قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ عَلَى قُرَيْشٍ، وَلَمْ يُدْرِكُوا مَا طَلَبُوا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَرَدَّهُمَا النَّجَاشِيُّ بِمَا يَكْرَهُونَ، وَأَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَكَانَ رَجُلًا ذَا شَكِيمَةٍ لَا يُرَامُ مَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، امْتَنَعَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبِحَمْزَةِ حَتَّى عَازُوا قُرَيْشًا [١]، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَا كُنَّا نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نُصَلِّيَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ (بْنُ الْخَطَّابِ) [٢]، فَلَمَّا أَسْلَمَ قَاتَلَ قُرَيْشًا حَتَّى صَلَّى عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَكَانَ إسْلَامُ عُمَرَ بَعْدَ خُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلَى الْحَبَشَةِ.
قَالَ الْبُكَائِيُّ [٣]، قَالَ: حَدَّثَنِي مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، قَالَ:
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ إسْلَامَ عُمَرَ كَانَ فَتْحًا، وَإِنَّ هِجْرَتَهُ كَانَتْ نَصْرًا، وَإِنَّ إمَارَتَهُ كَانَتْ رَحْمَةً، وَلَقَدْ كُنَّا مَا نُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ قَاتَلَ قُرَيْشًا حَتَّى صَلَّى عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ.
(حَدِيثُ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ إسْلَامِ عُمَرَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أُمِّهِ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتِ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَتْ:
وَاَللَّهِ إنَّا لَنَتَرَحَّلُ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ عَامِرٌ فِي بعض حاجاتنا، إِذا
[١] عازوا قُريْشًا: غلبوهم.
[٢] زِيَادَة عَن أ.
[٣] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ ابْن هِشَام … إِلَخ» .
فَقُلْتُ: نَعَمْ وَاَللَّهِ، لَنَخْرُجَنَّ فِي أَرْضِ اللَّهِ، آذَيْتُمُونَا وَقَهَرْتُمُونَا، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ مَخْرَجًا [١] . قَالَتْ: فَقَالَ: صَحِبَكُمْ اللَّهُ، وَرَأَيْتُ لَهُ رِقَّةً لَمْ أَكُنْ أَرَاهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ أَحْزَنَهُ- فِيمَا أَرَى- خُرُوجُنَا. قَالَتْ: فَجَاءَ عَامِرٌ بِحَاجَتِهِ تِلْكَ، فَقُلْتُ لَهُ:
يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَ عُمَرَ آنِفًا وَرِقَّتَهُ وَحُزْنَهُ عَلَيْنَا. قَالَ: أَطَمِعْتِ فِي إسْلَامِهِ؟
قَالَتْ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَلَا يُسْلِمُ الَّذِي رَأَيْتِ حَتَّى يُسْلِمَ حِمَارُ الْخَطَّابِ، قَالَتْ:
يَأْسًا مِنْهُ، لِمَا كَانَ يَرَى مِنْ غِلْظَتِهِ وَقَسْوَتِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ.
(حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ إسْلَامِ عُمَرَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ إسْلَامُ عُمَرَ فِيمَا بَلَغَنِي أَنَّ أُخْتَهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْخَطَّابِ، وَكَانَتْ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَكَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ وَأَسْلَمَ بَعْلُهَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَهُمَا مُسْتَخْفِيَانِ بِإِسْلَامِهِمَا مِنْ عُمَرَ، وَكَانَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّحَّامُ [٢]، رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ قَدْ أَسْلَمَ، وَكَانَ أَيْضًا يَسْتَخْفِي بِإِسْلَامِهِ فَرَقًا مِنْ قَوْمِهِ، وَكَانَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ [٣] يَخْتَلِفُ إلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ الْخَطَّابِ يُقْرِئُهَا الْقُرْآنَ، فَخَرَجَ عُمَرُ يَوْمًا مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَرَهْطًا مِنْ أَصْحَابِهِ قَدْ ذُكِرُوا لَهُ أَنَّهُمْ قَدْ اجْتَمَعُوا فِي بَيْتٍ عِنْدَ الصَّفَا، وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعِينَ مَا بَيْنَ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَمُّهُ حَمْزَةُ
[٢] كَذَا فِي أ. وَفِي أَكثر الْأُصُول: «… النحام من مَكَّة … إِلَخ» .
[٣] وَكَانَ خباب تميميا بِالنّسَبِ، كَمَا كَانَ خزاعيا بِالْوَلَاءِ لأم أَنْمَار بنت سِبَاع الْخُزَاعِيّ، وَكَانَ قد وَقع عَلَيْهِ سباء، فاشترته وأعتقته، فولاؤه لَهَا. وَكَانَ أَبوهَا حليفا لعوف بن عبد عَوْف بن عبد الْحَارِث ابْن زهرَة، فَهُوَ زهري بِالْحلف. وَهُوَ ابْن الْأَرَت بن جندلة بن سعد بن خُزَيْمَة بن كَعْب بن سعد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم، كَانَ قينا يعْمل السيوف فِي الْجَاهِلِيَّة، وَقد قيل: إِن أمه كَانَت أم سِبَاع الْخُزَاعِيَّة، وَلم يلْحقهُ سباء، وَلكنه انْتَمَى إِلَى حلفاء أمه بنى زهرَة، ويكنى أَبَا عبد الله وَقيل أَبَا يحيى، وَقيل أَبَا مُحَمَّد. مَاتَ بِالْكُوفَةِ سنة تسع وَثَلَاثِينَ بعد مَا شهد صفّين مَعَ على والنهروان. وَقيل: مَاتَ سنة سبع وَثَلَاثِينَ. ذكر أَن عمر بن الْخطاب سَأَلَهُ عَمَّا لَقِي فِي ذَات الله، فكشف ظَهره. فَقَالَ عمر: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ! فَقَالَ:
يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لقد أوقدت لي نَار، فَمَا أطفأها إِلَّا شحمي.
قَالَ: خَتَنُكَ وَابْنُ عَمِّكَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو، وَأُخْتُكَ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطَّابِ، فَقَدْ وَاَللَّهِ أَسْلَمَا، وَتَابَعَا مُحَمَّدًا عَلَى دِينِهِ، فَعَلَيْكَ بِهِمَا، قَالَ: فَرَجَعَ عُمَرُ عَامِدًا إلَى أُخْتِهِ وَخَتَنِهِ، وَعِنْدَهُمَا خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ مَعَهُ صَحِيفَةٌ، فِيهَا: «طَه» يُقْرِئُهُمَا إيَّاهَا، فَلَمَّا سَمِعُوا حِسَّ عُمَرَ، تَغَيَّبْ خَبَّابٌ فِي مِخْدَعٍ [١] لَهُمْ، أَوْ فِي بَعْضِ الْبَيْتِ، وَأَخَذَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطَّابِ الصَّحِيفَةَ فَجَعَلَتْهَا تَحْتَ فَخِذِهَا، وَقْدَ سَمِعَ عُمَرُ حِينَ دَنَا إلَى الْبَيْتِ قِرَاءَةَ خَبَّابٍ عَلَيْهِمَا، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ [٢] الَّتِي سَمِعْتُ؟ قَالَا لَهُ: مَا سَمِعْتَ شَيْئًا، قَالَ: بَلَى وَاَللَّهِ، لَقَدْ أُخْبِرْتُ أَنَّكُمَا تَابَعْتُمَا مُحَمَّدًا عَلَى دِينِهِ، وَبَطَشَ بِخَتَنِهِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، فَقَامَتْ إلَيْهِ أُخْتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطَّابِ لَتَكُفَّهُ عَنْ زَوْجِهَا، فَضَرَبَهَا فَشَجَّهَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ قَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ وَخَتَنُهُ: نَعَمْ قَدْ أَسْلَمْنَا وَآمَنَّا باللَّه وَرَسُولِهِ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ. فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِأُخْتِهِ مِنْ الدَّمِ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ، فَاِرْعَوى [٣]، وَقَالَ لِأُخْتِهِ: أَعْطِينِي هَذِهِ الصَّحِيفَةَ الَّتِي سَمِعْتُكُمْ تَقْرَءُونَ آنِفًا أَنْظُرْ مَا هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، وَكَانَ عُمَرُ كَاتِبًا، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ، قَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ: إنَّا نَخْشَاكَ عَلَيْهَا، قَالَ: لَا تَخَافِي، وَحَلَفَ لَهَا بِآلِهَتِهِ لَيَرُدَّنَّهَا إذَا قَرَأَهَا إلَيْهَا، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ، طَمِعَتْ فِي إسْلَامِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَخِي، إنَّكَ نَجِسٌ، عَلَى
[٢] الهينمة: صَوت كَلَام لَا يفهم.
[٣] ارعوى: رَجَعَ.
هُوَ فِي بَيْتٍ عِنْدَ الصَّفَا، مَعَهُ فِيهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَخَذَ عُمَرُ سَيْفَهُ فَتَوَشَّحَهُ، ثُمَّ عَمَدَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ، فَضَرَبَ عَلَيْهِمْ الْبَابَ، فَلَمَّا سَمِعُوا
والمطهرون فِي هَذِه الْآيَة هم الْمَلَائِكَة، وَهُوَ قَول مَالك فِي الْمُوَطَّأ، وَاحْتج بِالْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي فِي سُورَة عبس وَلَكنهُمْ وَإِن كَانُوا الْمَلَائِكَة، فَفِي وَصفهم بِالطَّهَارَةِ مَقْرُونا بِذكر الْمس مَا يَقْتَضِي أَلا يمسهُ إِلَّا طَاهِر، اقْتِدَاء بِالْمَلَائِكَةِ المطهرين، فقد تعلق الحكم بِصفة التَّطْهِير، وَلكنه حكم مَنْدُوب إِلَيْهِ، وَلَيْسَ مَحْمُولا على الْفَرْض وَإِن كَانَ الْفَرْض فِيهِ أبين مِنْهُ فِي الْآيَة، لِأَنَّهُ جَاءَ بِلَفْظ النهى عَن مَسّه على غير طَهَارَة، وَلَكِن فِي كتاب إِلَى هِرقل بِهَذِهِ الْآيَة: يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ ٣: ٦٤ دَلِيل على مَا قُلْنَاهُ. وَقد ذهب دَاوُد وَأَبُو ثَوْر، وَطَائِفَة مِمَّن سلف، مِنْهُم: الحكم بن عتيبة وَحَمَّاد بن أَبى سُلَيْمَان، إِلَى إِبَاحَة مس الْمُصحف على غير طَهَارَة، وَاحْتَجُّوا بِمَا ذكرنَا من كِتَابه إِلَى هِرقل، وَقَالُوا: حَدِيث عَمْرو بن حزم مُرْسل، فَلم يروه حجَّة، والدارقطنيّ قد أسْندهُ من طرق حسان، أقواها رِوَايَة أَبى دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن الزُّهْرِيّ، عَن أَبى بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، عَن أَبِيه، عَن جد. وَمِمَّا يقوى أَن المطهرين فِي الْآيَة هم الْمَلَائِكَة، أَنه لم يقل: «المتطهرون»، وَإِنَّمَا قَالَ: «الْمُطَهَّرُونَ ٥٦: ٧٩» . وَفرق مَا بَين المتطهر والمطهر، أَن المتطهر من فعل الطّهُور، وَأدْخل نَفسه فِيهِ، كالمتفقه من يدْخل نَفسه فِي الْفِقْه، وَكَذَلِكَ (المتفعل) فِي أَكثر الْكَلَام. وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ:
وَقيس عيلان وَمن تقيسا
فالآدميون متطهرون إِذا تطهروا، وَالْمَلَائِكَة خلقَة، والآدميات إِذا تطهرن متطهرات. وَفِي التَّنْزِيل:
فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ من حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله ٢: ٢٢٢. والحور الْعين: مطهرات. وَفِي التَّنْزِيل: لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ٢: ٢٥. وَهَذَا فرق بَين، وَقُوَّة لتأويل مَالك رحمه الله، وَالْقَوْل عِنْدِي فِي الرَّسُول عليه الصلاة والسلام أَنه متطهر ومطهر، أما متطهر، فَلِأَنَّهُ بشر آدَمِيّ يغْتَسل من الْجَنَابَة، وَيتَوَضَّأ من الْحَدث، وَأما مطهر فَلِأَنَّهُ قد غسل بَاطِنه، وشق عَن قلبه، وملئ حِكْمَة وإيمانا، فَهُوَ مطهر ومتطهر» .
[٢] وَفِي رِوَايَة: أَن عمر حِين قَرَأَ فِي الصَّحِيفَة سُورَة «طه» انْتهى مِنْهَا إِلَى قَوْله: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ٢٠: ١٥. فَقَالَ: مَا أطيب هَذَا الْكَلَام وَأحسنه! وَقيل: إِن الصَّحِيفَة كَانَ فِيهَا مَعَ سُورَة طه: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ٨١: ١. وَإِن عمر انْتهى فِي قرَاءَتهَا إِلَى قَوْله: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ٨١: ١٤.
يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُكَ لِأُومِنَ باللَّه وَبِرَسُولِهِ، وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ: فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَكْبِيرَةً عَرَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّ عُمَرَ قَدْ أَسْلَمَ.
فَتَفَرَّقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ مَكَانِهِمْ، وَقَدْ عَزُّوا [٤] فِي أَنْفُسِهِمْ حِينَ أَسْلَمَ عُمَرُ مَعَ إسْلَامِ حَمْزَةَ، وَعَرَفُوا أَنَّهُمَا [٥] سَيَمْنَعَانِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَيَنْتَصِفُونَ بِهِمَا مِنْ عَدُوِّهِمْ. فَهَذَا حَدِيثُ الرُّوَاةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ إسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ أَسْلَمَ.
(رِوَايَةُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ عَنْ إسْلَامِ عُمَرَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ الْمَكِّيُّ، عَنْ أَصْحَابِهِ: عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، أَوْ عَمَّنْ رَوَى ذَلِكَ: أَنَّ إسْلَامَ عُمَرَ فِيمَا تَحَدَّثُوا بِهِ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:
كُنْتُ لِلْإِسْلَامِ مُبَاعِدًا، وَكُنْتُ صَاحِبَ خَمْرٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أُحِبُّهَا وَأُسِرُّ بِهَا، وَكَانَ لَنَا مَجْلِسٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ بِالْحَزْوَرَةِ [٦]، عِنْدَ دُورَ آلِ عُمَرَ
[٢] زِيَادَة عَن أ.
[٣] القارعة: الداهية.
[٤] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وَقد عزما فِي أنفسهم» .
[٥] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أَنهم» وَلَا يَسْتَقِيم بهَا الْكَلَام.
[٦] الْحَزْوَرَة بِالْفَتْح ثمَّ السّكُون وَفتح الْوَاو وَرَاء وهاء، والمحدثون يفتحون الرَّاء ويشددون الْوَاو،
قَالَ: فَخَرَجْتُ فَجِئْتُهُ فَلَمْ أَجِدْهُ. قَالَ: فَقُلْتُ: فَلَوْ أَنِّي جِئْتُ الْكَعْبَةَ فَطُفْتُ بِهَا سَبْعًا أَوْ سَبْعِينَ. قَالَ: فَجِئْتُ الْمَسْجِدَ أُرِيدُ أَنْ أَطُوِّفَ بِالْكَعْبَةِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَائِمٌ يُصَلِّي، وَكَانَ إذَا صَلَّى اسْتَقْبَلَ الشَّامَ، وَجَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ، وَكَانَ مُصَلَّاهُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ: الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ، وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ.
قَالَ: فَقُلْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ، وَاَللَّهِ لَوْ أَنِّي اسْتَمَعْتُ لِمُحَمَّدٍ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَسْمَعَ مَا يَقُولُ! (قَالَ) [٢] فَقُلْتُ: لَئِنْ دَنَوْتُ مِنْهُ أَسْتَمِعُ مِنْهُ لَأُرَوِّعَنَّهُ، فَجِئْتُ مِنْ قِبَلِ الْحِجْرِ، فَدَخَلْتُ تَحْتَ ثِيَابِهَا، فَجَعَلْتُ أَمْشِي رُوَيْدًا، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَائِمٌ يُصَلِّي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، حَتَّى قُمْتُ فِي قِبْلَتِهِ مُسْتَقْبِلَهُ، مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ إلَّا ثِيَابُ الْكَعْبَةِ.
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُ الْقُرْآنَ رَقَّ لَهُ قَلْبِي، فَبَكَيْتُ وَدَخَلَنِي الْإِسْلَامُ، فَلَمْ أَزَلْ قَائِمًا فِي مَكَانِي ذَلِكَ، حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلَاتَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَكَانَ إذَا انْصَرَفَ خَرَجَ عَلَى دَارِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، وَكَانَتْ طَرِيقَهُ، حَتَّى يَجْزَعَ [٣] الْمَسْعَى، ثُمَّ يَسْلُكُ بَيْنَ دَارِ عَبَّاسِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَبَيْنَ دَارِ ابْنِ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ، ثُمَّ عَلَى دَارِ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، حَتَّى يَدْخُلَ بَيْتَهُ. وَكَانَ مَسْكَنُهُ ﷺ فِي الدَّارِ الرَّقْطَاءِ [٤]، الَّتِي كَانَتْ بِيَدَيْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: فَتَبِعْتُهُ حَتَّى إذَا دَخَلَ بَيْنَ دَارِ عَبَّاسٍ، وَدَارِ ابْن أَزْهَرَ، أَدْرَكْتُهُ، فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِسِّي عَرَفَنِي، فَظَنَّ
[١] كَذَا فِي أ، ط، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أحد» وَهُوَ تَحْرِيف.
[٢] زِيَادَة عَن أ.
[٣] كَذَا فِي أ. ويجزع الْمَسْعَى: يقطعهُ، يُقَال جزعت الْوَادي: إِذا قطعته. وَفِي سَائِر الْأُصُول:
«حَتَّى يُجِيز على الْمَسْعَى» .
[٤] الرقطاء: الَّتِي فِيهَا ألوان.
قَدْ هَدَاكَ اللَّهُ يَا عُمَرُ، ثُمَّ مَسَحَ صَدْرِي، وَدَعَا لِي بِالثَّبَاتِ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْتَهُ [٣] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ.
(ذِكْرُ قُوَّةِ عُمَرَ فِي الْإِسْلَامِ وَجَلَدِهِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:
لَمَّا أَسْلَمَ أَبِي عُمَرُ قَالَ: أَيُّ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ؟ فَقِيلَ [٤] لَهُ: جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ [٥]
[٢] زِيَادَة عَن أ.
[٣] وَذكر ابْن سنجر زِيَادَة فِي إِسْلَام عمر قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْمُغيرَة قَالَ: حَدثنَا صَفْوَان بن عَمْرو قَالَ: حَدثنِي شُرَيْح بن عبيد قَالَ: قَالَ عمر بن الْخطاب: خرجت أتعرض رَسُول الله ﷺ قبل أَن أسلم فَوَجَدته قد سبقني إِلَى الْمَسْجِد، فَقُمْت خَلفه، فَاسْتَفْتَحَ «سُورَة الحاقة» فَجعلت أتعجب من تأليف الْقُرْآن. قَالَ: قلت: هَذَا وَالله شَاعِر كَمَا قَالَت قُرَيْش، فَقَرَأَ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ٦٩: ٤٠- ٤١ قَالَ: قلت كَاهِن علم مَا فِي نَفسِي، فَقَالَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ٦٩: ٤٢ إِلَى آخر السُّورَة، قَالَ: فَوَقع الْإِسْلَام فِي قلبِي كل موقع، ويذكرون أَن عمر قَالَ حِين أسلم:
الْحَمد الله ذِي الْمَنّ الّذي وَجَبت … لَهُ علينا أياد مَا لَهَا غير
وَقد بدأنا فكذبنا فَقَالَ لنا … صدق الحَدِيث نَبِي عِنْده الْخَبَر
وَقد ظلمت ابْنة الْخطاب ثمَّ هدى … ربى عَشِيَّة قَالُوا قد صبا عمر
وَقد نَدِمت على مَا كَانَ من زلل … بظلمها حِين تتلى عِنْدهَا السُّور
لما دعت رَبهَا ذَا الْعَرْش جاهدة … والدمع من عينهَا عجلَان يبتدر
أيقنت أَن الّذي تَدعُوهُ خَالِقهَا … فكاد تسبقني من عِبْرَة دُرَر
فَقلت اشْهَدْ أَن الله خالقنا … وَأَن أَحْمد فِينَا الْيَوْم مشتهر
نَبِي صدق أَتَى بِالْحَقِّ من ثِقَة … وافى الْأَمَانَة مَا فِي عوده خور
(رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[٤] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ قيل» .
[٥] وَجَمِيل هَذَا هُوَ الّذي كَانَ يُقَال لَهُ: ذُو القلبين، وَفِيه نزلت، فِي أحد الْأَقْوَال: مَا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ من قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ٣٣: ٤. وَفِيه قيل:
وَكَيف ثرائى بِالْمَدِينَةِ بعد مَا … قضى وطرا مِنْهَا جميل بن معمر
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ [١]، أَلَا إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدْ صَبَأَ.
قَالَ: (و) [٢] يَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ: كَذَبَ، وَلَكِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، وَشَهِدْتُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَثَارُوا إلَيْهِ، فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ حَتَّى قَامَتْ الشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِهِمْ. قَالَ: وَطَلِحَ [٣]، فَقَعَدَ وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَحْلِفُ باللَّه أَنْ لَوْ قَدْ كُنَّا ثَلَاثَ ماِئَةِ رَجُلٍ (لَقَدْ) [٢] تَرَكْنَاهَا لَكُمْ، أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ، عَلَيْهِ حُلَّةٌ حِبْرَةٌ [٤]، وَقَمِيصٌ مُوَشًّى، حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟
قَالُوا: صَبَا عُمَرُ، فَقَالَ: فَمَهْ، رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا فَمَاذَا تُرِيدُونَ؟
أَتَرَوْنَ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ يُسْلِمُونَ لَكُمْ صَاحِبَهُمْ هَكَذَا! خَلُّوا عَنْ الرجل. قَالَ:
فو الله لَكَأَنَّمَا كَانُوا ثَوْبًا كُشِطَ عَنْهُ. قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ:
يَا أَبَتْ، مَنْ الرَّجُلُ: الَّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْكَ بِمَكَّةَ يَوْمَ أَسْلَمْتُ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَكَ؟
فَقَالَ: ذَاكَ، أَيْ بُنَيَّ، الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُ قَالَ: يَا أَبَتْ، مَنْ الرَّجُلُ الَّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْكَ (بِمَكَّةَ) [٢] يَوْمَ أَسْلَمْتَ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَكَ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
(وَهُوَ غناء يحدى بِهِ الركاب) . فَلَمَّا دخل عمر قَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن: إِنَّا إِذا خلونا قُلْنَا مَا يَقُول النَّاس فِي بُيُوتهم، وَقد قلب الْمبرد هَذَا الحَدِيث، وَجعل المنشد عمر، والمستأذن عبد الرَّحْمَن، وَفِيمَا ذهب إِلَيْهِ الْمبرد بعد عَن الصَّوَاب. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[١] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «حول بَاب الْكَعْبَة» .
[٢] زِيَادَة عَن أ.
[٣] طلح: أعيا.
[٤] الْحبرَة: ضرب من برود الْيمن.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ بَعْضِ آلِ عُمَرَ، أَوْ بَعْضِ أَهْلِهِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَمَّا أَسْلَمْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، تَذَكَّرْتُ أَيَّ أَهْلِ مَكَّةَ أَشَدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَدَاوَةً حَتَّى آتِيَهُ فَأُخْبِرَهُ أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، قَالَ:
قُلْتُ: أَبُو جَهْلٍ- وَكَانَ عُمَرُ لِحَنْتَمَةَ بِنْتِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ- قَالَ: فَأَقْبَلْتُ حِينَ أَصْبَحْتُ حَتَّى ضَرَبْتُ عَلَيْهِ بَابَهُ. قَالَ: فَخَرَجَ إلَيَّ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِابْنِ أُخْتِي، مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ [١]: جِئْتُ لِأُخْبِرَكَ أَنِّي قَدْ آمَنْتُ باللَّه وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، وَصَدَّقْتُ بِمَا جَاءَ بِهِ، قَالَ: فَضَرَبَ الْبَابَ فِي وَجْهِي وَقَالَ: قَبَّحَكَ اللَّهُ، وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ.