إسْلَامُ حَمْزَةَ رحمه الله [٢]

(أَذَاةُ أَبِي جَهْلٍ لِلرَّسُولِ ﷺ، وَوُقُوفُ حَمْزَةَ عَلَى ذَلِكَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ، كَانَ وَاعِيَةً: أَنَّ أَبَا جَهْلٍ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ الصَّفَا، فَآذَاهُ وَشَتَمَهُ، وَنَالَ مِنْهُ بَعْضَ مَا يَكْرَهُ مِنْ الْعَيْبِ لِدِينِهِ، وَالتَّضْعِيفِ لِأَمْرِهِ، فَلَمْ يُكَلِّمْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَمَوْلَاةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ


[١] قَالَ السهيليّ: «قَالَ بعض أهل الْعلم: فِي تَسْمِيَته إِيَّاه بالمدثر فِي هَذَا الْمقَام ملاطفة وتأنيس، وَمن عَادَة الْعَرَب إِذا قصدت الملاطفة أَن تسمى الْمُخَاطب باسم مُشْتَقّ من الْحَالة الَّتِي هُوَ فِيهَا، كَقَوْلِه عليه الصلاة والسلام لِحُذَيْفَة: قُم يَا نومان. وَقَوله لعلى بن أَبى طَالب وَقد ترب جنبه قُم أَبَا تُرَاب. فَلَو ناداه سُبْحَانَهُ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَال من الكرب باسمه، أَو بِالْأَمر الْمُجَرّد من هَذِه الملاطفة لهاله ذَلِك، وَلَكِن لما بُدِئَ بيا أَيهَا المدثر أنس، وَعلم أَن ربه رَاض عَنهُ، أَلا ترَاهُ كَيفَ قَالَ عِنْد مَا لَقِي من أهل الطَّائِف من شدَّة الْبلَاء وَالْكرب مَا لَقِي: رب إِن لم يكن بك غضب على فَلَا أبالى. إِلَى آخر الدُّعَاء، فَكَانَ مَطْلُوبَة رضَا ربه، وَبِه كَانَت تهون عَلَيْهِ الشدائد» . ثمَّ قَالَ: «فان قيل: كَيفَ يَنْتَظِم «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ٧٤: ١» مَعَ قَوْله: «قُمْ فَأَنْذِرْ ٧٤: ٢»؟ وَمَا الرابط بَين الْمَعْنيين حَتَّى يلتئما فِي قانون البلاغة، ويتشاكلا فِي حكم الفصاحة؟ قُلْنَا: من صفته عليه الصلاة والسلام، مَا وصف بِهِ نَفسه حِين قَالَ: أَنا النذير الْعُرْيَان. وَهُوَ مثل مَعْرُوف عِنْد الْعَرَب، يُقَال لمن أنذر بِقرب الْعَدو، وَبَالغ فِي الْإِنْذَار: هُوَ النذير الْعُرْيَان. وَذَلِكَ أَن النذير الجاد يجرد ثَوْبه، وَهُوَ يُشِير بِهِ إِذا خَافَ أَن يسْبق الْعَدو صَوته. وَقد قيل: إِن أصل الْمثل لرجل من خثعم، سلبه الْعَدو ثَوْبه، وَقَطعُوا يَده، فَانْطَلق إِلَى قومه نذيرا على تِلْكَ الْحَال، فَقَوله عليه الصلاة والسلام: أَنا النذير الْعُرْيَان أَي مثلي مثل ذَلِك. والنذير بالثياب، مضاد للتعرى، فَكَانَ فِي قَوْله: «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ٧٤: ١» . مَعَ قَوْله «قُمْ فَأَنْذِرْ ٧٤: ٢»، والنذير الجاد يُسمى الْعُرْيَان، تشاكل بَين، والتئام بديع، وسياقة فِي الْمَعْنى، وجزالة فِي اللَّفْظ» .
[٢] وَأم حَمْزَة: هَالة بنت أهيب بن عبد منَاف بن زهرَة، وأهيب عَم آمِنَة بنت وهب، تزَوجهَا عبد الْمطلب وَتزَوج ابْنه عبد الله آمِنَة فِي سَاعَة وَاحِدَة، فَولدت هَالة لعبد الْمطلب حَمْزَة، وَولدت آمِنَة لعبد الله رَسُول الله ﷺ، ثمَّ أرضعتهما ثويبة.
١ ‏/ ٢٩١
فِي مَسْكَنٍ لَهَا تَسْمَعُ ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَعَمَدَ إلَى نَادٍ [١] مِنْ قُرَيْشٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ. فَلَمْ يَلْبَثْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه أَنْ أَقْبَلَ مُتَوَشِّحًا [٢] قَوْسَهُ، رَاجِعًا مِنْ قَنْصٍ [٣] لَهُ، وَكَانَ صَاحِبَ قَنْصٍ يَرْمِيهِ وَيَخْرُجُ لَهُ، وَكَانَ إذَا رَجَعَ مِنْ قَنْصِهِ لَمْ يَصِلْ إلَى أَهْلِهِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ، وَكَانَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَمُرَّ عَلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ إلَّا وَقَفَ وَسَلَّمَ وَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ، وَكَانَ أَعَزَّ فَتًى فِي قُرَيْشٍ، وَأَشَدَّ شَكِيمَةً. فَلَمَّا مَرَّ بِالْمَوْلَاةِ، وَقَدْ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى بَيْتِهِ، قَالَتْ لَهُ: يَا أَبَا عُمَارَةَ، لَوْ رَأَيْتَ مَا لَقِيَ ابْنُ أَخِيكَ مُحَمَّدٌ آنِفًا مِنْ أَبِي الْحَكَمِ بن هِشَام: وجنده هَاهُنَا جَالِسًا فَآذَاهُ وَسَبَّهُ، وَبَلَغَ مِنْهُ مَا يَكْرَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ مُحَمَّدٌ ﷺ.

(إيقَاعُ حَمْزَةَ بِأَبِي جَهْلٍ وَإِسْلَامُهُ):
فَاحْتَمَلَ حَمْزَةَ الْغَضَبُ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ، فَخَرَجَ يَسْعَى وَلَمْ يَقِفْ عَلَى أَحَدٍ، مُعِدًّا لِأَبِي جَهْلٍ إذَا لَقِيَهُ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ نَظَرَ إلَيْهِ جَالِسًا فِي الْقَوْمِ، فَأَقْبَلَ نَحْوَهُ، حَتَّى إذَا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ رَفَعَ الْقَوْسَ فَضَرَبَهُ بِهَا فَشَجَّهُ شَجَّةً مُنْكَرَةً، ثُمَّ قَالَ: أَتَشْتِمُهُ وَأَنَا عَلَى دِينِهِ أَقُولُ مَا يَقُولُ؟ فَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيَّ إنْ اسْتَطَعْتُ. فَقَامَتْ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إلَى حَمْزَةَ لِيَنْصُرُوا أَبَا جَهْلٍ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: دَعُوا أَبَا عُمَارَةَ، فَإِنِّي وَاَللَّهِ قَدْ سَبَبْتُ ابْنَ أَخِيهِ سَبًّا قَبِيحًا، وَتَمَّ حَمْزَةُ رضي الله عنه عَلَى إسْلَامِهِ، وَعَلَى مَا تَابَعَ عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنْ قَوْلِهِ. فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمْزَةُ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ عَزَّ وَامْتَنَعَ، وَأَنَّ حَمْزَةَ سَيَمْنَعُهُ، فَكَفُّوا عَنْ بَعْضِ مَا كَانُوا يَنَالُونَ [٤] مِنْهُ.


[١] النادي: مجْلِس الْقَوْم وَقد يُسمى الْقَوْم المجتمعون نَادِيًا، وَمِنْه «فَليدع نَادِيه» .
[٢] متوشحا: مُتَقَلِّدًا.
[٣] القنص (بِالْفَتْح وبالتحريك): الصَّيْد.
[٤] وَزَاد غير ابْن إِسْحَاق فِي إِسْلَام حَمْزَة أَنه قَالَ: لما احتملنى الْغَضَب وَقلت: أَنا على قَوْله، أدركنى النَّدَم على فِرَاق دين آبَائِي وقومي، وَبت من الشَّك فِي أَمر عَظِيم، لَا أكتحل بنوم، ثمَّ أتيت الْكَعْبَة وتضرعت إِلَى الله سُبْحَانَهُ أَن يشْرَح صَدْرِي للحق، وَيذْهب عَنى الريب، فَمَا استتممت دعائي حَتَّى زاح عَنى الْبَاطِل، وامتلأ قلبِي يَقِينا، فَغَدَوْت إِلَى رَسُول الله ﷺ فَأَخْبَرته بِمَا كَانَ من أمرى، فَدَعَا

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

ذِكْرُ سَرْدِ النَّسَبِ الزَّكِيِّ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، إلَى آدَمَ عليه السلام -2

ذِكْرُ وَلَدِ نِزَارِ بْنِ مَعَدٍّ (أَوْلَادُهُ فِي رَأْيِ ابْنِ إسْحَاقَ وَابْنِ هِشَامٍ): قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: …