَالَتْ حِمْيَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ: وَقَالُوا: لَا تَدْخُلُهَا عَلَيْنَا، وَقَدْ فَارَقْتَ دِينَنَا، فَدَعَاهُمْ إلَى دِينِهِ وَقَالَ: إنَّهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِكُمْ، فَقَالُوا:
فَحَاكِمْنَا إلَى النَّارِ، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ- فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْيَمَنِ- نَارٌ تَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، تَأْكُلُ الظَّالِمَ وَلَا تَضُرُّ الْمَظْلُومَ، فَخَرَجَ قَوْمُهُ بِأَوْثَانِهِمْ وَمَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ فِي دِينِهِمْ، وَخَرَجَ الْحَبْرَانِ بِمَصَاحِفِهِمَا فِي أَعْنَاقِهِمَا مُتَقَلِّدَيْهَا، حَتَّى قَعَدُوا لِلنَّارِ عِنْدَ مَخْرَجِهَا الَّذِي تَخْرُجُ مِنْهُ، فَخَرَجَتْ النَّارُ إلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَقْبَلَتْ نَحْوَهُمْ حَادُوا عَنْهَا وَهَابُوهَا، فَذَمَرَهُمْ [١] مَنْ حَضَرَهُمْ مِنْ النَّاسِ، وَأَمَرُوهُمْ بِالصَّبْرِ لَهَا، فَصَبَرُوا حَتَّى غَشِيَتْهُمْ، فَأَكَلَتْ الْأَوْثَانَ وَمَا قَرَّبُوا مَعَهَا، وَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ مِنْ رِجَالِ حِمْيَرَ، وَخَرَجَ الْحَبْرَانِ بِمَصَاحِفِهِمَا فِي أَعْنَاقِهِمَا تَعْرَقُ جِبَاهُهُمَا لَمْ تَضُرَّهُمَا فَأُصْفِقَتْ [٢] عِنْدَ ذَلِكَ حِمْيَرُ عَلَى دِينِهِ، فَمِنْ هُنَالِكَ وَعَنْ ذَلِكَ كَانَ أَصْلُ الْيَهُودِيَّةِ بِالْيَمَنِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي مُحَدِّثٌ أَنَّ الْحَبْرَيْنِ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ حِمْيَرَ، إنَّمَا اتَّبَعُوا النَّارَ لِيَرُدُّوهَا، وَقَالُوا: مَنْ رَدَّهَا فَهُوَ أَوْلَى بِالْحَقِّ، فَدَنَا مِنْهَا رِجَالٌ مِنْ حِمْيَرَ بِأَوْثَانِهِمْ لِيَرُدُّوهَا فَدَنَتْ مِنْهُمْ لِتَأْكُلَهُمْ، فَحَادُوا عَنْهَا وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا رَدَّهَا، وَدَنَا مِنْهَا الْحَبْرَانِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَجَعَلَا يَتْلُوَانِ التَّوْرَاةَ وَتَنْكُصُ عَنْهُمَا، حَتَّى رَدَّاهَا إلَى مَخْرَجِهَا الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ، فَأُصْفِقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ حِمْيَرُ عَلَى دِينِهِمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.(رئَامٌ وَمَا صَارَ إلَيْهِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رِئَامٌ [٣] بَيْتًا لَهُمْ يُعَظِّمُونَهُ، وَيَنْحَرُونَ عِنْدَهُ، وَيَكَلَّمُونَ
[٢] يُقَال: أصفقوا على الْأَمر، إِذا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ.
[٣] بَيت رئام: اسْم لموْضِع الرَّحْمَة الَّتِي كَانُوا يلتمسونها مِنْهُ. مَأْخُوذ من رأم الْأُنْثَى وَلَدهَا، وَذَلِكَ إِذا عطفت عَلَيْهِ وَرَحمته.
(مِنْهُ) [١] إذْ كَانُوا عَلَى شِرْكِهِمْ؟ فَقَالَ الْحَبْرَانِ لِتُبَّعِ: إنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ يَفْتِنُهُمْ بِذَلِكَ فَخَلِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، قَالَ: فَشَأْنُكُمَا بِهِ، فَاسْتَخْرَجَا مِنْهُ- فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْيَمَنِ- كَلْبًا أَسْوَدَ فَذَبَحَاهُ، ثُمَّ هَدَمَا ذَلِكَ الْبَيْتَ، فَبَقَايَاهُ الْيَوْمَ- كَمَا ذُكِرَ لِي- بِهَا آثَارُ الدِّمَاءِ الَّتِي كَانَتْ تُهْرَاقُ عَلَيْهِ.
مُلْكُ ابْنِهِ حَسَّانَ بْنِ تُبَّانَ وَقَتْلُ عَمْرٍو أَخِيهِ (لَهُ)
[٢]
(سَبَبُ قَتْلِهِ):
فَلَمَّا مَلَكَ ابْنُهُ حَسَّانُ بْنُ تُبَّانَ أَسْعَدَ أَبِي كَرِبٍ سَارَ بِأَهْلِ الْيَمَنِ يُرِيدُ أَنْ يَطَأَ بِهِمْ أَرْضَ الْعَرَبِ وَأَرْضَ الْأَعَاجِمِ، حَتَّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ أَرْضِ الْعِرَاقِ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بالَبحريْنِ، فِيمَا ذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ- كَرِهَتْ حِمْيَرُ وَقَبَائِلُ الْيَمَنِ الْمَسِيرَ مَعَهُ، وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إلَى بِلَادِهِمْ وَأَهْلِهِمْ، فَكَلَّمُوا أَخًا لَهُ يُقَالُ لَهُ عَمْرٌو، وَكَانَ مَعَهُ فِي جَيْشِهِ، فَقَالُوا لَهُ: اُقْتُلْ أَخَاكَ حَسَّانَ وَنُمَلِّكُكَ عَلَيْنَا، وَتَرْجِعُ بِنَا إلَى بِلَادِنَا، فَأَجَابَهُمْ. فَاجْتَمَعَتْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا ذَا رُعَيْنٍ [٣] الْحِمْيَرِيُّ، فَإِنَّهُ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، فَقَالَ ذُو رُعَيْنٍ:
أَلَا مَنْ يَشْتَرِي سَهْرًا بِنَوْمِ … سَعِيدٌ مَنْ يَبِيتُ قَرِيرَ عَيْنِ [٤]
فَأَمَّا حِمْيَرُ غَدَرَتْ وَخَانَتْ … فَمَعْذِرَةُ الْإِلَهِ لَذِي رُعَيْنِ
ثُمَّ كَتَبَهُمَا فِي رُقْعَةٍ، وَخَتَمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا عَمْرًا، فَقَالَ لَهُ: ضَعْ لِي هَذَا الْكِتَابَ عنْدك، فَفعل، ثمَّ قَتَلَ عَمْرٌو أَخَاهُ حَسَّانَ، وَرَجَعَ بِمَنْ مَعَهُ إلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ:
[٢] زِيَادَة يقتضيها السِّيَاق.
[٣] رعين: تَصْغِير رعن. والرعن: أنف الْجَبَل. وَقيل: رعين: جبل بِالْيمن، وَإِلَيْهِ ينْسب ذُو رعين هَذَا.
[٤] فِي الْبَيْت حذف تَقْدِيره: من يشترى سهرا بنوم غير سعيد، بل من يبيت قرير الْعين هُوَ السعيد، فَحذف الْخَبَر لدلَالَة أول الْكَلَام عَلَيْهِ.
قَتَلَتْهُ مَقاوِلٌ [٢] خَشْيَةَ الْحَبْسِ … غَدَاةً قَالُوا: لَبَابِ لَبَابِ
مَيْتُكُمْ خَيْرُنَا وَحَيُّكُمْ … رَبٌّ عَلَيْنَا وَكُلُّكُمْ أَرْبَابِي
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَوْلُهُ لَبَابِ لَبَابِ: لَا بَأْسَ لَا بَأْسَ، بِلُغَةِ حِمْيَرَ [٣] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى: لِبَابِ لِبَابِ.(نَدَمُ عَمْرٍو وَهَلَاكُهُ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا نَزَلَ عَمْرُو بْنُ تُبَّانَ الْيَمَنَ مُنِعَ مِنْهُ النَّوْمُ، وَسُلِّطَ عَلَيْهِ السَّهَرُ، فَلَمَّا جَهَدَهُ ذَلِكَ سَأَلَ الْأَطِبَّاءَ والْحُزَاةَ [٤] مِنْ الْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِينَ [٥] عَمَّا بِهِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ مِنْهُمْ: إنَّهُ وَاَللَّهِ مَا قَتَلَ رَجُلٌ قَطُّ أَخَاهُ، أَوْ ذَا رَحِمِهِ بَغْيًا عَلَى مِثْلِ مَا قَتَلْتَ أَخَاكَ عَلَيْهِ، إلَّا ذَهَبَ نَوْمُهُ، وَسُلِّطَ عَلَيْهِ السَّهَرُ. فَلَمَّا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ جَعَلَ يَقْتُلُ كُلَّ مَنْ أَمَرَهُ بِقَتْلِ أَخِيهِ حَسَّانَ مِنْ أَشْرَافِ الْيَمَنِ، حَتَّى خَلَصَ إلَى ذِي رُعَيْنٍ، فَقَالَ لَهُ ذُو رُعَيْنٍ: إنَّ لِي عِنْدَكَ بَرَاءَةً، فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: الْكِتَابُ الَّذِي دَفَعْتُ إلَيْكَ، فَأَخْرَجَهُ فَإِذَا فِيهِ الْبَيْتَانِ، فَتَرَكَهُ وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ نَصَحَهُ. وَهَلَكَ عَمْرٌو، فَمَرَجَ [٦] أَمْرُ حِمْيَرَ عِنْدَ ذَلِكَ وتفرّقوا.
وثوب لخنيعة ذِي شَنَاتِرَ عَلَى مُلْكِ الْيَمَنِ
(تَوَلِّيهِ الْمُلْكَ، وَشَيْءٌ مِنْ سِيرَتِهِ، ثُمَّ قَتْلُهُ):
فَوَثَبَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ بُيُوتِ الْمَمْلَكَةِ، يُقَالُ لهَ لِخُنَيْعَةَ [٧] يَنُوفَ.
[٢] يُرِيد الْأَقْيَال، وهم الَّذين دون التبابعة، واحدهم قيل (مثل سيد، ثمَّ خفف) . وَقَالَ أَبُو ذَر:
المقاول: الَّذين يخلفون الْمُلُوك إِذا غَابُوا.
[٣] وَقيل: هِيَ كلمة فارسية مَعْنَاهَا: القفل، والقفل: الرُّجُوع.
[٤] الحزاة: الَّذين ينظرُونَ فِي النُّجُوم ويقضون بهَا، واحدهم حَاز.
[٥] العرافون: ضرب من الْكُهَّان يَزْعمُونَ أَنهم يعْرفُونَ من الْغَيْب مَا لَا يعرف النَّاس.
[٦] مرج: اخْتَلَط والتبس، وَفِي أ: «هرج»، وَفِي م، ر: «مرج» .
[٧] قَالَ ابْن دُرَيْد: الْمَعْرُوف فِيهِ: لخيعة (بِغَيْر نون) . مَأْخُوذ من اللخع، وَهُوَ استرخاء اللَّحْم.
تُقَتِّلُ أَبْنَاهَا وَتَنْفِي سَرَاتَهَا … وَتَبْنِي بِأَيْدِيهَا لَهَا الذُّلَّ حِمْيَرُ
تُدَمِّرُ دُنْيَاهَا بِطَيْشِ حُلُومِهَا … وَمَا ضَيَّعَتْ مِنْ دِينِهَا فَهُوَ أَكْثَرُ
كَذَاك الْقُرُون قبل ذَاكَ بِظُلْمِهَا … وَإِسْرَافِهَا تَأْتِي الشُّرُورَ فَتُخْسَرُ
وَكَانَ لَخَنِيعَةَ امْرِأً فَاسِقًا يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَكَانَ يُرْسِلُ إلَى الْغُلَامِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، فَيَقَعُ عَلَيْهِ فِي مَشْرَبَةٍ [٢] لَهُ قَدْ صَنَعَهَا لِذَلِكَ، لِئَلَّا يَمْلِكُ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ يَطْلُعُ مِنْ مَشْرَبَتِهِ تِلْكَ إلَى حَرَسِهِ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ جُنْدِهِ، قَدْ أَخَذَ مِسْوَاكًا فَجَعَلَهُ فِي فِيهِ، أَيْ لِيُعْلَمَهُمْ أَنَّهُ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ. حَتَّى بَعَثَ إلَى زُرْعَةَ ذِي [٣] نُوَاسِ بْنِ تُبَّانَ أَسْعَدَ أَخِي حَسَّانَ، وَكَانَ صَبِيَّا صَغِيرًا حِينَ قُتِلَ حَسَّانُ، ثُمَّ شَبَّ غُلَامًا جَمِيلًا وَسِيمًا [٤]، ذَا هَيْئَةٍ وَعَقْلٍ، فَلَمَّا أَتَاهُ رَسُولُهُ عَرَفَ مَا يُرِيدُ مِنْهُ، فَأَخَذَ سِكِّينًا حَدِيدًا لَطِيفًا، فَخَبَّأَهُ بَيْنَ قَدَمِهِ وَنَعْلِهِ، ثُمَّ أَتَاهُ، فَلَمَّا خَلَا مَعَهُ وَثَبَ إلَيْهِ، فَوَاثَبَهُ ذُو نُوَاسٍ فَوَجَأَهُ [٥] حَتَّى قَتَلَهُ، ثُمَّ حَزَّ رَأْسَهُ، فَوَضَعَهُ فِي الْكُوَّةِ الَّتِي كَانَ يُشْرِفُ مِنْهَا، وَوَضَعَ مِسْوَاكَهُ فِي فِيهِ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالُوا لَهُ: ذَا نُوَاسٍ، أَرَطْبٌ أَمْ يَبَاسٌ [٦] فَقَالَ: سَلْ نَخْمَاسَ [٧] اسْتِرْطُبَانَ [٨] ذُو نواس. استرطبان لَا باس [٩]- قَالَ
[٢] الْمشْربَة بِفَتْح الرَّاء وَضمّهَا: الغرفة المرتفعة.
[٣] زرْعَة: هُوَ من قَوْلهم: زرعك الله: أَي أنبتك، وَسموا بزارع كَمَا سموا بنابت، وسمى ذَا نواس لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ غديرتان من شعر كَانَتَا تنوسان: أَي تتحركان وتضطربان.
[٤] وسيما: حسنا.
[٥] وجأه: ضربه.
[٦] يباس: يبيس.
[٧] كَذَا فِي أوشرح السِّيرَة، وَقد نبه السهيليّ: فِي كِتَابه: «الرَّوْض الْأنف» على أَن هَذَا هُوَ الصَّحِيح ويروى بالنُّون (أَو بِالتَّاءِ) مَعَ حاء مُهْملَة، وبهذه الرِّوَايَة الْأَخِيرَة ورد فِي م، ر.
[٨] يُقَال: إِن هَذِه كلمة فارسية، وَمَعْنَاهَا: أَخَذته النَّار.
[٩] كَذَا وَردت هَذِه الْعبارَة بِالْأَصْلِ، وَهِي غير وَاضِحَة. وسياقها فِي الأغاني: «كَانَ الْغُلَام إِذا خرج من عِنْد لخنيعة، وَقد لَاطَ بِهِ قطعُوا مشافر نَاقَته وذنبها، وصاحوا بِهِ: أرطب أم يباس، فَلَمَّا خرج.
ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا كَلَامُ حِمْيَرَ. وَنَخْمَاسُ: الرَّأْسُ [١]- فَنَظَرُوا إلَى الْكُوَّةِ فَإِذَا رَأْسُ لَخَنِيعَةَ مَقْطُوعٌ، فَخَرَجُوا فِي إثْرِ ذِي نُوَاسٍ حَتَّى أَدْرَكُوهُ، فَقَالُوا: مَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَنَا غَيْرُكَ: إذْ أَرَحْتنَا مِنْ هَذَا الْخَبِيثِ.
مُلْكُ ذِي نُوَاسٍ
فَمَلَّكُوهُ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ حِمْيَرُ وَقَبَائِلُ الْيَمَنِ، فَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ حِمْيَرَ، وَهُوَ صَاحِبُ الْأُخْدُودِ [٢]، وَتَسَمَّى يُوسُفَ، فَأَقَامَ فِي مُلْكِهِ زَمَانًا.
(النَّصْرَانِيَّةُ بِنَجْرَانَ):
وَبِنَجْرَانَ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ دِينِ عِيسَى بن مَرْيَمَ عليه السلام عَلَى الْإِنْجِيلِ، أَهْلِ فَضْلٍ، وَاسْتِقَامَةٍ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ، لَهُمْ رَأْسٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ، وَكَانَ مَوْقِعُ أَصْلِ ذَلِكَ الدِّينِ بِنَجْرَانَ، وَهِيَ بِأَوْسَطِ أَرْضِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَأَهْلُهَا وَسَائِرُ الْعَرَبِ كُلِّهَا أَهْلُ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَقَايَا أَهْلِ ذَلِكَ الدِّينِ يُقَالُ لَهُ فَيْمِيُونُ [٣]- وَقَعَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَحَمَلَهُمْ عَلَيْهِ، فَدَانُوا بِهِ.
ابْتِدَاءُ وُقُوعِ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَجْرَانَ
(فَيْمِيُونُ وَصَالِحٌ وَنَشْرُ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَجْرَانَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ أَبِي لَبِيَدٍ مَوْلَى الْأَخْنَسِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ:
ستعلم الأحراس، است ذِي نواس، است رطبان أم يباس» . فَلَعَلَّ مَا فِي الأَصْل هُنَا محرف عَن هَذَا.
[١] وَقيل: نخماس: رجل كَانَ مِنْهُم ثمَّ تَابَ، يعْنى أَنه كَانَ يعْمل عمل لخنيعة.
[٢] وَيُقَال: إِن الَّذين خددوا الْأُخْدُود ثَلَاثَة: تبع صَاحب الْيمن، وقسطنطين بن هلانى (وهلانى أمه) حِين صرف النَّصَارَى عَن التَّوْحِيد إِلَى عبَادَة الصَّلِيب، وبخت نصّر من أهل بابل، حِين أَمر النَّاس أَن يسجدوا لَهُ، فَامْتنعَ دانيال وَأَصْحَابه، فألقاهم فِي النَّار.
[٣] فِي الرَّوْض الْأنف: «فيمؤن»، وَفِي الطَّبَرِيّ: «قيمؤن» بِالْقَافِ، وَقيل إِن اسْمه يحيى، وَكَانَ أَبوهُ ملكا فتوفى، وَأَرَادَ قومه أَن يملكوه بعد أَبِيه، ففر من الْملك وَلزِمَ السياحة.
فَعَمَدَ الرَّجُلُ إلَى ابْنِهِ ذَلِكَ فَوَضَعَهُ فِي حُجْرَتِهِ وَأَلْقَى عَلَيْهِ ثوبا، ثمَّ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ:
[٢] عيل عوله: أَي غلب على صبره، يُقَال: عاله الْأَمر، إِذا غَلبه.
[٣] زِيَادَة عَن أ.
[٤] كَذَا فِي م، ر، ط، والطبري. وَفِي أ، ومعجم الْبلدَانِ لياقوت (ج ٤ ص ٧٥٢ طبع أوروبا) «فَاء جَاءَهُ» .
فَمَاتَ وَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَتَبِعَهُ صَالِحٌ، حَتَّى وَطِئَا بَعْضَ أَرْضِ الْعَرَبِ، فَعَدَوْا عَلَيْهِمَا. فَاخْتَطَفَتْهُمَا سَيَّارَةٌ مِنْ بَعْضِ الْعَرَبِ، فَخَرَجُوا بِهِمَا حَتَّى بَاعُوهُمَا بِنَجْرَانَ، وَأَهْلُ نَجْرَانَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ الْعَرَبِ، يَعْبُدُونَ نَخْلَةً طَوِيلَةً بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، لَهَا عِيدٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ، إذَا كَانَ ذَلِكَ الْعِيدُ عَلَّقُوا عَلَيْهَا كُلَّ ثَوْبٍ حَسَنٍ وَجَدُوهُ، وَحُلِيَّ النِّسَاءِ، ثُمَّ خَرَجُوا إلَيْهَا فَعَكَفُوا عَلَيْهَا يَوْمًا. فَابْتَاعَ فَيْمِيُونُ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَابْتَاعَ صَالِحًا آخَرُ. فَكَانَ فَيْمِيُونُ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ فِي بَيْتٍ لَهُ- أَسْكَنَهُ إيَّاهُ سَيِّدُهُ- يُصَلِّي، اُسْتُسْرِجَ لَهُ الْبَيْتُ نُورًا حَتَّى يُصْبِحَ مِنْ غَيْرِ مِصْبَاحٍ، فَرَأَى ذَلِكَ سَيِّدُهُ، فَأَعْجَبَهُ مَا يَرَى مِنْهُ، فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِ، فَأَخْبَرَهُ بِهِ، وَقَالَ لَهُ فَيْمِيُونُ: إنَّمَا أَنْتُمْ فِي بَاطِلٍ، إنَّ هَذِهِ النَّخْلَةَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْ دَعَوْتُ عَلَيْهَا إلَهِي الَّذِي أَعْبُدُهُ لَأَهْلَكَهَا، وَهُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ:
فَافْعَلْ، فَإِنَّكَ إنْ فَعَلْتَ دَخَلْنَا فِي دِينِكَ، وَتَرَكْنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَقَامَ فَيْمِيُونُ، فَتَطَهَّرَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا اللَّهَ عَلَيْهَا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا رِيحًا فَجَعَفَتْهَا [٤] مِنْ أَصْلِهَا فَأَلْقَتْهَا، فَاتَّبَعَهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِهِ، فَحَمَلَهُمْ عَلَى الشَّرِيعَةِ مِنْ دِينِ عِيسَى بن مَرْيَمَ عليه السلام، ثُمَّ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ الْأَحْدَاثُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَى أَهْلِ
[٢] انتشط الثَّوْب: كشفه بِسُرْعَة.
[٣] فِي الطَّبَرِيّ: أنتظرك. وَالنَّظَر والانتظار بِمَعْنى.
[٤] جعفتها: قلعتها وأسقطتها.
٣- سيرة ابْن هِشَام- ١
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَهَذَا حَدِيثُ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَهْلِ نَجْرَانَ.أَمْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ، وَقِصَّةُ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ
(فَيْمِيُونُ وَابْنُ الثَّامِرِ وَاسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَحَدَّثَنِي أَيْضًا بَعْضُ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ أَهْلِهَا:
أَنَّ أَهْلَ نَجْرَانَ كَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَكَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا قَرِيبًا مِنْ نَجْرَانَ- وَنَجْرَانُ: الْقَرْيَةُ الْعُظْمَى الَّتِي إلَيْهَا جِمَاعُ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ- سَاحِرٌ يُعَلِّمُ غِلْمَانَ أَهْلِ نَجْرَانَ السِّحْرَ، فَلَمَّا نَزَلَهَا فَيْمِيُونُ- وَلَمْ يُسَمُّوهُ لِي بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، قَالُوا: رَجُلٌ نَزَلَهَا- ابْتَنَى خَيْمَةً بَيْنَ نَجْرَانَ وَبَيْنَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ الَّتِي بِهَا السَّاحِرُ، فَجَعَلَ أَهْلُ نَجْرَانَ يُرْسِلُونَ غِلْمَانَهُمْ إلَى ذَلِكَ السَّاحِرِ يُعَلِّمُهُمْ السِّحْرَ فَبَعَثَ إلَيْهِ الثَّامِرُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الثَّامِرِ، مَعَ غِلْمَانِ أَهْلِ نَجْرَانَ فَكَانَ إذَا مَرَّ بِصَاحِبِ الْخَيْمَةِ أَعْجَبَهُ مَا يَرَى مِنْهُ مِنْ صَلَاتِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَجَعَلَ يَجْلِسُ إلَيْهِ، وَيَسْمَعُ مِنْهُ، حَتَّى أَسْلَمَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَعَبَدَهُ، وَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى إذَا فَقِهَ فِيهِ جَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَكَانَ يَعْلَمُهُ، فَكَتَمَهُ إيَّاهُ، وَقَالَ (لَهُ) [١]:
يَا بن أَخِي، إنَّكَ لَنْ تَحْمِلَهُ، أَخْشَى عَلَيْكَ ضَعْفَكَ عَنْهُ. وَالثَّامِرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَظُنُّ إلَّا أَنَّ ابْنَهُ يَخْتَلِفُ إلَى السَّاحِرِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْغِلْمَانُ، فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ ضَنَّ بِهِ عَنْهُ. وَتَخَوَّفَ ضَعْفَهُ فِيهِ، عَمَدَ إلَى أَقْدَاحٍ فَجَمَعَهَا، ثُمَّ لَمْ يُبْقِ للَّه اسْمًا يَعْلَمُهُ إلَّا كَتَبَهُ فِي قِدْحٍ [٢]، وَلِكُلِّ اسْمٍ قِدْحٌ، حَتَّى إذَا أَحْصَاهَا أَوْقَدَ لَهَا نَارًا، ثُمَّ جَعَلَ يَقْذِفُهَا فِيهَا قِدْحًا قِدْحًا، حَتَّى إذَا مَرَّ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ قَذَفَ فِيهَا بِقِدْحِهِ، فَوَثَبَ الْقِدْحُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا لَمْ تَضُرَّهُ شَيْئًا، فَأَخَذَهُ ثُمَّ أَتَى صَاحِبَهُ فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ الِاسْمَ الَّذِي كَتَمَهُ، فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: هُوَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: وَكَيْفَ
[٢] الْقدح: السهْم.
عَلِمْتَهُ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ، قَالَ: أَيْ ابْنَ أَخِي، قَدْ أَصَبْتَهُ فَأَمْسِكْ عَلَى نَفْسِكَ، وَمَا أَظُنُّ أَنْ تَفْعَلَ.
(ابْنُ الثَّامِرِ وَدَعْوَتُهُ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ بِنَجْرَانَ):
فَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ إذَا دَخَلَ نَجْرَانَ لَمْ يَلْقَ أَحَدًا بِهِ ضُرٌّ إلَّا قَالَ (لَهُ) [١] يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَتُوَحِّدُ اللَّهَ وَتَدْخُلُ فِي دِينِي وَأَدْعُو اللَّهَ فَيُعَافِيكَ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنْ الْبَلَاءِ؟
فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُوَحِّدُ اللَّهَ وَيُسْلِمُ، وَيَدْعُو لَهُ فَيُشْفَى. حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِنَجْرَانَ أَحَدٌ بِهِ ضُرٌّ إلَّا أَتَاهُ فَاتَّبَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ، وَدَعَا لَهُ فَعُوفِيَ حَتَّى رُفِعَ شَأْنُهُ إلَى مَلِكِ نَجْرَانَ، فَدَعَاهُ فَقَالَ (لَهُ) [١]: أَفْسَدْتَ عَلَيَّ أَهْلَ قَرْيَتِي، وَخَالَفْتَ دِينِي وَدِينَ آبَائِي، لَأُمَثِّلَنَّ بِكَ، قَالَ: لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فَجَعَلَ يُرْسِلُ بِهِ إلَى الْجَبَلِ الطَّوِيلِ فَيُطْرَحُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَقَعُ إلَى الْأَرْضِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَجَعَلَ يَبْعَثُ بِهِ إلَى مِيَاهٍ بِنَجْرَانَ، بُحُورٍ لَا يَقَعُ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا هَلَكَ، فَيُلْقَى فِيهَا فَيَخْرُجُ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. فَلَمَّا غَلَبَهُ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ: إنَّكَ وَاَللَّهِ لَنْ تَقْدِرَ عَلَى قَتْلِي حَتَّى تُوَحِّدَ اللَّهَ فَتُؤْمِنَ بِمَا آمَنْتُ بِهِ، فَإِنَّكَ إنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ سُلِّطْتَ عَلَيَّ فَقَتَلْتنِي. قَالَ: فَوَحَّدَ اللَّهَ تَعَالَى ذَلِكَ الْمَلِكُ، وَشَهِدَ شَهَادَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِعَصَا فِي يَدِهِ فَشَجَّهُ شَجَّةً غَيْرَ كَبِيرَةٍ، فَقَتَلَهُ، ثُمَّ هَلَكَ الْمَلِكُ مَكَانَهُ، وَاسْتَجْمَعَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ، وَكَانَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى بن مَرْيَمَ مِنْ الْإِنْجِيلِ وَحُكْمِهِ، ثُمَّ أَصَابَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أَهْلَ دِينِهِمْ مِنْ الْأَحْدَاثِ، فَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ أَصْلُ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَجْرَانَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَهَذَا حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَبَعْضِ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
(ذُو نُوَاسٍ وَخَدُّ الْأُخْدُودِ):
فَسَارَ إلَيْهِمْ ذُو نُوَاسٍ بِجُنُودِهِ، فَدَعَاهُمْ إلَى الْيَهُودِيَّةِ، وَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ وَالْقَتْلِ، فَاخْتَارُوا الْقَتْلَ، فَخَدَّ لَهُمْ الْأُخْدُودَ، فَحَرَقَ مَنْ حَرَقَ بِالنَّارِ، وَقَتَلَ بِالسَّيْفِ وَمَثَّلَ بِهِ حَتَّى قَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ عشْرين ألفا، فِي ذِي نُوَاسٍ وَجُنْدِهِ تِلْكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ: قُتِلَ أَصْحابُ ٨٥: ٤
الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ، وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ٨٥: ٤- ٨.
(الْأُخْدُودُ لُغَةً):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْأُخْدُودُ: الْحَفْرُ الْمُسْتَطِيلُ فِي الْأَرْضِ، كَالْخَنْدَقِ وَالْجَدْوَلِ وَنَحْوِهِ، وَجَمْعُهُ أَخَادِيدُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ، وَاسْمُهُ غَيْلَانُ بْنُ عُقْبَةَ، أَحَدُ بَنِي عَدِيِّ ابْن عَبْدِ مَنَافِ بْنِ أدّ بن طابخة بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ:
مِنْ الْعِرَاقِيَّةِ اللَّاتِي يُحِيلُ لَهَا [١] … بَيْنَ الْفَلَاةِ وَبَيْنَ النَّخْلِ أُخْدُودُ
يَعْنِي جَدْوَلًا. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. قَالَ: وَيُقَالُ لِأَثَرِ السَّيْفِ وَالسِّكِّينِ فِي الْجِلْدِ وَأَثَرِ السَّوْطِ وَنَحْوِهِ: أُخْدُودٌ، وَجَمْعُهُ أَخَادِيدُ.
(مَقْتَلُ ابْنِ الثَّامِرِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَيُقَالُ: كَانَ فِيمَنْ قَتَلَ ذُو نُوَاسٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ، رَأْسُهُمْ وَإِمَامُهُمْ [٢] .
(مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ الثَّامِرِ فِي قَبْرِهِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ [٣] أَنَّهُ حُدِّثَ:
أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ كَانَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حَفَرَ خَرِبَةً مِنْ خَرِبِ نَجْرَانَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، فَوَجَدُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الثَّامِرِ تَحْتَ دَفْنٍ مِنْهَا قَاعِدًا، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى ضَرْبَةٍ فِي رَأْسِهِ، مُمْسِكًا بِيَدِهِ عَلَيْهَا، فَإِذَا أُخِّرَتْ يَدُهُ عَنْهَا تَنْبَعِثُ [٤] دَمًا، وَإِذَا أُرْسِلَتْ يَدُهُ رَدَّهَا عَلَيْهَا، فَأَمْسَكَتْ دَمُهَا، وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ
[٢] وَيُقَال: إِنَّمَا قتل عبد الله بن الثَّامِر قبل ذَلِك، قَتله ملك كَانَ قبل ذِي نواس، هُوَ أصل ذَلِك الدَّين، وَإِنَّمَا قتل ذُو نواس من كَانَ بعده من أهل دينه. (رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[٣] قَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الْعلم عَالما، توفى سنة ١٣٥ هـ، وَقيل سنة ١٣٣ هـ. وَكَانَ عمره سبعين سنة.
[٤] فِي أ: «تثعبت» . وتثعبت: سَالَتْ.
مَكْتُوبٌ فِيهِ: «رَبِّي اللَّهُ» فَكُتِبَ فِيهِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُخْبَرُ بِأَمْرِهِ، فَكَتَبَ إلَيْهِمْ عُمَرُ رضي الله عنه: أَنْ أَقِرُّوهُ عَلَى حَالِهِ، وَرُدُّوا عَلَيْهِ الدَّفْنَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، فَفَعَلُوا [١] .
أَمْرُ دَوْسِ ذِي ثَعْلَبَانَ، وَابْتِدَاءُ مُلْكِ الْحَبَشَة وَذكر أرباط الْمُسْتَوْلِي عَلَى الْيَمَنِ
(فِرَارُ دَوْسٍ وَاسْتِنْصَارُهُ بِقَيْصَرَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَفْلَتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ سَبَأٍ، يُقَالُ لَهُ: دَوْسُ ذُو ثَعْلَبَانَ [٢]، عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَسَلَكَ الرَّمْلَ فَأَعْجَزَهُمْ، فَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ، حَتَّى أَتَى قَيْصَرَ مَلِكَ الرُّومِ، فَاسْتَنْصَرَهُ عَلَى ذِي نُوَاسٍ وَجُنُودِهِ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا بَلَغَ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ:
بَعُدَتْ بِلَادُكَ مِنَّا، وَلَكِنِّي سَأَكْتُبُ لَكَ إلَى مَلِكِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا الدِّينِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى بِلَادِكَ، وَكَتَبَ إلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِنَصْرِهِ وَالطَّلَبِ بِثَأْرِهِ.
(انْتِصَارُ أَرْيَاطَ وَهَزِيمَةُ ذِي نُوَاسٍ وَمَوْتُهُ):
فَقَدِمَ دَوْسٌ عَلَى النَّجَاشِيِّ بِكِتَابِ قَيْصَرَ، فَبَعَثَ مَعَهُ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ الْحَبَشَةِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أَرْيَاطُ، وَمَعَهُ فِي جُنْدِهِ أَبْرَهَةُ الْأَشْرَمُ، فَرَكِبَ أَرْيَاطُ الْبَحْرَ حَتَّى نَزَلَ بِسَاحِلِ الْيَمَنِ، وَمَعَهُ دَوْسٌ ذُو ثَعْلَبَانَ، وَسَارَ إلَيْهِ ذُو نُوَاسٍ فِي حِمْيَرَ، وَمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ، فَلَمَّا الْتَقَوْا انْهَزَمَ ذُو نُوَاسٍ وَأَصْحَابُهُ. فَلَمَّا رَأَى ذُو نُوَاسٍ مَا نَزَلَ بِهِ وَبِقَوْمِهِ وَجَّهَ فَرَسَهُ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَدَخَلَ بِهِ، فَخَاضَ بِهِ ضَحْضَاحَ [٣] الْبَحْرِ، حَتَّى أَفْضَى بِهِ إلَى غَمْرِهِ، فَأَدْخَلَهُ فِيهِ، وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ.
وَدَخَلَ أَرْيَاطُ الْيَمَنَ، فَمَلَكَهَا [٤]
[٢] وَيُقَال: إِن الّذي أفلت هُوَ جَبَّار بن فيض، من أهل نَجْرَان، وَالأَصَح مَا رَوَاهُ ابْن إِسْحَاق.
(رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[٣] الضحضاح من المَاء: الّذي يظْهر مِنْهُ القعر.
[٤] هَذِه رِوَايَة ابْن إِسْحَاق فِي مقتل ذِي نواس، وَدخُول الْحَبَشَة الْيمن، سَاقهَا عَنهُ ابْن هِشَام. وَأما غير
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ- وَهُوَ يَذْكُرُ مَا سَاقَ إلَيْهِمْ دَوْسٌ مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ:
«لَا كَدَوْسٍ وَلَا كَأَعْلَاقِ رَحْلِهِ
» [١] فَهِيَ مَثَلٌ بِالْيَمَنِ إلَى هَذَا الْيَوْمِ. وَقَالَ ذُو جَدَنٍ الْحِمْيَرِيُّ:
هَوْنكِ [٢] لَيْسَ يَرُدُّ الدَّمْعُ مَا فَاتَا … لَا تَهْلِكِي أَسَفًا فِي إثْرِ مَنْ مَاتَا
أَبَعْدَ بَيْنُونَ لَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ … وَبَعْدَ سِلْحِينَ يَبْنِي النَّاسُ أَبْيَاتَا
بَيْنُونُ وَسِلْحِينُ وَغُمْدَانُ [٣]: مِنْ حُصُونِ الْيَمَنِ الَّتِي هَدَمَهَا أَرْيَاطُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي النَّاسِ مِثْلُهَا. وَقَالَ ذُو جَدَنٍ أَيْضًا:
دَعِينِي لَا أَبَا لَكَ لَنْ تُطِيقِي [٤] … لِحَاكِ اللَّهِ قَدْ أَنْزَفْتِ رِيقِي [٥] لَدَيَّ عَزْفُ القيان إِذْ انتشبنا … وَإِذ نُسْقَى مِنْ الْخَمْرِ الرَّحِيقِ [٦] وَشُرْبُ الْخَمْرِ لَيْسَ عَلَيَّ عَارًا … إذَا لَمْ يَشْكُنِي فِيهَا [٧] رَفِيقِي
فَإِنَّ الْمَوْتَ لَا يَنْهَاهُ نَاهٍ … وَلَوْ شَرِبَ الشِّفَاءَ مَعَ النُّشُوقِ [٨]
[١] الأعلاق: جمع علق، وَهُوَ النفيس من كل شَيْء: يُرِيد مَا حمله دوس إِلَى الْحَبَشَة من النجدة.
[٢] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول والطبري. يُرِيد: ترفقى وليهن عَلَيْك هَذَا الْأَمر. وَفِي أ، وتواريخ مَكَّة للأزرقى: «هُوَ نكما لن … إِلَخ» . وَهُوَ من بَاب قَول الْعَرَب للْوَاحِد افعلا، وَهُوَ كثير فِي الْقُرْآن وَالْكَلَام
[٣] ستذكر فِيمَا يَلِي من شعر ذِي جدن وسلحين: بِفَتْح السِّين فِي ياقوت، وبكسرها فِي الْبكْرِيّ.
[٤] أَي لن تطيقى صرفى بالعذل عَن شأنى.
[٥] أَي أكثرت على من العذل حَتَّى أيبست ريقي بفمي. وَقلة الرِّيق من الْحصْر، وكثرته من قُوَّة النَّفس وثبات الجأش.
[٦] الرَّحِيق: الْمُصَفّى الْخَالِص.
[٧] فِي أ: «فِيهِ» .
[٨] كَذَا فِي أوالطبري. والشفاء بِالْكَسْرِ): مَا يتداوى بِهِ فيشفى، تَسْمِيَة للسبب باسم الْمُسَبّب
وَنَخْلَتُهُ الَّتِي غُرِسَتْ إلَيْهِ … يَكَادُ الْيُسْرُ يَهْصِرُ [١١] بِالْعُذُوقِ
فَأَصْبَحَ بَعْدَ جِدَّتِهِ رَمَادًا … وَغَيَّرَ حُسْنَهُ لَهَبُ الْحَرِيقِ
وَأَسْلَمَ ذُو نُوَاسٍ مُسْتَكِينًا [١٢] … وَحَذَّرَ قَوْمَهُ ضَنْكَ الْمَضِيقِ
وَقَالَ ابْنُ الذِّئْبَةِ الثَّقَفِيُّ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الذِّئْبَةُ أُمُّهُ، وَاسْمُهُ رَبِيعَةُ ابْن عبد يَا ليل بْنُ سَالِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حُطَيْطِ بْنِ جُشَمَ بْنِ قَسِيِّ:
لَعَمْرُكَ مَا لِلْفَتَى مِنْ مَفَرٍّ … مَعَ الْمَوْتِ يَلْحَقُهُ والكِبَرْ
[١] الأسطوان: جمع أسطوانة، وَهِي السارية. وَأَرَادَ بهَا هَاهُنَا مَوضِع الراهب الْمُرْتَفع.
[٢] الأنوق: الرخم، وَهِي لَا تبيض إِلَّا فِي الْجبَال الْعَالِيَة.
[٣] غمدان: حصن كَانَ لهوذة بن على ملك الْيَمَامَة.
[٤] مسمكا: مرتفعا. والنيق: أَعلَى الْجَبَل.
[٥] المنهمة: مَوضِع الرهبان. وَيُقَال للراهب: نهامى، كَمَا يُقَال للنجار أَيْضا نهامى، فَتكون المنهمة على هَذَا مَوضِع النجر أَيْضا.
[٦] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. والجرون: جمع جرن، وَهُوَ النقير. وَفِي أ، والطبري: «جروب» .
والجروب: الْحِجَارَة السود.
[٧] الْحر: الْخَالِص من كل شَيْء.
[٨] الموحل: من الوحل، وَهُوَ المَاء والطين. ويروى: «الموجل» بِالْجِيم الْمَفْتُوحَة. وَهِي الْحِجَارَة الملس السود، أَي وَهِي وَاحِدَة المواجل، وَهِي مناهل المَاء.
[٩] اللثق: الّذي فِيهِ بَلل. والزليق: الّذي يزلق فِيهِ. وَقد زَادَت أبعد هَذَا الْبَيْت:
بمرمرة وَأَعلاهُ رُخَام … تحام لَا يغيب فِي الشقوق
[١٠] السليط: الدّهن.
[١١] يهصر: يمِيل. والعذوق: جمع عذق. والعذق (بِكَسْر الْعين): الكباسة، (وَبِفَتْحِهَا):
النَّخْلَة، وَالْمعْنَى الثَّانِي أبلغ هُنَا.
[١٢] مستكينا: خاضعا ذليلا.
يُصِمُّ صِيَاحُهُمْ الْمُقْرَبَاتِ [٥] … وَيَنْفُونَ مَنْ قَاتَلُوا بِالذَّفَرْ [٦] سَعَالِيَ [٧] مثل عديد التُّرَاب … تَيْبَسُ مِنْهُمْ رِطَابُ الشَّجَرْ
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبٍ [٨] الزُّبَيْدِيُّ فِي شَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَيْسِ بْنِ مَكْشوُحٍ الْمُرَادِيَّ [٩]، فَبَلَغَهُ أَنَّهُ يَتَوَعَّدُهُ، فَقَالَ يَذْكُرُ حِمْيَرَ وَعِزَّهَا، وَمَا زَالَ مِنْ مُلْكِهَا عَنْهَا:
أَتُوعِدُنِي كَأَنَّكَ ذُو رُعَيْنٍ … بِأَفْضَلِ عِيشَةٍ، أَوْ ذُو نُوَاسِ
وكائنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنْ نَعِيمٍ … وَمُلْكٍ ثَابِتٍ فِي النَّاسِ رَاسِي
قَدِيمٍ عَهْدُهُ مِنْ عَهْدِ عَادٍ … عَظِيمٍ قَاهِرِ الْجَبَرُوتِ قَاسِي
فَأَمْسَى أَهْلُهُ بَادُوا وَأَمْسَى … يُحَوَّلُ مِنْ أُنَاسٍ فِي أُنَاسِ
[٢] الْوزر: الملجأ. وَمِنْه اشتق الْوَزير لِأَن الْملك يلجأ إِلَى رَأْيه.
[٣] ذَات العبر: ذَات الْحزن، وَيُقَال: عبر الرجل (من بَاب علم)، إِذا حزن، وَيُقَال: لأمه العبر، كَمَا يُقَال لأمه الثكل، وَذَات العبر: اسْم من أَسمَاء الداهية.
[٤] الْحِرَابَة: أَصْحَاب الحراب.
[٥] المقربات: الْخَيل الْعتاق الَّتِي لَا تسرح فِي الرَّعْي، وَلَكِن تحبس قرب الْبيُوت معدة لِلْعَدو.
[٦] كَذَا فِي الْأُصُول، وتواريخ مَكَّة للأزرقى. والذفر: الرَّائِحَة الشَّدِيدَة. يُرِيد أَنهم. بريحهم وأنفاسهم يَتَّقُونَ من قَاتلُوا، وَهَذَا إفراط فِي وَصفهم بِالْكَثْرَةِ، بل بنتن آباطهم وخبيث رائحتهم، لِأَن السودَان أنتن النَّاس آباطا وأعراقا. وَفِي الطَّبَرِيّ: «بالزمر» وَالزمر: جمع زمرة، وَهِي الْجَمَاعَة من النَّاس
[٧] سعالى: جمع سعلاة، وَهِي من الْجِنّ، أَو هِيَ الساحرة مِنْهَا.
[٨] معديكرب: مَعْنَاهُ بالحميرية: وَجه الْفَلاح. ومعدى: وَجه. وَالْكرب: الْفَلاح.
[٩] إِنَّمَا هُوَ حَلِيف لمراد، وَاسم مُرَاد: يحابر بن سعد الْعَشِيرَة بن مذْحج، وَنسبه فِي بجيلة، ثمَّ فِي بنى أحمس، وَأَبوهُ مكشوح اسْمه: هُبَيْرَة بن هِلَال، وَيُقَال: عبد يَغُوث بن هُبَيْرَة بن الْحَارِث بن عَمْرو ابْن عَامر بن على بن أسلم بن أحمس بن الْغَوْث بن أَنْمَار، وأنمار: هُوَ وَالِد بجيلة وخثعم، وسمى أَبوهُ مكشوحا لِأَنَّهُ ضرب بِسيف على كشحة، ويكنى قيس أَبَا شَدَّاد، وَهُوَ قَاتل الْأسود العنسيّ الْكذَّاب. وَكَانَ قيس بطلا بئيسا، قَتله على- كرم الله وَجهه- يَوْم صفّين.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: زُبَيْدُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ مُنَبِّهِ بْنِ صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ ابْن مَذْحِجَ، وَيُقَالُ زُبَيْدُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ، وَيُقَالُ زُبَيْدُ ابْن صَعْبٍ. وَمُرَادُ: يُحَابِرُ بْنُ مَذْحِجَ.(سَبَبُ قَوْلِ عَمْرو بن معديكرب هَذَا الشِّعْرَ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ، قَالَ:
كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إلَى سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيِّ، وَبَاهِلَةَ ابْن يَعْصُرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ، وَهُوَ بِأَرْمِينِيَّةِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُفَضِّلَ أَصْحَابَ الْخَيْلِ الْعِرَابِ عَلَى أَصْحَابِ الْخَيْلِ الْمَقَارِفِ [١] فِي الْعَطَاءِ، فَعَرَضَ الْخَيْلَ، فَمَرَّ بِهِ فَرَسُ عَمْرو بن معديكرب، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: فَرَسُكَ هَذَا مُقْرِفٌ، فَغَضِبَ عَمْرٌو، وَقَالَ: هَجِينٌ عَرَفَ هَجِينًا مِثْلَهُ، فَوَثَبَ إلَيْهِ قَيْسٌ فَتَوَعَّدَهُ، فَقَالَ عَمْرُو هَذِهِ الْأَبْيَاتِ [٢] .
(صِدْقُ كَهَانَةِ سَطِيحٍ وَشِقٍّ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَهَذَا الَّذِي عَنَى سَطِيحٌ الْكَاهِنُ بِقَوْلِهِ: «لَيَهْبِطَنَّ أَرْضَكُمْ الْحَبَشُ، فَلَيَمْلِكُنَّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إلَى جُرَشَ» . وَاَلَّذِي عَنَى شِقٌّ الْكَاهِنُ بِقَوْلِهِ:
«لَيَنْزِلَنَّ أَرْضَكُمْ السُّودَانُ، فَلَيَغْلِبُنَّ عَلَى كُلِّ طِفْلَةٍ الْبَنَانَ، وَلَيَمْلِكُنَّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إلَى نَجْرَانَ» .
غَلَبَ أَبْرَهَةُ الْأَشْرَمُ عَلَى أَمْرِ الْيَمَنِ، وَقَتَلَ أَرْيَاطَ
(مَا كَانَ بَيْنَ أَرْيَاطَ وَأَبْرَهَةَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [٣]: فَأَقَامَ أَرْيَاطُ بِأَرْضِ الْيَمَنِ سِنِينَ فِي سُلْطَانِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ نَازَعَهُ
[٢] وَيُقَال: بل إِن عمرا قَالَ هَذَا الشّعْر لعمر بن الْخطاب حِين أَرَادَ ضربه بِالدرةِ فِي حَدِيث طَوِيل سَاقه المَسْعُودِيّ فِي كِتَابه مروج الذَّهَب (ج ١ ص ٣٢٩- ٣٣٠) .
[٣] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول والطبري، وَفِي أ «ابْن هِشَام»، وَالصَّوَاب مَا أَثْبَتْنَاهُ.
فَأرْسل إِلَيْهِ أرباط: أَنْصَفْتَ فَخَرَجَ إلَيْهِ أَبْرَهَةُ، وَكَانَ رَجُلًا قَصِيرًا (لَحِيمًا [٢] حَادِرًا) [٣] وَكَانَ ذَا دِينٍ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَخَرَجَ إلَيْهِ أَرْيَاطُ، وَكَانَ رَجُلًا جَمِيلًا عَظِيمًا طَوِيلًا، وَفِي يَدِهِ حَرْبَةٌ لَهُ. وَخَلَفَ أَبْرَهَةَ غُلَامٌ لَهُ، يُقَالُ لَهُ عَتَوْدَةُ [٤]، يَمْنَعُ ظَهْرَهُ. فَرَفَعَ أَرْيَاطُ الْحَرْبَةَ فَضَرَبَ أَبْرَهَةَ، يُرِيدُ يَافُوخَهُ [٥]، فَوَقَعَتْ الْحَرْبَةُ عَلَى جَبْهَةِ أَبْرَهَةَ فَشَرَمَتْ حَاجِبَهُ وَأَنْفَهُ وَعَيْنَهُ وَشَفَتَهُ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَ أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمَ، وَحَمَلَ عَتَوْدَةُ عَلَى أَرْيَاطَ مِنْ خَلْفِ أَبْرَهَةَ فَقَتَلَهُ، وَانْصَرَفَ جُنْدُ أَرْيَاطَ إلَى أَبْرَهَةَ، فَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْحَبَشَةُ بِالْيَمَنِ، وَوَدَى [٦] أَبْرَهَةُ أَرْيَاطَ.(غَضَبُ النَّجَاشِيِّ عَلَى أَبْرَهَةَ لِقَتْلِهِ أَرْيَاطَ ثُمَّ رِضَاؤُهُ عَنْهُ):
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّجَاشِيَّ غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَ: عَدَا عَلَى أَمِيرِي فَقَتَلَهُ بِغَيْر أمرى، ثمَّ حَلَفَ لَا يَدَعُ أَبْرَهَةَ حَتَّى يَطَأَ بِلَادَهُ، وَيَجُزَّ نَاصِيَتَهُ. فَحَلَقَ أَبْرَهَةُ رَأْسَهُ وَمَلَأَ جِرَابًا مِنْ تُرَابِ الْيَمَنِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إلَى النَّجَاشِيِّ، ثُمَّ كَتَبَ إلَيْهِ:
أَيُّهَا الْمَلِكُ: إنَّمَا كَانَ أَرْيَاطُ عَبْدَكَ، وَأَنَا عَبْدُكَ، فَاخْتَلَفْنَا فِي أَمْرِكَ، وَكُلٌّ طَاعَتُهُ لَكَ، إلَّا أَنِّي كُنْتُ أَقْوَى عَلَى أَمْرِ الْحَبَشَةِ وَأَضْبَطَ لَهَا وَأَسْوَسَ مِنْهُ، وَقَدْ حَلَقْتُ رَأْسِي كُلَّهُ حِينَ بَلَغَنِي قَسَمُ الْمَلِكِ، وَبَعَثْتُ إلَيْهِ بِجِرَابِ تُرَابٍ مِنْ أَرْضِي، لِيَضَعَهُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَيَبَرُّ قَسَمُهُ فِيَّ.
فَلَمَّا انْتَهَى ذَلِكَ إلَى النَّجَاشِيِّ رَضِيَ عَنْهُ، وَكَتَبَ إلَيْهِ: أَنْ اُثْبُتْ بِأَرْضِ الْيَمَنِ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي. فَأَقَامَ أَبْرَهَةُ بِالْيَمَنِ.
[٢] اللحيم: الْكثير لحم الْجَسَد.
[٣] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ. والحادر: السمين الغليظ.
[٤] مَأْخُوذ من العتودة، وَهِي الشدَّة فِي الْحَرْب.
[٥] اليافوخ: وسط الرَّأْس.
[٦] وداه: دفع دِيَته.
أَمْرُ الْفِيلِ، وَقِصَّةُ النَّسَأَةِ
(بِنَاءُ الْقُلَّيْسِ):
ثُمَّ إنَّ أَبْرَهَةَ بَنَى الْقُلَّيْسَ [١] بِصَنْعَاءَ، فَبَنَى كَنِيسَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فِي زَمَانِهَا بِشَيْءِ مِنْ الْأَرْضِ، ثُمَّ كَتَبَ إلَى النَّجَاشِيِّ: إنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ كَنِيسَةً لَمْ يُبْنَ مِثْلُهَا لِمَلِكِ كَانَ قَبْلَكَ، وَلَسْتُ بِمُنْتَهٍ حَتَّى أَصْرِفَ إلَيْهَا حَجَّ الْعَرَبِ، فَلَمَّا تَحَدَّثَتْ الْعَرَبُ بِكِتَابِ أَبْرَهَةَ ذَلِكَ إلَى النَّجَاشِيِّ، غَضِبَ رَجُلٌ مِنْ النَّسَأَةِ، أَحَدُ بَنِي فُقَيْمِ ابْن عَدِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ مِنْ مُضَرَ.
(مَعْنَى النَّسَأَةِ):
وَالنَّسَأَةُ: الَّذِينَ كَانُوا يَنْسَئُونَ الشُّهُورَ عَلَى الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَيُحِلُّونَ الشَّهْرَ مِنْ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَيُحَرِّمُونَ مَكَانَهُ الشَّهْرَ مِنْ أَشْهُرِ الْحِلِّ، وَيُؤَخِّرُونَ ذَلِكَ الشَّهْرَ فَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا، يُحِلُّونَهُ عَامًا، وَيُحَرِّمُونَهُ عَاما، لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ٩: ٣٧
(الْمُوَاطَأَةُ لُغَةً):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: لِيُوَاطِئُوا: لِيُوَافِقُوا. وَالْمُوَاطَأَةُ: الْمُوَافَقَةُ، تَقُولُ الْعَرَبُ:
وَاطَأْتُكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ، أَيْ وَافَقْتُكَ عَلَيْهِ. وَالْإِيطَاءُ فِي الشِّعْرِ الْمُوَافَقَةُ، وَهُوَ اتِّفَاقُ الْقَافِيَتَيْنِ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَجِنْسٍ وَاحِدٍ، نَحْوَ قَوْلِ الْعَجَّاجِ- وَاسْمُ الْعَجَّاجِ [٢] عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رُؤْبَةَ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمِ بْنِ مُرِّ بْنِ أدّ بن طابخة بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ.
[٢] ويكنى أَبُو الشعْثَاء، وسمى العجاج لقَوْله: «حَتَّى يعج عِنْدهَا من عججا» كَذَا فِي الرَّوْض الْأنف.
[١] ثُمَّ قَالَ:
مُدُّ الْخَلِيجِ [٢] فِي الْخَلِيجِ الْمُرْسَلِ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ.(تَارِيخُ النَّسْءِ عِنْدَ الْعَرَبِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ نَسَأَ الشُّهُورَ عَلَى الْعَرَبِ، فَأَحَلَّتْ مِنْهَا مَا أُحِلَّ، وَحَرَّمَتْ مِنْهَا مَا حَرَّمَ القَلَمَّسُ [٣]، وَهُوَ حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ بْنِ فُقَيْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ. ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُهُ (عَبَّادُ) [٤] بْنُ حُذَيْفَةَ، ثُمَّ قَامَ بَعْدَ عَبَّادٍ: قَلَعُ بْنُ عَبَّادٍ، ثُمَّ قَامَ بَعْدَ قَلَعٍ: أُمَيَّةُ ابْن قَلَعٍ، ثُمَّ قَامَ بَعْدَ أُمَيَّةَ: عَوْفُ بْنُ أُمَيَّةَ، ثُمَّ قَامَ بَعْدَ عَوْفٍ أَبُو ثُمَامَةَ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ آخِرَهُمْ، وَعَلَيْهِ قَامَ الْإِسْلَامُ [٥]، وَكَانَتْ الْعَرَبُ إذَا فَرَغَتْ مِنْ حَجِّهَا اجْتَمَعَتْ إلَيْهِ، فَحَرَّمَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ الْأَرْبَعَةَ: رَجَبًا، وَذَا الْقَعْدَةِ، وَذَا الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمَ. فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِلَّ مِنْهَا شَيْئًا أَحَلَّ الْمُحَرَّمَ فَأَحَلُّوهُ، وَحَرَّمَ مَكَانَهُ صَفَرَ فَحَرَّمُوهُ، لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. فَإِذَا أَرَادُوا الصَّدَرَ [٦] قَامَ فِيهِمْ فَقَالَ:
اللَّهمّ إنِّي قَدْ أَحْلَلْتُ لَكَ أَحَدَ الصَّفَرَيْنِ، الصَّفَرَ الْأَوَّلَ، وَنَسَّأَتْ الْآخَرَ لِلْعَامِ الْمُقْبِلِ [٧]
أَدَاة السانية.
[٢] (ديوَان ص ٤٧) الخليج: الْجَبَل، وَهُوَ أَيْضا خليج المَاء.
[٣] وسمى القلمس لجوده، إِذْ القلمس من أَسمَاء الْبَحْر.
[٤] زِيَادَة عَن أ.
[٥] يخْتَلف أهل الْخَبَر فِي هَل أسلم جُنَادَة هَذَا أم لم يسلم، غير أَن هُنَاكَ خَبرا يدل على إِسْلَامه، وَذَلِكَ أَنه حضر الْحَج فِي زمن عمر، فَرَأى النَّاس يزدحمون على الْحَج، فَنَادَى: أَيهَا النَّاس، إِنِّي قد أجرته مِنْكُم.
فخفقه عمر بِالدرةِ، وَقَالَ: وَيحك! إِن الله قد أبطل أَمر الْجَاهِلِيَّة.
[٦] الصَّدْر: الرُّجُوع من مَكَّة.
[٧] كَانَ النسء عِنْدهم على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا مَا ذكر ابْن إِسْحَاق من تَأْخِير شهر الْمحرم إِلَى صفر لحاجتهم إِلَى شن الغارات وَطلب الثارات. وَالثَّانِي: تأخيرهم الْحَج عَن وقته تحريا مِنْهُم للسّنة الشمسية، فَكَانُوا يؤخرونه فِي كل عَام أحد عشر يَوْمًا أَو أَكثر قَلِيلا حَتَّى يَدُور الدّور إِلَى ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة، فَيَعُود إِلَى وقته، وَلذَلِك قَالَ عليه السلام فِي حجَّة الْوَدَاع: «إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَته يَوْم خلق الله السَّمَوَات
لَقَدْ عَلِمَتْ مَعَدُّ أَنَّ قَوْمِي … كِرَامُ النَّاسِ أَنَّ لَهُمْ كِرَامَا [٢] فَأَيُّ النَّاسِ فَاتُونَا بِوِتْرٍ [٣] … وَأَيُّ النَّاسِ لَمْ نُعْلِكْ لِجَامَا [٤] أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ … شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامَا؟
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَوَّلُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ [٥] الْمُحَرَّمُ.(إحْدَاثُ الْكِنَانِيِّ فِي الْقُلَّيْسِ، وَحَمْلَةُ أَبْرَهَةَ عَلَى الْكَعْبَةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَخَرَجَ الْكِنَانِيُّ حَتَّى أَتَى الْقُلَّيْسَ فَقَعَدَ [٦] فِيهَا- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ يَعْنِي أَحْدَثَ فِيهَا- قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ فَلَحِقَ بِأَرْضِهِ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبْرَهَةُ فَقَالَ: مَنْ صَنَعَ هَذَا؟ فَقِيلَ لَهُ: صَنَعَ هَذَا رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي تَحُجُّ الْعَرَبُ إلَيْهِ بِمَكَّةَ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَكَ: «أَصْرِفُ إلَيْهَا حَجَّ الْعَرَبِ» غَضِبَ فَجَاءَ فَقَعَدَ فِيهَا، أَيْ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِذَلِكَ بِأَهْلِ. فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبْرَهَةُ وَحَلَفَ لَيَسِيرَنَّ إلَى الْبَيْتِ حَتَّى يَهْدِمَهُ، ثُمَّ أَمَرَ الْحَبَشَةَ فَتَهَيَّأَتْ وَتَجَهَّزَتْ، ثُمَّ سَارَ وَخَرَجَ مَعَهُ بِالْفِيلِ، وَسَمِعَتْ بِذَلِكَ الْعَرَبُ، فَأَعْظَمُوهُ وَفَظِعُوا بِهِ، وَرَأَوْا جِهَادَهُ حَقًّا عَلَيْهِمْ، حِينَ سَمِعُوا بِأَنَّهُ يُرِيدُ هَدْمَ الْكَعْبَةِ، بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ.
(عَن الرَّوْض الْأنف) .
[١] سمى عُمَيْر كَذَلِك لثباته فِي الْحَرْب كَأَنَّهُ جذل شَجَرَة وَاقِف وَقيل لِأَنَّهُ كَانَ يستشفى بِرَأْيهِ.
ويستراح إِلَيْهِ كَمَا تستريح الْبَهِيمَة الجرباء إِلَى الجذل تَحْتك بِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: جذل الطعان: هُوَ عَلْقَمَة بن فراس بن غنم بن ثَعْلَبَة بن مَالك بن كنَانَة. (رَاجع الرَّوْض الْأنف وَشرح السِّيرَة) .
[٢] أَي: آبَاء كراما وأخلاقا كراما.
[٣] الْوتر: طلب الثأر.
[٤] لم نعلك لجاما: يُرِيد لم نقدعهم ونكفهم كَمَا يُقْدَع الْفرس باللجام، تَقول: أعلكت الْفرس لجامه، إِذا رَددته عَن تنزعه، فمضغ اللجام كالعلك من نشاطه.
[٥] وَقد قيل: إِن أول الْأَشْهر الْحرم ذُو الْقعدَة، لِأَن رَسُول الله ﷺ بَدَأَ بِهِ حِين ذكر الْأَشْهر الْحرم، وَحجَّة من قَالَ إِنَّه الْمحرم، هِيَ أَنه (أَي الْمحرم) أول السّنة.
[٦] فِي الْقعُود بِمَعْنى الاحداث شَاهد لقَوْل مَالك وَغَيره من الْفُقَهَاء فِي تَفْسِير الْقعُود على الْمَقَابِر الْمنْهِي عَنهُ
فَخَرَجَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَمُلُوكِهِمْ يُقَالُ لَهُ: ذُو نَفْرٍ، فَدَعَا قَوْمَهُ، وَمَنْ أَجَابَهُ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ إلَى حَرْبِ أَبْرَهَةَ، وَجِهَادِهِ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَمَا يُرِيدُ مِنْ هَدْمِهِ وَإِخْرَابِهِ، فَأَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ مَنْ أَجَابَهُ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ فَقَاتَلَهُ، فَهُزِمَ ذُو نَفْرٍ وَأَصْحَابُهُ، وَأُخِذَ لَهُ ذُو نَفْرٍ فَأُتِيَ بِهِ أَسِيرًا، فَلَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُ قَالَ لَهُ ذُو نَفْرٍ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، لَا تَقْتُلْنِي فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَائِي مَعَكَ خَيْرًا لَكَ مِنْ قَتْلِي، فَتَرَكَهُ مِنْ الْقَتْلِ وَحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي وَثَاقٍ، وَكَانَ أَبْرَهَةُ رَجُلًا حَلِيمًا.(مَا وَقَعَ بَيْنَ نُفَيْلٍ وَأَبْرَهَةَ):
ثُمَّ مَضَى أَبْرَهَةُ عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ يُرِيدُ مَا خَرَجَ لَهُ، حَتَّى إذَا كَانَ بِأَرْضِ خَثْعَمَ [١] عَرَضَ لَهُ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ فِي قَبيلَيْ خَثْعَمَ: شَهْرَانِ وَنَاهِسُ [٢]، وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ أَبْرَهَةُ، وَأُخِذَ لَهُ نُفَيْلٌ أَسِيرًا، فَأُتِيَ بِهِ فَلَمَّا هَمَّ بِقَتْلِهِ قَالَ لَهُ نُفَيْلٌ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، لَا تَقْتُلْنِي فَإِنِّي دَلِيلُكَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، وَهَاتَانِ يَدَايَ لَكَ عَلَى قبيلَيْ خَثْعَمَ: شَهْرَانِ وَنَاهِسُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ.
(ابْنُ مُعَتِّبٍ وَأَبْرَهَةُ):
وَخَرَجَ بِهِ مَعَهُ يَدُلُّهُ، حَتَّى إذَا مَرَّ بِالطَّائِفِ خَرَجَ إلَيْهِ مَسْعُودُ بْنُ مُعَتِّبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَرْوِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ فِي رِجَالِ ثَقِيفٍ.
(نَسَبُ ثَقِيفٍ وَشِعْرُ ابْنِ أَبِي الصَّلْتِ فِي ذَلِكَ):
وَاسْمُ ثَقِيفٍ: قَسِيُّ بْنُ النَّبِيتِ بْنِ مُنَبِّهِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ يَقْدُمَ بْنِ أَفْصَى بْنِ دُعْمّى بْنِ إيَادِ [٣] (بْنِ نِزَارِ) [٤] بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ.
[٢] شَهْرَان وناهس: هما بَنو عفرس من خثعم. وَيُقَال: بل خثعم ثَلَاث: شَهْرَان، وناهس، وأكلب غير أَن أكلب- عِنْد أهل النّسَب- هُوَ ابْن ربيعَة بن نزار، وَلَكنهُمْ دخلُوا فِي خثعم وانتسبوا إِلَيْهِم.
[٣] بَين النسابين خلاف فِي نسب ثَقِيف، فبعضهم ينسبهم إِلَى إياد- كَمَا هُنَا- وَبَعْضهمْ ينسبهم إِلَى قيس. كَمَا ينسبهم الْبَعْض الآخر إِلَى ثَمُود. وَالْكَلَام على هَذَا مَبْسُوط فِي كثير من المراجع الَّتِي بَين أَيْدِينَا، وَقد اكتفينا مِنْهُ هُنَا بِمَا أثبتنا.
[٤] زِيَادَة عَن أ. وَالْمَعْرُوف أَن إيادا هَذَا هُوَ بن نزار بن سعد، وَلَيْسَ ابْنا لمعد لصلبه، غير أَن هُنَاكَ
قَوْمِي إيَادٌ لَوْ أَنهم أُمَم … أولو أَقَامُوا فَتُهْزَلَ النِّعَمُ [٢] قَوْمٌ لَهُمْ سَاحَةُ الْعِرَاقِ إذَا … سَارُوا جَمِيعًا وَالْقِطُّ وَالْقَلَمُ
[٣] وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَيْضًا:
فَإِمَّا تَسْأَلِي عَنِّي لُبَيْنَى … وَعَنْ نَسَبِي أُخَبِّرْكَ اليَقينَا
فَإِنَّا للنَّبيتِ أَبِي قَسِيٍّ … لَمَنْصُورُ بْنُ يَقْدُمَ الْأَقْدَمِينَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ثَقِيفٌ: قَسِىُّ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ.
وَالْبَيْتَانِ الْأَوَّلَانِ وَالْآخِرَانِ فِي قَصِيدَتَيْنِ لِأُمَيَّةِ.(اسْتِسْلَامُ أَهْلِ الطَّائِفِ لِأَبْرَهَةَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إنَّمَا نَحْنُ عَبِيدُكَ سَامِعُونَ لَكَ مُطِيعُونَ، لَيْسَ عِنْدَنَا لَكَ خِلَافٌ، وَلَيْسَ بَيْتُنَا هَذَا الْبَيْتَ الَّذِي تُرِيدُ- يَعْنُونَ اللَّاتَ– إنَّمَا تُرِيدُ الْبَيْتَ الَّذِي بِمَكَّةَ، وَنَحْنُ نَبْعَثُ مَعَكَ مَنْ يَدُلُّكَ عَلَيْهِ، فَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ.
(اللَّاتُ):
وَاَللَّاتُ: بَيْتٌ لَهُمْ بِالطَّائِفِ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ نَحْوَ تَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
أَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النَّحْوِيُّ لِضِرَارِ بْنِ الْخَطَّابِ الْفِهْرِيِّ:
وَفَرَّتْ ثَقِيفٌ إلَى لَاتِهَا … بِمُنْقَلَبِ الْخَائِبِ الْخَاسِرِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
(مَعُونَةُ أَبِي رِغَالٍ لِأَبْرَهَةَ وَمَوْتُهُ وَقَبْرُهُ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فبعثوا مَعَه أبار غال يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ إلَى مَكَّةَ، فَخَرَجَ أَبْرَهَةُ
[١] وَاسم أَبى الصَّلْت: ربيعَة بن وهب.
[٢] الْأُمَم: الْقَرِيب. وَالنعَم: الْإِبِل، وَقيل: النعم: كل مَاشِيَة أَكْثَرهَا إبل. يُرِيد أَي لَو أَقَامُوا بالحجاز، وَإِن هزلت نعمهم، لأَنهم انتقلوا عَنْهَا لِأَنَّهَا ضَاقَتْ عَن مسارحهم فصاروا إِلَى ريف الْعرَاق.
[٣] القط: مَا قطّ من الكاغد وَالرّق وَنَحْوه. وَقد كَانَت الْكِتَابَة فِي هَذِه الْبِلَاد الَّتِي سَارُوا إِلَيْهَا، فقد قيل لقريش: مِمَّن تعلمتم القط؟ فَقَالُوا: تعلمناه من أهل الْحيرَة وتعلمه أهل الْحيرَة من أهل الأنبار.
وَمَعَهُ أَبُو رِغَالٍ حَتَّى أَنْزَلَهُ الْمُغَمِّسَ [١]، فَلَمَّا أَنْزَلَهُ بِهِ مَاتَ أَبُو رِغَالٍ هُنَالِكَ، فَرَجَمَتْ قَبْرَهُ الْعَرَبُ، فَهُوَ الْقَبْرُ الَّذِي يَرْجُمُ النَّاسُ بِالْمُغَمِّسِ.
(الْأَسْوَدُ وَاعْتِدَاؤُهُ عَلَى مَكَّةَ):
فَلَمَّا نَزَلَ أَبْرَهَةُ الْمُغَمِّسَ، بَعَثَ رَجُلًا مِنْ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهُ: الْأَسْوَدُ بْنُ مَقْصُودٍ [٢] عَلَى خَيْلٍ لَهُ، حَتَّى انْتَهَى إلَى مَكَّةَ، فَسَاقَ إلَيْهِ أَمْوَالَ (أَهْلِ) [٣] تِهَامَةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، وَأَصَابَ فِيهَا مِائَتَيْ بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا، فَهَمَّتْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَهُذَيْلٌ، وَمَنْ كَانَ بِذَلِكَ الْحَرَمِ (مِنْ سَائِرِ النَّاسِ) [٤] بِقِتَالِهِ. ثُمَّ عَرَفُوا أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، فَتَرَكُوا ذَلِكَ.
(حُنَاطَةُ وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ):
وَبَعَثَ أَبْرَهَةُ حُنَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ إلَى مَكَّةَ، وَقَالَ لَهُ: سَلْ عَنْ سَيِّدِ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ وَشَرِيفِهَا، ثُمَّ قُلْ (لَهُ) [٥]: إنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ لَكَ: إنِّي لَمْ آتِ لِحَرْبِكُمْ، إنَّمَا جِئْتُ لِهَدْمِ هَذَا الْبَيْتِ، فَإِنْ لَمْ تَعْرِضُوا دُونَهُ بِحَرْبِ، فَلَا حَاجَةَ لِي بِدِمَائِكُمْ، فَإِنْ هُوَ لَمْ يُرِدْ حَرْبِي فَأْتِنِي بِهِ. فَلَمَّا دَخَلَ حُنَاطَةُ مَكَّةَ، سَأَلَ عَنْ سَيِّدِ قُرَيْشٍ وَشَرِيفِهَا، فَقِيلَ لَهُ: عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمِ (بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ) [٦]، فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَبْرَهَةُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: وَاَللَّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ، وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ [٧] طَاقَةٍ، هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ، وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام أَوْ كَمَا قَالَ- فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ [٨]، وَإِنْ يُخَلِّ بَينه وَبَينه، فو الله مَا عِنْدَنَا دَفْعٌ
[٢] كَذَا فِي أهنا وَفِيمَا سَيَأْتِي، والطبري. وَفِي سَائِر الْأُصُول: مفصود (بِالْفَاءِ) . وَهُوَ الْأسود بن مَقْصُود بن الْحَارِث بن مُنَبّه بن مَالك بن كَعْب بن الْحَارِث بن كَعْب بن عَمْرو بن عله (على وزن عمر) ابْن خَالِد بن مذْحج، وَكَانَ النَّجَاشِيّ قد بَعثه مَعَ الفيلة والجيش. وَكَانَت عدَّة الفيلة ثَلَاثَة عشر فيلا، فَهَلَكت كلهَا إِلَّا فيل النَّجَاشِيّ، وَكَانَ يُسمى مَحْمُودًا.
[٣] زِيَادَة عَن أوالطبري.
[٤] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.
[٥] زِيَادَة عَن أوالطبري.
[٦] زِيَادَة عَن أوالطبري.
[٧] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ. وَفِي الْأُصُول: «مِنْهُ» .
[٨] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ، وَفِي الْأُصُول «حرمته» .
عَنْهُ، فَقَالَ (لَهُ) [١] حُنَاطَةُ: فَانْطَلِقْ مَعِي إلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِكَ.
(ذُو نَفْرٍ وَأُنَيْسٌ وَتَوَسُّطُهُمَا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَدَى أَبْرَهَةَ):
فَانْطَلَقَ مَعَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَمَعَهُ بَعْضُ بَنِيهِ حَتَّى أَتَى الْعَسْكَرَ، فَسَأَلَ عَنْ ذِي نَفْرٍ، وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَحْبِسِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا ذَا نَفْرٍ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ غَنَاءٍ فِيمَا نَزَلَ بِنَا؟ فَقَالَ لَهُ ذُو نَفْرٍ: وَمَا غَنَاءُ رَجُلٍ أَسِيرٍ بِيَدَيْ مَلِكٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَقْتُلَهُ غُدُوًّا أَوْ عَشِيًّا مَا عِنْدَنَا غَنَاءٌ فِي شَيْءٍ مِمَّا نَزَلَ بِكَ إلَّا أَنَّ أُنَيْسًا سَائِسَ الْفِيلِ صَدِيقٌ لِي، وَسَأُرْسِلُ إلَيْهِ فَأُوصِيهِ بِكَ، وَأُعْظِمُ عَلَيْهِ حَقَّكَ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لَكَ عَلَى الْمَلِكِ، فَتُكَلِّمُهُ بِمَا بَدَا لَكَ. وَيَشْفَعُ لَكَ عِنْدَهُ بِخَيْرِ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: حَسْبِي. فَبَعَثَ ذُو نَفْرٍ إلَى أُنَيْسٍ، فَقَالَ لَهُ: إنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ سَيِّدُ قُرَيْشٍ، وَصَاحِبُ عِيرِ [٢] مَكَّةَ، يُطْعِمُ النَّاسَ بِالسَّهْلِ، وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَقَدْ أَصَابَ لَهُ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ، فَاسْتَأْذِنْ لَهُ عَلَيْهِ، وَانْفَعْهُ عِنْدَهُ بِمَا اسْتَطَعْتَ، فَقَالَ: أَفْعَلُ.
فَكَلَّمَ أُنَيْسٌ أَبْرَهَةَ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ بِبَابِكَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ، وَهُوَ صَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ، وَهُوَ يُطْعِمُ النَّاسَ فِي السَّهْلِ، وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَأْذَنْ لَهُ عَلَيْكَ، فَيُكَلِّمْكَ [٣] فِي حَاجَتِهِ، (وَأَحْسِنْ إلَيْهِ) [٤] قَالَ: فَأَذِنَ لَهُ أَبْرَهَةُ.
(عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَحُنَاطَةُ وَخُوَيْلِدُ بَيْنَ يَدَيْ أَبْرَهَةَ):
قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَوْسَمَ النَّاسِ وَأَجْمَلَهُمْ وَأَعْظَمَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ أَبْرَهَةُ أَجَلَّهُ وَأَعْظَمَهُ وَأَكْرَمَهُ عَنْ أَنْ يُجْلِسَهُ تَحْتَهُ، وَكَرِهَ أَنْ تَرَاهُ الْحَبَشَةُ يَجْلِسُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، فَنَزَلَ أَبْرَهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطِهِ، وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَيْهِ إلَى جَنْبِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ التُّرْجُمَانُ، فَقَالَ: حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي، فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ أَبْرَهَةُ لِتَرْجُمَانِهِ:
[٢] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ هُنَا وَفِيمَا سَيَأْتِي. وَفِي الأَصْل: «عين» .
[٣] كَذَا فِي أوالطبري. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فليكلمك» .
[٤] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.
٤- سيرة ابْن هِشَام- ١
وَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَدْ ذَهَبَ مَعَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إلَى أَبْرَهَةَ، حِينَ بَعَثَ إلَيْهِ حُنَاطَةَ، يَعْمُرُ بْنُ نُفَاثَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الدُّئْلِ [١] بْنِ بَكْرِ بْنِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ بَنِي بَكْرٍ، وَخُوَيْلِدُ بْنُ وَاثِلَةَ [٢] الْهُذَلِيُّ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ هُذَيْلٍ، فَعَرَضُوا عَلَى أَبْرَهَةَ ثُلُثَ أَمْوَالِ تِهَامَةَ، عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُمْ وَلَا يَهْدِمَ الْبَيْتَ فَأَبَى عَلَيْهِمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَكَانَ ذَلِكَ أَمْ لَا. فَرَدَّ أَبْرَهَةُ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْإِبِلَ الَّتِي أَصَابَ لَهُ.(عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِي الْكَعْبَةَ يَسْتَنْصِرُ باللَّه عَلَى رَدِّ أَبْرَهَةَ):
فَلَمَّا انْصَرَفُوا عَنْهُ، انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إلَى قُرَيْشٍ، فَأَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، وَالتَّحَرُّزِ [٣] فِي شَعَفِ [٤] الْجِبَالِ وَالشِّعَابِ [٥]: تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ [٦] الْجَيْشِ، ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللَّهَ، وَيَسْتَنْصِرُونَهُ عَلَى أَبْرَهَةَ وَجُنْدِهِ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَاب الْكَعْبَة:
وَأما الديل (من غير همز) فهم فِي الأزد، وَفِي إياد، وَفِي عبد الْقَيْس، وَفِي تغلب. وَهُنَاكَ غير هذَيْن «الدول» أَيْضا (بِضَم الدَّال وَإِسْكَان الْوَاو) . وَهَؤُلَاء فِي ربيعَة بن نزار، وَفِي عنزة، وَفِي ثَعْلَبَة، وَفِي الربَاب (رَاجع لِسَان الْعَرَب مَادَّة دأل) .
[٢] كَذَا فِي أوالطبري. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وائلة» بِالْهَمْز.
[٣] التَّحَرُّز: التمنع، ويروى: «التحوز»، وَهُوَ أَن ينحاز إِلَى جِهَة ويتمنع.
[٤] شعف الْجبَال: رءوسها.
[٥] الشعاب: الْمَوَاضِع الْخفية بَين الْجبَال.
[٦] معرة الْجَيْش: شدته.
[٤] (زَادَ الْوَاقِدِيُّ [٥]):
إنْ كنت تاركهم و… قبلتنا فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكْ
[٦] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا مَا صَحَّ لَهُ مِنْهَا.(شِعْرٌ لِعِكْرِمَةَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الْأَسْوَدِ بْنِ مَقْصُودٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ ابْن قصىّ:
لاهمّ أَخْزِ الْأَسْوَدَ بْنَ مَقْصُودِ … الْآخِذَ الْهَجْمَةَ [٧] فِيهَا التَّقليدْ [٨] بَيْنَ حِرَاءَ وثَبِيرٍ [٩] فَالْبِيدْ … يَحْبِسُهَا وَهِيَ أُولَاتُ التَّطْرِيدْ
فَضَمَّهَا إلَى طَمَاطِمٍ سُودْ … أَخْفِرْهُ [١٠] يَا رَبِّ وَأَنْتَ مَحْمُودْ
[٢] الْحَلَال (بِالْكَسْرِ): جمع حلَّة، وَهِي جمَاعَة الْبيُوت، وَيُرِيد هُنَا: الْقَوْم الْحُلُول. والحلال أَيْضا: مَتَاع الْبَيْت، وَجَائِز أَن يكون هَذَا الْمَعْنى الثَّانِي مرَادا هُنَا.
[٣] غدوا: غَدا، وَهُوَ الْيَوْم الّذي يأتى بعد يَوْمك، فحذفت لامه، وَلم يسْتَعْمل تَاما إِلَّا فِي الشّعْر.
[٤] الْمحَال: الْقُوَّة والشدة.
[٥] زِيَادَة عَن أ.
[٦] وَزَاد السهيليّ فِي الرَّوْض الْأنف:
وانصر على آل الصَّلِيب … وعابديه الْيَوْم آلك
وَذكرت بقيتها فِي الطَّبَرِيّ، واجتزأنا مِنْهَا بِمَا ذكر هُنَا، فَارْجِع إِلَيْهَا فِي الْقسم الأول من الطَّبَرِيّ (ص ٩٤٠- ٩٤١ طبع أوربا) . وَقد ذكر لعبد الْمطلب فِي الطَّبَرِيّ قصيدة أُخْرَى غير هَذِه القصيدة.
[٧] الهجمة: الْقطعَة من الْإِبِل مَا بَين التسعين إِلَى الْمِائَة. وَيُقَال للمائة مِنْهَا: هنيدة، وللمائتين: هِنْد، والثلاثمائة: أُمَامَة، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
تبين رويدا مَا أُمَامَة من هِنْد
[٨] التَّقْلِيد: يُرِيد فِي أعناقها القلائد.
[٩] حراء وثبير: جبلان.
[١٠] أخفره: أَي انقض عَهده، ويروى بِالْحَاء الْمُهْملَة، أَي اجْعَلْهُ منحفرا، أَي خَائفًا وجلا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ أَرْسَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حَلْقَةَ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَانْطَلَقَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى شَعَفِ الْجِبَالِ فَتَحَرَّزُوا فِيهَا يَنْتَظِرُونَ مَا أَبْرَهَةُ فَاعِلٌ بِمَكَّةَ إذَا دَخَلَهَا.(دُخُولُ أَبْرَهَةَ مَكَّةَ، وَمَا وَقَعَ لَهُ وَلِفِيلِهِ، وَشِعْرُ نُفَيْلٍ فِي ذَلِكَ):
فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبْرَهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَهَيَّأَ فِيلَهُ وَعَبَّى [٢] جَيْشَهُ، وَكَانَ اسْمُ الْفِيلِ مَحْمُودًا، وَأَبْرَهَةُ مُجْمِعٌ لِهَدْمِ الْبَيْتِ، ثُمَّ الِانْصِرَافِ إلَى الْيَمَنِ. فَلَمَّا وَجَّهُوا الْفِيلَ إلَى مَكَّةَ، أَقْبَلَ نُفَيْلُ [٣] بْنُ حَبِيبٍ (الْخَثْعَمِيُّ [٤]) حَتَّى قَامَ إلَى جَنْبِ الْفِيلِ، ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ، فَقَالَ: اُبْرُكْ مَحْمُودُ، أَوْ ارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ جِئْتَ، فَإِنَّكَ فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ، ثُمَّ أَرْسَلَ أُذُنَهُ. فَبَرَكَ [٥] الْفِيلُ، وَخَرَجَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ يَشْتَدُّ حَتَّى أَصْعَدَ [٦] فِي الْجَبَلِ، وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى، فَضَرَبُوا (فِي) [٧] رَأْسِهِ بالطَّبَرْزِينَ [٨] لِيَقُومَ فَأَبَى، فَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَ [٩] لَهُمْ فِي مَرَاقِّهِ [١٠] فَبَزَغُوهُ بِهَا [١١] لِيَقُومَ فَأَبَى، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إلَى الْيَمَنِ، فَقَامَ يُهَرْوِلُ، وَوَجَّهُوهُ إلَى الشَّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ، فَأَرْسَلَ
[٢] يُقَال عبى الْجَيْش (بِغَيْر همز) وعبأت الْمَتَاع (بِالْهَمْز) . وَقد حكى: عبأت الْجَيْش (بِالْهَمْز) وَهُوَ قَلِيل.
[٣] وَقيل هُوَ نفَيْل بن عبد الله بن جُزْء بن عَامر بن مَالك بن واهب بن جليحة بن أكلب بن ربيعَة بن عفرس بن جلف بن أفتل، وَهُوَ خثعم (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[٤] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.
[٥] لَعَلَّه يُرِيد فعل فعل البارك، لِأَن الْمَعْرُوف عَن الْفِيل أَنه لَا يبرك.
[٦] أصعد: علا وَالْأَكْثَر صعد فِي الْجَبَل بتَشْديد الْعين.
[٧] زِيَادَة عَن أوالطبري.
[٨] الطبرزين: آلَة معقفة من حَدِيد، وطبر بِالْفَارِسِيَّةِ: مَعْنَاهَا الفأس.
[٩] المحاجن: جمع محجن، وَهِي عَصا معوجة، وَقد يَجْعَل فِي طرفها حَدِيد.
[١٠] مراقة: يعْنى أَسْفَل بَطْنه.
[١١] بزغوه: أدموه. وَمِنْه المبزغ، وَهُوَ المشرط للحجام وَنَحْوه.
أَيْنَ الْمَفَرُّ وَالْإِلَهُ الطَّالِبُ … وَالْأَشْرَمُ الْمَغْلُوبُ لَيْسَ الْغَالِبُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهُ: «لَيْسَ الْغَالِبُ» عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ نُفَيْلٌ أَيْضًا:
أَلَا حُيِّيتَ عَنَّا يَا رُدَيْنَا [٣] … نَعِمْنَاكُمْ [٤] مَعَ الْإِصْبَاحِ عَيْنَا
(أَتَانَا قَابِسٌ مِنْكُمْ عِشَاءً … فَلَمْ يُقْدَرْ لِقَابِسِكُمْ لَدَيْنَا) [٥] رُدَيْنَةُ لَوْ رَأَيْتِ- وَلَا تَرَيْهِ [٦] … لَدَى جَنْبِ الْمُحَصَّبِ [٧] مَا رَأَيْنَا
إِذا لَعَذَرْتِنِي وَحَمِدْتِ أَمْرِي [٨] … وَلَمْ تَأْسَيْ عَلَى مَا فَاتَ بَيْنَا [٩] حَمِدْتُ اللَّهَ إذْ أَبْصَرْتُ طَيْرًا … وَخِفْتُ حِجَارَةً تُلْقَى عَلَيْنَا
وَكُلُّ الْقَوْمِ يَسْأَلُ عَنْ نُفَيْلٍ … كَأَنَّ عَلَيَّ لِلْحُبْشَانِ دَيْنَا
والبلسان كَذَا فِي الأَصْل. وَفِي النِّهَايَة لِابْنِ الْأَثِير (مَادَّة بلس) فِي التَّعْلِيق على حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ عباد بن مُوسَى: «وأظنها الزرازير» وَقَالَ أَبُو ذَر الخشنيّ فِي شَرحه. والخطاطيف والبلشون ضَرْبَان من الطير.
[٢] وَكَانَت قصَّة الْفِيل هَذِه أول الْمحرم من سنة ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة من تَارِيخ ذِي القرنين (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[٣] ردين: مرخم ردينة، وَهُوَ اسْم امْرَأَة.
[٤] هَذَا دُعَاء، يُرِيد: أَي نعمنا بكم، فَعدى الْفِعْل لما صرف الْجَار.
[٥] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.
[٦] فِي الطَّبَرِيّ: «وَلم تريه»، وَفِي مُعْجم الْبلدَانِ فِي الْكَلَام على المغمس: «وَلنْ تريه» .
[٧] المحصب (بِالضَّمِّ ثمَّ الْفَتْح وصاد مُهْملَة مُشَدّدَة على وزن اسْم الْمَفْعُول): مَوضِع فِيمَا بَين مَكَّة وَمنى، وَهُوَ إِلَى منى أقرب، وَهُوَ بطحاء مَكَّة (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[٨] فِي الطَّبَرِيّ: (رَأْيِي) .
[٩] بَينا: مصدر بَان يبين، وَهُوَ مُؤَكد لفات.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ [٤] بْنُ عُتْبَةَ أَنَّهُ حُدِّثَ:
أَنَّ أَوَّلَ مَا رُئِيَتْ الْحَصْبَةُ وَالْجُدَرِيُّ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ذَلِكَ الْعَامَ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَا رُئِيَ بِهَا مَرَائِرُ [٥] الشَّجَرِ الْحَرْمَلِ [٦] وَالْحَنْظَلِ وَالْعُشَرِ [٧] ذَلِكَ الْعَامَ.(مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ عَنْ قِصَّةِ الْفِيلِ، وَشَرْحُ ابْنِ هِشَامٍ لِمُفْرَدَاتِهِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا ﷺ، كَانَ مِمَّا يَعُدُّ اللَّهُ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِ، مَا رَدَّ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ لِبَقَاءِ أَمْرِهِمْ وَمُدَّتِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ.
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبابِيلَ [٨] .
تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ١٠٥: ١- ٥. وَقَالَ:
[٢] أَي ينتثر جِسْمه. والأنملة: طرف الْأصْبع، وَتطلق على غَيره، كالجزء الصَّغِير من الشَّيْء.
[٣] مث يمث: رشح.
[٤] هُوَ يَعْقُوب بن عتبَة بن الْمُغيرَة بن الْأَخْنَس بن شريق الثَّقَفِيّ الْمدنِي، حَلِيف بنى زهرَة، رأى السَّائِب بن يزِيد، وروى عَن أبان بن عُثْمَان وَجَمَاعَة، وَعنهُ، غير ابْن إِسْحَاق، عبد الْعَزِيز بن الْمَاجشون وَجَمَاعَة. وَكَانَ فَقِيها لَهُ أَحَادِيث كَثِيرَة وَعلم بالسيرة. وَكَانَ ورعا مُسلما يسْتَعْمل على الصَّدقَات ويستعين بِهِ الْوُلَاة. وَتوفى سنة ١٢٨ هـ. (عَن تراجم رجال روى عَنْهُم ابْن إِسْحَاق) .
[٥] يُقَال: شَجَرَة مرّة، وَيجمع على مرائر على غير قِيَاس، كَمَا جمعُوا حرَّة على حرائر.
[٦] الحرمل: نَوْعَانِ، نوع ورقه كورق الْخلاف، ونوره كنور الياسمين. وَنَوع سنفته طوال مُدَوَّرَة. (السنفة: أوعية الثَّمر) . والحرمل: لَا يَأْكُلهُ شَيْء إِلَّا المعزى، وَقد تطبخ عروقه فيسقاها المحموم إِذا ماطلته الْحمى، وَفِي امْتنَاع الحرمل عَن الْأكلَة قَالَ طرفَة وذم قوما:
هم حرمل أعيا على كل آكل … مبيتا وَلَو أَمْسَى سوامهم دثرا
(رَاجع اللِّسَان والمفردات) .
[٧] الْعشْر (كصرد): شجر مر لَهُ صمغ وَلبن، وتعالج بلبنه الْجُلُود قبل الدباغة.
[٨] الأبابيل: الْجَمَاعَات.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْأَبَابِيلُ: الْجَمَاعَاتُ، وَلَمْ تَتَكَلَّمْ لَهَا الْعَرَبُ بِوَاحِدِ [١] عَلِمْنَاهُ.
وَأَمَّا السِّجِّيلُ، فَأَخْبَرَنِي يُونُسُ النَّحْوِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الشَّدِيدُ الصُّلْبُ قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
وَمَسَّهُمْ مَا مَسَّ أَصْحَابَ الْفِيلْ … تَرْمِيهِمْ حِجَارَةٌ مِنْ سِجِّيلْ
وَلَعِبَتْ طَيْرٌ بِهِمْ أَبَابِيلْ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ. ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمَا كَلِمَتَانِ بِالْفَارِسِيَّةِ، جَعَلَتْهُمَا الْعَرَبُ كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا هُوَ سَنْجٌ وَجَلٌّ، يَعْنِي بِالسَّنْجِ: الْحَجَرَ، وَالْجَلُّ: الطِّينَ. يَعْنِي [٢]: الْحِجَارَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ: الْحَجَرِ وَالطِّينِ. وَالْعَصْفُ:
وَرَقُ الزَّرْعِ الَّذِي لَمْ يُقَصَّبْ، وَوَاحِدَتُهُ عَصْفَةٌ. قَالَ [٣]: وَأَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النَّحْوِيُّ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: الْعُصَافَةُ وَالْعَصِيفَةُ. وَأَنْشَدَنِي لِعَلْقَمَةَ بْنِ عَبَدَةَ أَحَدِ بَنِي رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ:
تَسْقَى مَذَانِبَ [٤] قَدْ مَالَتْ عَصِيفَتُهَا … حَدُورُهَا [٥] مَنْ أَتَّى [٦] الْمَاءَ مَطْمُومُ
[٧] وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ الرَّاجِزُ:
فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفِ مَأْكُولِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَلِهَذَا الْبَيْتِ تَفْسِيرٌ فِي النَّحْوِ [٨] .
[٢] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «يَقُول» .
[٣] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «حَدثنَا ابْن هِشَام قَالَ وأخبرنى … إِلَخ»،
[٤] المذانب: جمع مذنب، وَهُوَ مسيل المَاء إِلَى الرَّوْضَة.
[٥] حدورها (بِالْحَاء الْمُهْملَة)، أَي مَا انحدر مِنْهَا. ويروى جدروها: جمع جدر، وَهِي الحواجز الَّتِي تحبس المَاء، وَفِي الحَدِيث: «وَأمْسك المَاء حَتَّى يبلغ الْجدر ثمَّ أرْسلهُ» .
[٦] الأتى: السَّيْل يأتى من بلد بعيد.
[٧] مطموم: مُرْتَفع، مَأْخُوذ من قَوْلهم: طم المَاء: إِذا ارْتَفع وَعلا.
[٨] الْكَلَام فِيهِ على وُرُود الْكَاف حرف جر واسما بِمَعْنى مثل، وَهِي هُنَا حرف وَلكنهَا مقحمة لتأكيد
خَرْجَةٌ فِي الشِّتَاءِ، وَخَرْجَةٌ فِي الصَّيْفِ. أَخْبَرَنِي [١] أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: أَلِفْتُ الشَّيْءَ إلْفًا، وَآلَفْتُهُ إيلَافًا، فِي مَعْنًى وَاحِدٍ. وَأَنْشَدَنِي لِذِي الرُّمَّةِ:
مِنْ الْمُؤْلِفَاتِ الرُّمْلَ أَدْمَاءُ حرَّة [٢] … شُعَاع الضُّحَى فِي لَوْنِهَا يَتَوَضَّحُ
[٣] وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ مَطْرُودُ بْنُ كَعْبٍ الْخُزَاعِيُّ:
الْمُنْعِمِينَ إذَا النُّجُومُ تَغَيَّرَتْ [٤] … وَالظَّاعِنِينَ لِرِحْلَةِ الْإِيلَافِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْإِيلَافُ أَيْضًا:
أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ أَلْفٌ مِنْ الْإِبِلِ، أَوْ الْبَقَرِ، أَوْ الْغَنَمِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. يُقَالُ: آلَفَ فُلَانٌ إيلَافًا. قَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ، أَحَدُ بَنِي أَسْدِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ ابْن مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ:
بِعَامٍ يَقُولُ لَهُ الْمُؤْلِفُونَ … هَذَا الْمُعِيمُ لَنَا الْمُرْجِلُ
[٥] وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالْإِيلَافُ أَيْضًا: أَنْ يَصِيرَ الْقَوْمُ أَلْفًا، يُقَالُ آلَفَ الْقَوْمُ إيلَافًا. قَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ:
وَآلُ مُزَيقياء غَدَاةَ لَاقَوْا … بَنِي سَعْدِ بْنِ ضَبَّةَ مُؤْلِفِينَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالْإِيلَافُ أَيْضًا: أَنْ تُؤَلِّفَ الشَّيْءَ إلَى الشَّيْءِ فَيَأْلَفُهُ وَيَلْزَمُهُ، يُقَالُ: آلَفْتُهُ إيَّاهُ إيلَافًا. وَالْإِيلَافُ أَيْضًا: أَنْ تَصِيرَ مَا دُونَ الْأَلْفِ أَلْفًا، يُقَالُ: آلَفْتُهُ إيلَافًا.
[١] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: أخبرنَا ابْن هِشَام قَالَ أخبرنى … إِلَخ.
[٢] الأدماء من الظباء: السمراء الظّهْر الْبَيْضَاء الْبَطن.
[٣] شُعَاع الضُّحَى: بريق لَونه. ويتوضح: يتَبَيَّن.
[٤] تَغَيَّرت: استحالت عَن عَادَتهَا من الْمَطَر، على مَذْهَب الْعَرَب فِي النُّجُوم. ويروى: «تغبرت» بِالْبَاء الْمُوَحدَة: أَي قل مطرها، من الغبر، وَهُوَ الْبَقِيَّة.
[٥] المعيم: من العيمة، وَهِي الشوق إِلَى اللَّبن. والمرجل: الّذي تذْهب إبِله فَيَمْشِي على أرجله. يُرِيد تِلْكَ السّنة تجْعَل صَاحب الْألف من اللَّبن يعام إِلَى اللَّبن، وَيسْعَى مَاشِيا. ويروى: «المرحل» بِالْحَاء الْمُهْملَة:
أَي الّذي يرحلهم عَن بِلَادهمْ لطلب الخصب.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَن عمْرَة [١] بنت عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بْنِ سَعْدِ [٢] بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها قَالَتْ:
لَقَدْ رَأَيْتُ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِسَهُ بِمَكَّةَ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ النَّاسَ.مَا قِيلَ فِي صِفَةِ الْفِيلِ مِنْ الشِّعْرِ
(إعْظَامُ الْعَرَبِ قُرَيْشًا بَعْدَ حَادِثَةِ الْفِيلِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ الْحَبَشَةَ عَنْ مَكَّةَ، وَأَصَابَهُمْ بِمَا أَصَابَهُمْ بِهِ مِنْ النِّقْمَةِ، أَعْظَمَتْ الْعَرَبُ قُرَيْشًا، وَقَالُوا: هُمْ أَهْلُ اللَّهِ، قَاتَلَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَفَاهُمْ مَئُونَةَ عَدُوِّهِمْ. فَقَالُوا فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا يَذْكُرُونَ فِيهَا مَا صَنَعَ اللَّهُ بِالْحَبَشَةِ، وَمَا رَدَّ عَنْ قُرَيْشٍ مِنْ كَيْدِهِمْ.
(شِعْرُ ابْنِ الزِّبَعْرَى فِي وَقْعَةِ الْفِيلِ):
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى بْنِ عَدِيِّ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ [٣] بْنِ سَهْمِ ابْن عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ:
تَنَّكَّلُوا [٤] عَنْ بَطْنِ مَكَّةَ إنَّهَا … كَانَتْ قَدِيمًا لَا يُرَامُ حَرِيمُهَا
لَمْ تَخْلُقْ الشِّعْرَى لَيَالِيَ حُرِّمَتْ … إذْ لَا عَزِيزَ مِنْ الْأَنَامِ يَرُومُهَا [٥]
سَائِلْ أَمِيرَ الْجَيْشِ عَنْهَا مَا رَأَى … وَلَسَوْفَ يُنْبِي الْجَاهِلِينَ عَلِيمُهَا
وَكَانَت حجَّة. توفيت سنة ٩٨ هـ، وَقيل سنة ١٠٦ عَن سبع وَسبعين سنة.
[٢] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول، وتراجم رجال طبع أوربا. وَفِي أ، وَإِحْدَى الرِّوَايَات فِي الطَّبَرِيّ: «أسعد»
[٣] فِي م، ر: «عدي بن سعيد بن سهم»، وَفِي أ: «عدي بن سعد بن سعيد بن سهم» وَكِلَاهُمَا محرف عَمَّا أَثْبَتْنَاهُ (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[٤] ويروى: «تنكبوا» . وعَلى الرِّوَايَتَيْنِ فَفِي الْبَيْت وقص.
[٥] الشعرى: اسْم النَّجْم، وهما شعريان، إِحْدَاهمَا الغميصاء، وَهِي الَّتِي فِي ذِرَاع الْأسد، وَالْأُخْرَى الَّتِي تتبع الجوزاء، وَهِي أَضْوَأ من الضياء.
كَانَتْ [٣] بِهَا عَادٌ وَجُرْهُمُ قَبْلَهُمْ … وَاَللَّهُ مِنْ فَوْقِ الْعِبَادِ يُقِيمُهَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: يَعْنِي ابْنُ الزِّبَعْرَى بِقَوْلِهِ:
… بَعْدَ الْإِيَابِ سَقِيمُهَا
أَبْرَهَةَ، إذْ حَمَلُوهُ مَعَهُمْ حِينَ أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ، حَتَّى مَاتَ بِصَنْعَاءَ.(شِعْرُ ابْنِ الْأَسْلَتِ فِي وَقْعَةِ الْفِيلِ):
وَقَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ الْأَنْصَارِيُّ ثُمَّ الْخَطْمِيُّ، وَاسْمُهُ صَيْفِيٌّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ أَبُو قَيْسٍ: صَيْفِيُّ بْنُ الْأَسْلَتِ بْنِ جُشَمَ بْنِ وَائِلِ بْنِ زَيْدِ بْنِ قَيْسِ ابْن عَامِرَةَ [٤] ابْن مُرَّةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ:
وَمِنْ صُنْعِهِ يَوْم فيل الحبوش … إذْ كُلَّمَا بَعَثُوهُ رَزَمْ [٥] مَحَاجِنُهُمْ تَحْتَ أَقْرَابِهِ … وَقَدْ شَرَّمُوا أَنْفَهُ فَانْخَرَمْ [٦] وَقَدْ جَعَلُوا سَوْطَهُ مِغْوَلًا … إذَا يَمَّمُوهُ قَفَاهُ كُلِمْ [٧] فَوَلَّى وَأَدْبَرَ أَدْرَاجَهُ … وَقَدْ بَاءَ بِالظُّلْمِ مَنْ كَانَ ثَمَّ
فَأَرْسَلَ مِنْ فَوْقِهِمْ حَاصِبًا … فَلَفَّهُمْ مِثْلَ لَفِّ الْقُزُمْ [٨] تَحُضُّ عَلَى الصَّبْرِ أَحْبَارُهُمْ … وَقَدْ ثَأَجُوا كَثُؤَاجِ الغَنَمْ
[٩] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
[٢] كَذَا فِي أ. وَفِي م، ر «بل لم … إِلَخ»، وَقد نبه السهيليّ على أَن «بل» زِيَادَة زَادهَا بَعضهم مِمَّن ظن خطأ أَن الْبَيْت مكسور. وَالْوَاقِع أَن فِي هَذَا الشّطْر وقصا كَمَا مر فِي الْبَيْت الأول.
[٣] ويروى: «دَانَتْ» .
[٤] كَذَا فِي شرح السِّيرَة لأبى ذَر، وَفِي الْأُصُول: «عَامر» وَهُوَ تَحْرِيف.
[٥] رزم: ثَبت بمكانه فَلم يبرحه، وَأكْثر مَا يكون ذَلِك من الإعياء.
[٦] المحاجن: جمع محجن، وَهِي عَصا معوجة. والأقراب: جمع قرب، وَهُوَ الخصر، وشرموا: شَقوا
[٧] المغول: سكين كَبِيرَة دون المشمل (سيف صَغِير) . ويروى: معولا (بِالْعينِ الْمُهْملَة): وَهِي الفأس. وكلم: جرح.
[٨] القزم: جمع قزم، وَهُوَ الصَّغِير الجثة.
[٩] ثأج: صَاح.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ:
فَقُومُوا فَصَلُّوا رَبَّكُمْ وَتَمَسَّحُوا … بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ الْأَخَاشِبِ [١] فَعِنْدَكُمْ مِنْهُ بَلَاءٌ مُصَدَّقٌ … غَدَاةَ أَبِي يَكسومَ هَادِي الْكَتَائِبِ
كَتِيبَتُهُ بِالسَّهْلِ تُمْسِي [٢] وَرَجْلُهُ … عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ الْمَنَاقِبِ [٣] فَلَمَّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ رَدَّهُمْ … جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ سَافٍ وَحَاصِبِ [٤] فَوَلَّوْا سِرَاعًا هَارِبِينَ وَلَمْ يَؤُبْ … إلَى أَهْلِهِ مِلْحَبْشِ [٥] غَيْرُ عَصَائِبِ
[٦] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ قَوْلَهُ:
عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ الْمَنَاقِبِ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لِأَبِي قَيْسٍ، سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ:
«غَدَاةَ أَبِي يَكْسُومَ-: يَعْنِي أَبْرَهَةَ، كَانَ يُكَنَّى أَبَا يَكْسُومَ.(شِعْرُ طَالِبٍ فِي وَقْعَةِ الْفِيلِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ طَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبِ [٧] بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ:
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ [٨] … وَجَيْشِ أَبِي يَكْسُومَ إذْ مَلَئُوا الشِّعْبَا [٩] فَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ … لَأَصْبَحْتُمْ لَا تَمْنَعُونَ لَكُمْ سِرْبَا
[١٠]
[٢] كَذَا فِي أ. وَفِي م، ر: «تمشى» .
[٣] القاذفات: أعالى الْجبَال الْبَعِيدَة. والمناقب: جمع منقبة، وَهِي الطَّرِيق فِي رَأس الْجَبَل.
[٤] السافي (هُنَا): الّذي غطاه التُّرَاب. والحاصب: الّذي أَصَابَته الْحِجَارَة، وهما على معنى النّسَب، وَقد يكون المُرَاد مِنْهُمَا اسْم الْفَاعِل الْجَارِي على الْفِعْل حَقِيقَة.
[٥] كَذَا فِي م، ر. يُرِيد من الْحَبَش. وَفِي أ: «ملجيش» .
[٦] العصائب: الْجَمَاعَات.
[٧] ويذكرون أَن طَالبا هَذَا كَانَ أسن من جَعْفَر بِعشْرَة أَعْوَام، كَمَا كَانَ جَعْفَر أسن من على رضى الله عَنهُ بِمثل ذَلِك، وَيُقَال إِن الْجِنّ اختطفت طَالبا، وَلم يعرف عَنهُ أَنه أسلم.
[٨] داحس: اسْم فرس مَشْهُور، وَكَانَت حَرْب بِسَبَبِهِ.
[٩] الشّعب: الطَّرِيق فِي الْجَبَل.
[١٠] السرب (بِفَتْح السِّين): المَال الرَّاعِي، والسرب (بِكَسْر السِّين): النَّفس، أَو يُقَال الْقَوْم، وَمِنْه: أصبح آمنا فِي سربه، أَي فِي نَفسه، أَو فِي قومه.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(شِعْرُ أَبِي الصَّلْتِ فِي وَقْعَةِ الْفِيلِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو الصَّلْتِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الثَّقَفِيُّ فِي شَأْنِ الْفِيلِ، وَيَذْكُرُ الْحَنِيفِيَّةَ دِينَ إبْرَاهِيمَ عليه السلام. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تُرْوَى لِأُمَيَّةِ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الثَّقَفِيِّ:
إنَّ آيَاتِ رَبِّنَا ثَاقِبَاتُ [١] … لَا يُمَارِي فِيهِنَّ إلَّا الْكَفُورُ
خُلِقَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ فَكُلٌّ … مُسْتَبِينٌ حِسَابُهُ مَقْدُورُ
ثُمَّ يَجْلُو النَّهَارَ رَبٌّ رَحِيمٌ … بِمَهَاةِ شَعَاعُهَا مَبْشُورُ [٢]
حُبِسَ الْفِيلُ بِالْمُغَمِّسِ حَتَّى … ظَلَّ يَحْبُو كَأَنَّهُ مَعْقُورُ
لَازِمًا حَلْقَةَ الْجِرَانِ كَمَا قُطِّرَ … مِنْ صَخْرٍ كَبْكَبٍ مَحْدُورُ [٣]
حَوْلَهُ مِنْ مُلُوكِ كِنْدَةَ أَبْطَالٌ … مَلَاوِيثُ [٤] فِي الْحُرُوبِ صُقُورُ
خَلَّفُوهُ ثُمَّ ابذعَرُّوا [٥] جَمِيعًا … كُلُّهُمْ عَظْمُ سَاقُهُ مَكسْورُ
كُلُّ دِينٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ … إلَّا دِينَ [٦] الْحَنِيفَةِ بُورُ
[٧]
(شِعْرُ الْفَرَزْدَقِ فِي وَقْعَةِ الْفِيلِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ- وَاسْمُهُ هَمَّامُ بْنُ غَالِبٍ أَحَدُ بَنِي مُجَاشِعِ بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ- يَمْدَحُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ ابْن مَرْوَانَ، وَيَهْجُو الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ، وَيَذْكُرُ الْفِيلَ وَجَيْشَهُ:
[٢] المهاة: الشَّمْس، سميت بذلك لصفائها، والمها من الْأَجْسَام: الّذي يرى بَاطِنه من ظَاهره.
[٣] كَذَا فِي أ. والجران: الصَّدْر. وقطر، أَي رمى بِهِ على جَانِبه. والقطر: الْجَانِب. وكبكب:
اسْم جبل. والمحدور: الْحجر الّذي حدر حَتَّى بلغ الأَرْض. يشبه الْفِيل ببروكه ووقوعه إِلَى الأَرْض بِهَذَا الْحجر الّذي يتحدر من جبل كبكب، وَفِي …: «… … مجدور» بِالْجِيم.
[٤] ملاويث: أشداء.
[٥] ابذعروا: تفَرقُوا.
[٦] يُرِيد بالحنيفة: الْأمة الحنيفة: أَي الْمسلمَة الَّتِي على دين إِبْرَاهِيم الحنيف ﷺ، وَذَلِكَ أَنه حنف عَمَّا كَانَ يبعد آباؤه وَقَومه: أَي عدل.
[٧] كَذَا فِي م، ر. وَفِي أ: «زور» .
فَكَانَ كَمَا قَالَ ابْنُ نُوحٍ سَأَرْتَقِي … إلَى جَبَلٍ مِنْ خَشْيَةِ الْمَاءِ عَاصِمِ
رَمَى اللَّهُ فِي جُثْمَانِهِ مِثْلَ مَا رَمَى … عَنْ الْقِبْلَةِ الْبَيْضَاءِ [٢] ذَاتِ الْمَحَارِمِ
جُنُودًا تَسُوقُ الْفِيلَ حَتَّى أَعَادَهُمْ … هَبَاءً وَكَانُوا مُطْرَخِمي الطَّرَاخِمِ [٣] نُصِرْتَ كَنَصْرِ الْبَيْتِ إذْ سَاقَ فِيلَهُ … إلَيْهِ عَظِيمُ الْمُشْرِكِينَ الْأَعَاجِمِ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ: (شِعْرُ ابْنِ الرُّقَيَّاتِ فِي وَقْعَةِ الْفِيلِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتُ: أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ يَذْكُرُ أَبْرَهَةَ- وَهُوَ الْأَشْرَمُ- وَالْفِيلَ:
كَادَهُ الْأَشْرَمُ الَّذِي جَاءَ بِالْفِيلِ … فَوَلَّى وَجَيْشُهُ مَهْزُومُ
وَاسْتَهَلَّتْ عَلَيْهِمْ الطَّيْرُ بِالْجَنْدَلِ … حَتَّى كأنّه مرجوم [٤] ذَاكَ مَنْ يَغْزُهُ مِنْ النَّاسِ يَرْجِعْ … وَهُوَ فَلٌّ [٥] مِنْ الْجُيُوشِ ذَمِيمُ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
(مُلْكُ يَكْسُومَ ثُمَّ مَسْرُوقٍ عَلَى الْيَمَنِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا هَلَكَ أَبْرَهَةُ، مَلَّكَ الْحَبَشَةَ ابْنَهُ يَكْسُومَ بْنَ أَبْرَهَةَ، وَبِهِ
وَهُوَ تَصْحِيف.
[٢] الْقبْلَة الْبَيْضَاء: يُرِيد الْكَعْبَة.
[٣] الهباء: مَا يظْهر فِي شُعَاع الشَّمْس إِذا دخلت من مَوضِع ضيق. والمطرخم: الممتلئ كبرا وغضبا.
والطراخم: جمع مطرخم، وَهُوَ المتكبر.
[٤] قَالَ السهيليّ فِي التَّعْلِيق على هَذَا الْبَيْت: «وَقَوله: حَتَّى كَأَنَّهُ مرجوم» وَهُوَ قد رجم، فَكيف شبهه بالمرجوم، وَهُوَ مرجوم بِالْحِجَارَةِ، وَهل يجوز أَن يُقَال فِي مقتول كَأَنَّهُ مقتول؟ فَنَقُول: لما ذكر استهلال الطير، وَجعلهَا كالسحاب يستهل بالمطر، والمطر لَيْسَ برجم، وَإِنَّمَا الرَّجْم بالأكف وَنَحْوهَا.
شبهه بالمرجوم الّذي يَرْجُمهُ الآدميون أَو من يعقل ويتعمد الرَّجْم من عَدو وَنَحْوه، فَعِنْدَ ذَلِك يكون الْمَقْتُول بِالْحِجَارَةِ مرجوما على الْحَقِيقَة، وَلما لم يكن جَيش الْحَبَشَة كَذَلِك، وَإِنَّمَا أمطروا حِجَارَة، فَمن ثمَّ قَالَ:
«كَأَنَّهُ مرجوم» .
[٥] الفل: الْجَيْش المنهزم.
كَانَ يُكَنَّى، فَلَمَّا هَلَكَ يَكْسُومُ بْنُ أَبْرَهَةَ، مَلَكَ الْيَمَنَ فِي الْحَبَشَةِ أَخُوهُ مَسْرُوقُ ابْن أَبْرَهَةَ.
خُرُوجُ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ وَمُلْكُ وَهْرِزَ عَلَى الْيَمَنِ
(ابْنُ ذِي يَزَنَ عِنْدَ قَيْصَرَ):
فَلَمَّا طَالَ الْبَلَاءُ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، خَرَجَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيُّ، وَكَانَ يُكَنَّى بِأَبِي مُرَّةَ، حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، فَشَكَا إلَيْهِ مَا هُمْ فِيهِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهُمْ عَنْهُ وَيَلِيَهُمْ هُوَ، وَيَبْعَثَ إلَيْهِمْ مَنْ شَاءَ مِنْ الرُّومِ، فَيَكُونُ لَهُ مُلْكُ الْيَمَنِ فَلَمْ يُشْكِهِ (وَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ شَيْئًا مِمَّا يُرِيدُ) [١] .
(تَوَسُّطُ النُّعْمَانِ لِابْنِ ذِي يَزَنَ لَدَى كِسْرَى):
فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ عَامِلُ كِسْرَى [٢] عَلَى الْحِيرَةِ، وَمَا يَلِيهَا مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، فَشَكَا إلَيْهِ أَمْرَ الْحَبَشَةِ، فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ: إنَّ لِي عَلَى كِسْرَى وِفَادَةً فِي كُلِّ عَامٍ، فَأَقِمْ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ. فَفَعَلَ، ثُمَّ خَرَجَ مَعَهُ، فَأَدْخَلَهُ عَلَى كِسْرَى. وَكَانَ كِسْرَى يَجْلِسُ فِي إيوَانِ مَجْلِسِهِ الَّذِي فِيهِ تَاجُهُ، وَكَانَ تَاجُهُ مِثْلَ القَنْقَلِ [٣] الْعَظِيمِ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- يُضْرَبُ فِيهِ الْيَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ وَالزَّبَرْجَدُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، مُعَلَّقًا بِسَلْسَلَةِ مِنْ ذَهَبٍ فِي رَأْسِ طَاقَةٍ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ، وَكَانَتْ عُنُقُهُ لَا تَحْمِلُ تَاجَهُ، إنَّمَا يُسْتَرُ بِالثِّيَابِ حَتَّى يَجْلِسَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ يُدْخِلُ رَأْسَهُ فِي تَاجِهِ، فَإِذَا اسْتَوَى فِي مَجْلِسِهِ كُشِفَتْ عَنْهُ الثِّيَابُ، فَلَا يَرَاهُ رَجُلٌ لَمْ يَرَهُ قَبْلَ
[٢] هُوَ أنوشروان. وَمَعْنَاهُ مُجَدد الْملك، لِأَنَّهُ جمع ملك فَارس الْكَبِير بعد شتات.
[٣] القنقل: الْمِكْيَال، وَقيل هُوَ مكيال يسع ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ منا. (الْمَنّ: وزان رطلين تَقْرِيبًا) . وَهَذَا التَّاج قد أَتَى بِهِ عمر بن الْخطاب رضى الله عَنهُ حِين اسْتَلَبَ من يزدجرد بن شهريار- وَقد صَار إِلَيْهِ من قبل جده أنوشروان الْمَذْكُور- فَلَمَّا أَتَى بِهِ عمر رضى الله عَنهُ دَعَا سراقَة بن مَالك المدلجي، فحلاه بأسورة كسْرَى، وَجعل التَّاج على رَأسه، وَقَالَ لَهُ: قل الْحَمد للَّه نزع تَاج كسْرَى من ملك الْأَمْلَاك رَأسه، وَوَضعه على رَأس أعرابى من بنى مُدْلِج، وَذَلِكَ بعز الْإِسْلَام وبركته لَا بقوتنا، وَإِنَّمَا خص عمر سراقَة بِهَذَا لِأَن رَسُول الله ﷺ كَانَ قَالَ لَهُ: يَا سراقَة، كَيفَ بك إِذا وضع تَاج كسْرَى على رَأسك وسواره فِي يَديك؟
ذَلِكَ، إلَّا بَرَكَ هَيْبَةً لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ بَرَكَ.
(ابْنُ ذِي يَزَنَ بَيْنَ يَدَيْ كِسْرَى، وَمُعَاوَنَةُ كِسْرَى لَهُ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ:
أَنَّ سَيْفًا لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ طَأْطَأَ رَأْسَهُ، فَقَالَ الْمَلِكُ: إنَّ هَذَا الْأَحْمَقَ يَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْ هَذَا الْبَابِ الطَّوِيلِ، ثُمَّ يُطَأْطِئُ رَأسه؟ فَقَالَ ذَلِكَ لِسَيْفِ، فَقَالَ: إنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِهَمِّي، لِأَنَّهُ يَضِيقُ عَنْهُ كُلُّ شَيْءٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، غَلَبَتْنَا عَلَى بِلَادِنَا الْأَغْرِبَةُ، فَقَالَ لَهُ كِسْرَى: أَيُّ الْأَغْرِبَةِ: الْحَبَشَةُ أَمْ السِّنْدُ فَقَالَ: بَلْ الْحَبَشَةُ، فَجِئْتُكَ لِتَنْصُرَنِي، وَيَكُونُ مُلْكُ بِلَادِي لَكَ، قَالَ: بَعُدَتْ بِلَادُكَ مَعَ قِلَّةِ خَيْرِهَا، فَلَمْ أَكُنْ لِأُوَرِّطَ [١] جَيْشًا مِنْ فَارِسَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، لَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ، ثُمَّ أَجَازَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ [٢] وَافٍ، وَكَسَاهُ كُسْوَةً حَسَنَةً. فَلَمَّا قَبَضَ ذَلِكَ مِنْهُ سَيْفٌ خَرَجَ، فَجَعَلَ يَنْثُرُ ذَلِكَ الْوَرِقَ لِلنَّاسِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَلِكَ، فَقَالَ: إنَّ لِهَذَا لَشَأْنًا، ثُمَّ بَعَثَ إلَيْهِ، فَقَالَ: عَمَدْتَ إلَى حِبَاءِ الْمَلِكِ تَنْثُرُهُ لِلنَّاسِ، فَقَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بِهَذَا مَا جِبَالُ أَرْضِي الَّتِي جِئْتُ مِنْهَا [٣] إلَّا ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ: يُرَغِّبُهُ فِيهَا. فَجَمَعَ كِسْرَى مَرَازِبَتَهُ [٤]، فَقَالَ لَهُمْ: مَاذَا تَرَوْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ، وَمَا جَاءَ لَهُ؟ فَقَالَ قَائِلٌ:
أَيُّهَا الْمَلِكُ، إنَّ فِي سُجُونِكَ رِجَالًا قَدْ حَبَسْتَهُمْ لِلْقَتْلِ، فَلَوْ أَنَّكَ بَعَثْتَهُمْ مَعَهُ، فَإِنْ يَهْلِكُوا كَانَ ذَلِكَ الَّذِي أَرَدْتَ بِهِمْ، وَإِنْ ظَفِرُوا كَانَ مُلْكًا ازْدَدْتَهُ [٥] . فَبَعَثَ مَعَهُ كِسْرَى مَنْ كَانَ فِي سجونه، وَكَانُوا ثَمَان مائَة رَجُلٍ.
(وَهْرِزَ وَسَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ وَانْتِصَارُهُمَا عَلَى مَسْرُوقٍ وَمَا قِيلَ فِي ذَلِكَ مِنْ الشِّعْرِ):
وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ وَهْرِزُ، وَكَانَ ذَا سِنٍّ فِيهِمْ، وَأَفْضَلَهُمْ حَسَبًا وَبَيْتًا. فَخَرَجُوا فِي ثَمَانِ سَفَائِنَ، فَغَرِقَتْ سَفِينَتَانِ، وَوَصَلَ إلَى سَاحِلِ عَدَنَ
[٢] يُقَال: وَفِي الدِّرْهَم المثقال، وَذَلِكَ إِذا عدله.
[٣] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «بهَا» .
[٤] المرازبة: وزراء الْفرس، واحدهم مرزبان.
[٥] كَذَا فِي أوالطبري، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أردته» .
ذَاكَ مَلِكُهُمْ، فَقَالَ: اُتْرُكُوهُ. فَوَقَفُوا طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: عَلَامَ هُوَ؟ قَالُوا:
قَدْ تَحَوَّلَ عَلَى الْفَرَسِ، قَالَ: اُتْرُكُوهُ. فَوَقَفُوا طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: عَلَامَ هُوَ؟
قَالُوا: قَدْ تَحَوَّلَ عَلَى الْبَغْلَةِ. قَالَ وَهْرِزُ: بِنْتُ الْحِمَارِ ذَلَّ وَذَلَّ مُلْكُهُ، إنِّي سَأَرْمِيهِ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَصْحَابَهُ لَمْ يَتَحَرَّكُوا فَاثْبُتُوا حَتَّى أُوذِنَكُمْ، فَإِنِّي قَدْ أَخْطَأْتُ الرَّجُلَ، وَإِنْ رَأَيْتُمْ الْقَوْمَ قَدْ اسْتَدَارُوا وَلَاثُوا [٣] بِهِ، فَقَدْ أَصَبْتُ الرَّجُلَ، فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ. ثُمَّ وَتَرَ قَوْسَهُ، وَكَانَتْ فِيمَا يَزْعُمُونَ لَا يُوتِرُهَا غَيْرُهُ مِنْ شِدَّتِهَا، وَأَمَرَ بِحَاجِبَيْهِ فَعُصِّبَا لَهُ، ثُمَّ رَمَاهُ، فَصَكَّ الْيَاقُوتَةَ الَّتِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَتَغَلْغَلَتْ [٤] النُّشَّابَةُ فِي رَأْسِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ قَفَاهُ، وَنُكِسْ عَنْ دَابَّتِهِ، وَاسْتَدَارَتْ الْحَبَشَةُ وَلَاثَتْ بِهِ، وَحَمَلَتْ عَلَيْهِمْ الْفُرْسُ، وَانْهَزَمُوا، فَقُتِلُوا وَهَرَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَأَقْبَلَ وَهْرِزُ لِيَدْخُلَ صَنْعَاءَ [٥]، حَتَّى إذَا أَتَى بَابَهَا، قَالَ: لَا تَدْخُلُ رَايَتِي مُنَكَّسَةً أَبَدًا، اهْدِمُوا الْبَابَ، فَهُدِمَ، ثُمَّ دَخَلَهَا نَاصِبًا رَايَتَهُ. فَقَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيُّ:
[٢] وَكَانَ يُقَال لَهُ نوزاد. (رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[٣] لاثوا بِهِ: اجْتَمعُوا حوله.
[٤] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فتغلغلت» . وَهُوَ تَحْرِيف.
[٥] وَيُقَال: إِن صنعاء كَانَ اسْمهَا، قبل أَن يدخلهَا وهرز ويهدم بَابهَا، أوال (بِفَتْح الْهمزَة وَكسرهَا) وَأَنَّهَا سميت كَذَلِك لقَوْل وهرز حِين دَخلهَا: «صَنْعَة صَنْعَة» . يُرِيد أَن الْحَبَشَة أحكمت صنعها. وَيُقَال إِنَّهَا سميت باسم الّذي بناها، وَهُوَ صنعاء بن وَال بن عيبر بن عَابِر بن شالخ، فَكَانَت تعرف مرّة بِصَنْعَاء، وَأُخْرَى بأوال.
يَذُوقُ مُشَعْشَعًا حَتَّى … يُفِيءَ السَّبْيَ وَالنَّعما
[٤] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. وَأَنْشَدَنِي خَلَّادُ بْنُ قُرَّةَ السَّدُوسِيُّ آخِرَهَا بَيْتًا لِأَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو الصَّلْتِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الثَّقَفِيُّ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَتُرْوَى لِأُمَيَّةِ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
لِيَطْلُبَ الْوِتْرَ أَمْثَالُ ابْنِ ذِي يَزَنَ … رَيَّمَ [٥] فِي الْبَحْرِ لِلْأَعْدَاءِ أَحْوَالَا
يَمَّمَ قَيْصَرَ لَمَّا حَانَ رِحْلَتُهُ … فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ بَعْضَ الَّذِي سَالَا [٦] ثُمَّ انْثَنَى [٧] نَحْوَ كِسْرَى بَعْدَ عَاشِرَةٍ [٨] … مِنْ السِّنِينَ يُهِينُ النَّفْسَ وَالْمَالَا
حَتَّى أَتَى بِبَنِي الْأَحْرَارِ يَحْمِلُهُمْ … إنَّكَ عَمْرِي لَقَدْ أَسْرَعَتْ قِلْقَالَا [٩] للَّه دَرَّهُمْ مِنْ عُصْبَةٍ خَرَجُوا … مَا إنْ رَأَى لَهُمْ فِي النَّاسِ أَمْثَالًا
[٢] فَقُمْ: عظم.
[٣] القيل: الْملك.
[٤] المشعشع: الشَّرَاب الممزوج بِالْمَاءِ. ويفيء: يغنم.
[٥] ريم: أَقَامَ. أَو هُوَ مَأْخُوذ من رام يريم، إِذا برح، كَأَنَّهُ يُرِيد: أَنه غَابَ زَمَانا وأحوالا، ثمَّ رَجَعَ للأعداء، ويروى: «لجج» .
[٦] رِوَايَة هَذَا الْبَيْت فِي الطَّبَرِيّ، وَالشعر وَالشعرَاء (طبع ليدن) .
أَتَى هِرقل وَقد شالت نعامتهم … فَلم يجد عِنْده بعض الّذي قَالَا
[٧] فِي أ: «انتحى» .
[٨] فِي الشّعْر وَالشعرَاء: «بعد تاسعة» .
[٩] بَنو الْأَحْرَار: الْفرس. والقلقال: (بِالْكَسْرِ وبالفتح): شدَّة الْحَرَكَة.
٥- سيرة ابْن هِشَام- ١
أَرْسَلْتَ أُسْدًا عَلَى سُودِ الْكِلَابِ فَقَدْ … أَضْحَى شَرِيدُهُمْ فِي الْأَرْضِ فُلَّالَا [٤] فَاشْرَبْ هَنِيئًا عَلَيْكَ التَّاجُ مُرْتَفِقًا … فِي رَأْسِ غُمْدانَ [٥] دَارًا مِنْكَ مِحْلَالَا
وَاشْرَبْ هَنِيئًا فَقَدْ شَالَتْ نَعَامَتُهُمْ [٦] … وَأَسْبِلْ الْيَوْمَ فِي بُرْدَيْكَ إسْبَالَا [٧] تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانَ مِنْ لَبَنٍ … شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالَا [٨] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا مَا صَحَّ لَهُ مِمَّا رَوَى ابْنُ إسْحَاقَ مِنْهَا، إلَّا آخِرَهَا بَيْتًا قَوْلُهُ:
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانَ مِنْ لَبَنٍ
[٩]
[٢] شدف: عِظَام الْأَشْخَاص، يعْنى بهَا القسي. وغبط: جمع غبيط، وَهِي عيدَان الهودج وأدواته.
[٣] كَذَا فِي أ. والزمخر: الْقصب الْيَابِس، يعْنى قصب النشاب. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «بزمجر» وَهُوَ تَصْحِيف.
[٤] الفلال: المنهزمون.
[٥] غمدان (بِضَم أَوله وَسُكُون ثَانِيه وَآخره نون): قصر بناه يشْرَح بن يحصب على أَرْبَعَة أوجه:
وَجه أَبيض، وَوجه أَحْمَر، وَوجه أصفر، وَوجه أَخْضَر. وَبنى فِي دَاخله قصرا على سَبْعَة سقوف، بَين كل سقفين مِنْهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعا، وَجعل فِي أَعْلَاهُ مَجْلِسا بناه بالرخام الملون، وَجعل سقفه رخامة وَاحِدَة وصير على كل ركن من أَرْكَانه تِمْثَال أَسد من شبه كأعظم مَا يكون من الْأسد، فَكَانَت الرّيح إِذا هبت إِلَى نَاحيَة تِمْثَال من تِلْكَ التماثيل دخلت من دبره، وَخرجت من فِيهِ، فَيسمع لَهُ زئير كزئير السبَاع. وَقيل:
إِن الّذي بناه سُلَيْمَان بن دَاوُد عليهما السلام. وللشعراء شعر كثير فِي غمدان. وَقد هدم فِي عهد عُثْمَان رضى الله عَنهُ. وَمعنى قَوْله مرتفقا: أَي مُتكئا، كَمَا فِي لِسَان الْعَرَب.
[٦] شالت نعامتهم: أهلكوا. والنعامة: بَاطِن الْقدَم. وشالت: ارْتَفَعت، وَمن هلك ارْتَفَعت رِجْلَاهُ، وانتكس رَأسه، فظهرت نعَامَة قدمه. وَالْعرب تَقول: تنعمت: إِذا مشيت حافيا.
[٧] الإسبال: إرخاء الثَّوْب، وَيُرِيد بِهِ هُنَا الْخُيَلَاء والإعجاب.
[٨] القعبان: تَثْنِيَة قَعْب، وَهُوَ قدح يحلب فِيهِ، وشيبا: مزجا.
[٩] وَمن روى هَذَا الْبَيْت للنابغة جعله من قصيدته إِلَى مطْلعهَا:
إِمَّا ترى ظلل الْأَيَّام قد حسرت … عَنى وشمرت ذيلا كَانَ ذيالا
وَلَقَد هجا بِهَذِهِ القصيدة رجلا من قُشَيْر يُقَال لَهُ: ابْن الحيا (الحيا أمه) . ويعنى بِهَذَا الْبَيْت (تِلْكَ المكارم … إِلَخ) أَن ابْن الحيا فَخر عَلَيْهِ بِأَنَّهُم سقوا رجلا من جعدة أدركوه فِي سفر، وَقد جهد عطشا، لَبَنًا وَمَاء فَعَاشَ. (رَاجع الأغاني ج ٥ ص ١٣- ١٥ طبع دَار الْكتب) .
وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ الحِيريُّ، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي تَمِيمٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ثُمَّ أَحَدُ بَنِي امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَيُقَالُ: عَدِيٌّ مِنْ الْعِبَادِ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ [٢]:
مَا بَعْدَ صَنْعَاءَ كَانَ يَعْمُرُهَا … وُلَاةُ مُلْكٍ جَزْلٍ مَوَاهِبُهَا [٣] رَفَّعَهَا مَنْ بَنَى لَدَى قَزَعٍ … الْمُزْنِ وَتَنْدَى مِسْكًا مَحَارِبُهَا [٤] مَحْفُوفَةٌ بِالْجِبَالِ دُونَ عُرَى … الْكَائِدِ مَا تُرْتَقَى غُوَارِبُهَا [٥] يَأْنَسُ فِيهَا صَوْتُ النُّهَامِ إذَا … جَاوَبَهَا بِالْعَشِيِّ قَاصِبُهَا [٦] سَاقَتْ إلَيْهَا [٧] الْأَسْبَابُ جُنْدُ بَنِي … الْأَحْرَارِ فُرْسَانُهَا مَوَاكِبُهَا
وفُوِّزَتْ بِالْبِغَالِ تُوسَقُ بِالْحَتْفِ … وَتَسْعَى بِهَا تَوَالِبُهَا [٨] حَتَّى رَآهَا الْأَقْوَالُ مِنْ طَرَفِ … الْمَنْقَلِ مُخْضَرَّةٌ كَتَائِبُهَا [٩]
[٢] الْعباد: هم من عبد الْقَيْس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أَسد بن ربيعَة، قيل إِنَّهُم انتسلوا من أَرْبَعَة: عبد الْمَسِيح، وَعبد كلال، وَعبد الله، وَعبد يَا ليل. وَكَانُوا قدمُوا على ملك فتسموا لَهُ، فَقَالَ:
أَنْتُم الْعباد، فسموا بذلك. وَذكر الطَّبَرِيّ فِي نسب عدي: أَنه ابْن زيد بن حَمَّاد بن أَيُّوب بن مجروف ابْن عَامر بن عصية بن امْرِئ الْقَيْس بن زيد مَنَاة بن تَمِيم، وَقد دخل بَنو امْرِئ الْقَيْس بن زيد مَنَاة فِي الْعباد، فَلذَلِك ينْسب عدي إِلَيْهِم.
[٣] وُلَاة ملك: يُرِيد: الَّذين يدبرون أَمر النَّاس ويصلحونه. وجزل: كثير.
[٤] القزع: السَّحَاب المتفرق، والمزن: السَّحَاب. والمحارب: الغرف المرتفعة.
[٥] يُرِيد: دون عرى السَّمَاء وأسبابها. والكائد: هُوَ الّذي كادهم، وَهُوَ الْبَارِي سبحانه وتعالى:
والغوارب: الأعالي.
[٦] النهام: الذّكر من البوم. والقاصب: صَاحب الزمارة.
[٧] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «إِلَيْهِ» .
[٨] فوزت الْمَفَازَة: قطعت. وَقَوله: توسق بالحتف، أَي أَن وسق البغال الحتوف. والتوالب:
جمع تولب، وَهُوَ ولد الْحمار.
[٩] الْأَقْوَال: الْمُلُوك. والمنقل: الطَّرِيق الْمُخْتَصر، وَهُوَ أَيْضا: الأَرْض الَّتِي يكثر فِيهَا النَّقْل: أَي الْحِجَارَة، وَقَوله: من طرف المنقل، أَي من أعالى حصونها. والمنقال: الخرج ينْقل إِلَى الْمُلُوك من قَرْيَة إِلَى قَرْيَة، فَكَأَن المنقل من هَذَا. ومخضرة كتائبها: يعْنى من الْحَدِيد، وَمِنْه الكتيبة الخضراء.
بَعْدَ بَنِي تُبَّعٍ نَخَاوِرَةٌ [٧] … قَدْ اطْمَأَنَّتْ بِهَا مَرَازِبُهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَأَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ (الْأَنْصَارِيُّ) [٨] وَرَوَاهُ لِي عَنْ الْمُفَضَّلِ الضَّبِّيِّ، قَوْلَهُ:
يَوْمَ يُنَادُونَ آل بربر و… اليكسوم………….
إلَخْ(هَزِيمَةُ الْأَحْبَاشِ، وَنُبُوءَةُ سَطِيحٍ وَشِقٍّ):
وَهَذَا الَّذِي عَنَى سَطِيحٌ بِقَوْلِهِ: «يَلِيهِ إرَمُ ذِي يَزَنَ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَنَ، فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ» . وَاَلَّذِي عَنَى شِقٌّ بِقَوْلِهِ: «غُلَامٌ لَيْسَ بِدَنِيِّ وَلَا مُدَنٍّ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ ذِي يَزَنَ» .
ذِكْرُ مَا انْتَهَى إلَيْهِ أَمْرُ الْفُرْسِ بِالْيَمَنِ
(مُلْكُ الْحَبَشَةِ فِي الْيَمَنِ وَمُلُوكُهُمْ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ وَهْرِزُ وَالْفُرْسُ بِالْيَمَنِ، فَمِنْ بَقِيَّةِ ذَلِكَ الْجَيْشِ مِنْ الْفُرْسِ الْأَبْنَاءُ الَّذِينَ بِالْيَمَنِ الْيَوْمَ. وَكَانَ مُلْكُ الْحَبَشَةِ بِالْيَمَنِ، فِيمَا بَيْنَ أَنْ دَخَلَهَا أَرْيَاطُ إلَى أَنْ قَتَلَتْ الْفُرْسُ مَسْرُوقَ بْنَ أَبْرَهَةَ وَأُخْرِجَتْ الْحَبَشَةُ، اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً، تَوَارَثَ
[٢] فِي شعراء النَّصْرَانِيَّة: «لَا يَفْلِتَنَّ» .
[٣] الإمة (بِكَسْر الْهمزَة): النِّعْمَة.
[٤] كَذَا فِي شرح السِّيرَة. والفيج: الْمُنْفَرد، أَو هُوَ الّذي يسير للسُّلْطَان بالكتب على رجلَيْهِ.
وَفِي جَمِيع الْأُصُول: «الفيح» بِالْحَاء الْمُهْملَة. وَهُوَ تَصْحِيف.
[٥] الزرافة: الْجَمَاعَة من النَّاس.
[٦] فِي شرح السِّيرَة لأبى ذَر: «خون» . وَهِي جمع خَائِنَة.
[٧] بَنو تبع: الْيمن. والنخاورة: الْكِرَام. واحدهم: نخوار.
[٨] زِيَادَة عَن أ.
ذَلِكَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ: أَرْيَاطُ، ثُمَّ أَبْرَهَةُ، ثُمَّ يَكْسُومُ بْنُ أَبْرَهَةَ، ثُمَّ مَسْرُوقُ بْنُ أَبْرَهَةَ.
مُلُوكُ الْفُرْسِ عَلَى الْيَمَنِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ثُمَّ مَاتَ وَهْرِزُ، فَأَمَّرَ كِسْرَى ابْنَهُ الْمَرْزُبَانَ بْنِ وَهْرِزَ عَلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرْزُبَانُ، فَأَمَّرَ كِسْرَى ابْنَهُ التَّيْنُجَانَ بْنَ الْمَرْزُبَانِ عَلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ مَاتَ التَّيْنُجَانُ، فَأَمَّرَ كِسْرَى ابْنَ التَّيْنُجَانِ عَلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَأَمَّرَ بَاذَانَ، فَلَمْ يَزَلْ بَاذَانُ عَلَيْهَا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ) [١] ﷺ.
(كِسْرَى وَبَعْثَةُ النَّبِيِّ ﷺ:
فَبَلَغَنِي عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
كَتَبَ كِسْرَى إلَى بَاذَانَ: أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ خَرَجَ بِمَكَّةَ، يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فسر إِلَيْهِ فاستنبه، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا فَابْعَثْ إلَيَّ بِرَأْسِهِ. فَبَعَثَ بَاذَانُ بِكِتَابِ كِسْرَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُول الله ﷺ: إنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي أَنْ يُقْتَلَ كِسْرَى فِي يَوْمِ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا. فَلَمَّا أَتَى بَاذَانَ الْكِتَابُ تَوَقَّفَ لِيَنْظُرَ، وَقَالَ: إنْ كَانَ نَبِيًّا فَسَيَكُونُ مَا قَالَ. فَقَتَلَ اللَّهُ كِسْرَى فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قُتِلَ عَلَى يَدَيْ ابْنِهِ شِيرَوَيْهِ، وَقَالَ خَالِدُ بْنُ حِقٍّ الشَّيْبَانِيُّ:
وَكِسْرَى إذْ تَقَسَّمْهُ بَنُوهُ … بِأَسْيَافٍ كَمَا اُقْتُسِمَ اللَّحَّامُ [٢]
تَمَخَّضَتْ الْمَنُونُ لَهُ بِيَوْمٍ … أَنَّى وَلِكُلِّ حَامِلَةٍ تِمَامُ
[٣]
(إسْلَامُ بَاذَانَ):
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ بَاذَانَ بَعَثَ بِإِسْلَامِهِ [٤] وَإِسْلَامِ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْفُرْسِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَقَالَتْ الرُّسُلُ مِنْ الْفُرْسِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إلَى مَنْ نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْتُمْ مِنَّا وَإِلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ.
[٢] اللحام: جمع لحم.
[٣] أَنى: حَان.
[٤] كَانَ إِسْلَام باذان بِالْيمن فِي سنة عشر، وفيهَا بعث رَسُول الله ﷺ إِلَى الْأَبْنَاء يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَبَلَغَنِي عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
فَمِنْ ثَمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ.(بَعْثَةُ النَّبِيِّ، وَنُبُوءَةُ سَطِيحٍ وَشِقٍّ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَهُوَ الَّذِي عَنَى سَطِيحٌ بِقَوْلِهِ: «نَبِيٌّ زَكِيٌّ، يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيِّ» . وَاَلَّذِي عَنَى شِقٌّ بِقَوْلِهِ: «بَلْ يَنْقَطِعُ بِرَسُولِ مُرْسَلٍ، يَأْتِي بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، مِنْ [١] أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ، يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إلَى يَوْمِ الْفَصْلِ» .
(الْحَجَرُ الَّذِي وُجِدَ بِالْيَمَنِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ فِي حَجَرٍ بِالْيَمَنِ- فِيمَا يَزْعُمُونَ كِتَابٌ- بِالزَّبُورِ كُتِبَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ: «لِمِنْ مُلْكُ ذِمَارٍ؟ لِحِمْيَرَ الْأَخْيَارِ [٢]، لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارٍ؟ لِلْحَبَشَةِ الْأَشْرَارِ [٣]، لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارٍ؟ لِفَارِسَ الْأَحْرَارِ [٤]، لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارٍ؟ لِقُرَيْشِ التُّجَّارِ» .
وَذِمَارٌ: الْيَمَنُ أَوْ صَنْعَاءُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ذَمَارُ: بِالْفَتْحِ، فِيمَا أَخْبَرَنِي [٥] يُونُسُ
(شِعْرٌ الْأَعْشَى فِي نُبُوءَةِ سَطِيحٍ وَشِقٍّ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ الْأَعْشَى أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فِي وُقُوعِ مَا قَالَ سَطِيحٌ وَصَاحِبُهُ:
مَا نَظَرَتْ ذَاتُ أَشْفَارٍ كَنَظْرَتِهَا … حَقَّا كَمَا صَدَقَ الذِّئْبِيُّ إذَا سَجَعَا
[٦] وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ لِسَطِيحِ: الذِّئْبِيَّ، لِأَنَّهُ سَطِيحُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنِ بْنِ ذِئْبٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
[٢] سموا بالأخيار: لأَنهم كَانُوا أهل دين، كَمَا تقدم فِي حَدِيث فيميون، وَابْن الثَّامِر.
[٣] سموا بالأشرار: لما أَحْدَثُوا فِي الْيمن من العيث وَالْفساد وإخراب الْبِلَاد، حَتَّى هموا بهدم بَيت الله الْحَرَام.
[٤] سموا بالأحرار: لِأَن الْملك فيهم متوارث من عهد جيومرت إِلَى أَن جَاءَ الْإِسْلَام، لم يدينوا لملك، وَلَا أَدّوا الإتاوة لذِي سُلْطَان من سواهُم، فَكَانُوا أحرارا لذَلِك.
[٥] وَحكى الْكسر عَن ابْن إِسْحَاق. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[٦] ذَات أشفار: زرقاء الْيَمَامَة، وَكَانَت الْعَرَب تزْعم أَنَّهَا ترى الْأَشْخَاص على مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام فِي الصَّحرَاء، وخبرها مَشْهُور.
قِصَّةُ مَلِكِ الْحَضْرِ
(نَسَبُ النُّعْمَانِ، وَشَيْءٌ عَنْ الْحَضْرِ، وَشِعْرُ عَدِيٍّ فِيهِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي خَلَّادُ بْنُ قُرَّةَ بْنِ خَالِدِ السَّدُوسِيُّ عَنْ جَنَّادٍ، أَوْ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِالنَّسَبِ: أَنَّهُ يُقَالُ:
إنَّ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ مِنْ وَلَدِ سَاطِرُونَ [١] مَلِكِ الْحَضْرِ. وَالْحَضْرُ: حِصْنٌ عَظِيمٌ كَالْمَدِينَةِ، كَانَ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ:
وَأَخُو الْحَضْرِ إذْ بَنَاهُ وَإِذْ … دِجْلَةُ تُجْبَى إلَيْهِ وَالْخَابُورُ [٢]
شَادَهُ مَرْمَرَا وَجَلَّلَهُ كِلْسًا … فَلِلطَّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ [٣]
لَمْ يَهَبْهُ رَيْبُ الْمَنُونِ فَبَانَ [٤] … الْمُلْكُ عَنْهُ فَبَابُهُ مَهْجُورُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
وَاَلَّذِي ذكره أَبُو دَاوُد الْإِيَادِيُّ [٥] فِي قَوْلِهِ:
وَأَرَى الْمَوْتَ قَدْ تَدَلَّى مِنْ الْحَضْرِ … عَلَى رَبِّ أَهْلِهِ السَّاطِرُونَ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَيُقَالُ: إنَّهَا لِخَلَفِ الْأَحْمَرِ، وَيُقَالُ: لِحَمَّادِ الرَّاوِيَةِ.
(دُخُولُ سَابُورَ الْحَضْرَ، وَزَوَاجُهُ بِنْتِ سَاطِرُونَ، وَمَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا):
وَكَانَ كِسْرَى سَابُورُ ذُو الْأَكْتَافِ غَزَا سَاطِرُونَ مَلِكِ الْحَضَر، فحصره سِتِّينَ، فَأَشْرَفَتْ بِنْتُ [٦] سَاطِرُونَ يَوْمًا، فَنَظَرَتْ إلَى سَابُورَ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ دِيبَاجٍ،
قضاعى، من الْعَرَب الَّذين تنخوا بِالسَّوَادِ (أَقَامُوا بِهِ) فسموا تنوخ، وهم قبائل شَتَّى. وَأمه جبهلة، وَبهَا كَانَ يعرف، وَهِي أَيْضا: قضاعية من بنى تزيد الَّذين تنْسب إِلَيْهِم الثِّيَاب التزيدية.
[٢] دجلة والخابور: نهران مشهوران.
[٣] المرمر: الرخام. والكلس: مَا طلى بِهِ الْحَائِط من جص وجيار. وجلله: كَسَاه. ويروى:
خلله (بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة): أَي جعل الجص بَين حجر وَحجر. وذراه: أعاليه. ووكور: جمع وكر، وَهُوَ عش الطَّائِر.
[٤] فِي أ: «فباد» .
[٥] واسْمه جَارِيَة بن حجاج، وَقيل: حَنْظَلَة بن شرقى.
[٦] يُقَال إِن اسْمهَا النضيرة.
أَلَمْ تَرَ [٥] لِلْحَضْرِ إذْ أَهْلُهُ … بِنُعْمَى وَهَلْ خَالِدٌ مِنْ نِعَمْ
أَقَامَ بِهِ شاهَبُورُ [٦] الْجُنُودَ … حَوْلَيْنِ تَضْرِبُ فِيهِ الْقُدُمْ [٧] فَلَمَّا دَعَا رَبَّهُ دَعْوَةً … أَنَابَ إلَيْهِ فَلَمْ يَنْتَقِمْ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ
[٢] الآس: الريحان.
[٣] قُرُون رَأسهَا: يعْنى ذوائب شعرهَا.
[٤] وَيُقَال إِن صَاحب هَذِه الْقِصَّة هُوَ سَابُور بن أردشير بن بابك: لِأَن أردشير هُوَ أول من جمع ملك فَارس، وأذل مُلُوك الطوائف، حَتَّى دَان الْملك لَهُ، والضيزن كَانَ من مُلُوك الطوائف، فيبعد أَن تكون هَذِه الْقِصَّة لسابور ذِي الأكتاف، وَهُوَ سَابُور بن هُرْمُز، لِأَنَّهُ كَانَ بعد سَابُور الْأَكْبَر بدهر طَوِيل، وَبينهمْ مُلُوك عدَّة، وهم هُرْمُز بن سَابُور، وبهرام بن بهْرَام، وبهرام الثَّالِث: ونرس بن بهْرَام، وَبعده كَانَ ابْنه سَابُور ذُو الأكتاف.
[٥] فِي أ: «ألم ترى الْحَضَر … إِلَخ» .
[٦] شاهبور: مَعْنَاهُ: ابْن الْملك. وشاه: ملك، وبور: ابْن.
[٧] الْقدَم: جمع قدوم، وَهُوَ الفأس وَنَحْوهَا.
وَالْحَضْرُ صَابَتْ عَلَيْهِ دَاهِيَةٌ … مِنْ فَوْقِهِ أَيِّدٌ مَنَاكِبُهَا [١] رَبِيَّةَ [٢] لَمْ تُوَقَّ وَالِدَهَا … لِحَيْنِهَا [٣] إذْ أَضَاعَ رَاقِبُهَا [٤] إذْ غَبَقَتْهُ [٥] صَهْبَاءَ صَافِيَةً … وَالْخَمْرُ وَهَلْ [٦] يَهِيمُ [٧] شَارِبُهَا
فَأَسْلَمَتْ أَهْلَهَا بِلَيْلَتِهَا … تَظُنُّ أَنَّ الرَّئِيسَ خَاطِبُهَا
فَكَانَ حَظُّ الْعَرُوسِ إذْ جَشَرَ [٨] … الصُّبْحُ دِمَاءً تَجْرِي سَبَائِبُهَا [٩] وَخُرِّبَ الْحَضْرُ وَاسْتُبِيحَ وَقَدْ … أُحْرِقَ فِي خِدْرِهَا مَشَاجِبُهَا
[١٠] وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.