أَمْرُ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ

(مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَالْعَقَبَةُ الثَّانِيَةُ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ [٤] الْمُسْلِمِينَ إلَى الْمَوْسِمِ مَعَ حَجَّاجِ قَوْمِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، حَتَّى قَدِمُوا مَكَّةَ، فَوَاعَدُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الْعَقَبَةَ، مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، حِينَ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ مَا أَرَادَ مِنْ كَرَامَتِهِ، وَالنَّصْرِ لِنَبِيِّهِ، وَإِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَإِذْلَالِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.


[١] الشكول: جمع شكل، وشكل الشَّيْء (بِالْفَتْح): مثله. فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَن دين الْيَهُود بدع فَلَيْسَ لَهُ شكول: أَي لَيْسَ لَهُ نَظِير فِي الْحَقَائِق، وَلَا مثيل يعضده من الْأَمر الْمَعْرُوف المقبول، وَقد قَالَ الطَّائِي:
وَقلت أخى قَالُوا أَخ من قرَابَة … فَقلت لَهُم إِن الشكول أقَارِب
قريبي فِي رَأْيِي وديني ومذهبي … وَإِن باعدتنا فِي الخطوب الْمُنَاسب
[٢] كَذَا فِي أ، ط. والجليل: جبل بِالشَّام مَعْرُوف، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «الْخَلِيل» بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَهُوَ تَصْحِيف.
[٣] ترسف: تمشى مَشى الْمُقَيد. ومذعنات: منقادات. والجلول جمع جلّ (بِالضَّمِّ وبالفتح)، وَهُوَ مَا تلبسه الدَّابَّة لتصان بِهِ.
[٤] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «إِلَى» وَهُوَ تَحْرِيف.
١ ‏/ ٤٣٨
(الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ وَصَلَاتُهُ إلَى الْكَعْبَةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبِ بْنِ الْقَيْنِ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، أَنَّ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الْأَنْصَارِ، حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ كَعْبًا حَدَّثَهُ، وَكَانَ كَعْبٌ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِهَا، قَالَ: خَرَجْنَا فِي حُجَّاجِ قَوْمِنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ صَلَّيْنَا وَفَقِهْنَا، وَمَعَنَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ [١]، سَيِّدُنَا وَكَبِيرُنَا، فَلَمَّا وَجَّهْنَا [٢] لِسَفَرِنَا، وَخَرَجْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ، قَالَ الْبَرَاءُ لَنَا: يَا هَؤُلَاءِ، إنِّي قَدْ رَأَيْت رَأيا، فو الله مَا أَدْرِي، أَتُوَافِقُونَنِي عَلَيْهِ، أَمْ لَا؟ قَالَ: قُلْنَا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ أَنْ لَا أَدَعَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهْرٍ، يَعْنِي الْكَعْبَةَ، وَأَنْ أُصَلِّيَ إلَيْهَا. قَالَ: فَقُلْنَا، وَاَللَّهِ مَا بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّنَا ﷺ يُصَلِّي إلَّا إلَى الشَّامِ [٣]، وَمَا نُرِيدُ أَنْ نُخَالِفَهُ. قَالَ: فَقَالَ:
إنِّي لَمُصَلٍّ إلَيْهَا. قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: لَكِنَّا لَا نَفْعَلُ. قَالَ: فَكُنَّا إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ صَلَّيْنَا إلَى الشَّامِ، وَصَلَّى إلَى الْكَعْبَةِ، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ. قَالَ: وَقَدْ كُنَّا عِبْنَا عَلَيْهِ مَا صَنَعَ، وَأَبَى إلَّا الْإِقَامَةَ عَلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ لِي: يَا بن أَخِي، انْطَلِقْ بِنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، حَتَّى نَسْأَلَهُ عَمَّا صَنَعْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، فَإِنَّهُ وَاَللَّهِ لَقَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ خِلَافِكُمْ إيَّايَ فِيهِ.
قَالَ: فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكُنَّا لَا نَعْرِفُهُ، وَلَمْ نَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَقِينَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفَانِهِ؟ فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفَانِ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّهُ؟
قَالَ: قُلْنَا: نَعَمْ- قَالَ: وَقَدْ كُنَّا نَعْرِفُ الْعَبَّاسَ، كَانَ لَا يَزَالُ يَقْدَمُ عَلَيْنَا تَاجِرًا- قَالَ: فَإِذَا دَخَلْتُمَا الْمَسْجِدَ فَهُوَ الرَّجُلُ الْجَالِسُ مَعَ الْعَبَّاسِ. قَالَ: فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَإِذَا الْعَبَّاسُ جَالِسٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسٌ مَعَهُ، فَسَلَّمْنَا ثُمَّ


[١] يكنى الْبَراء بن معْرور: أَبَا بشر، بِابْنِهِ بشر. وَهُوَ الّذي أكل مَعَ رَسُول الله ﷺ من الشَّاة المسمومة، فَمَاتَ. ومعرور: اسْم أَبِيه. وَمَعْنَاهُ: مَقْصُود، يُقَال: عره واعتره: إِذا قَصده.
والبراء هَذَا، مِمَّن صلى رَسُول الله ﷺ على قَبره بعد مَوته.
[٢] وجهنا: اتجهنا.
[٣] يعْنى بَيت الْمُقَدّس.
١ ‏/ ٤٣٩
جَلَسْنَا إلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْعَبَّاسِ: هَلْ تَعْرِفُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، هَذَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَهَذَا كَعْبُ (بْنُ) [١] مَالك. قَالَ: فو الله مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُول الله ﷺ: لشاعر؟
قَالَ: نَعَمْ. (قَالَ) [١]: فَقَالَ (لَهُ) [١] الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إنِّي خَرَجْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، وَقَدْ هَدَانِي اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ، فَرَأَيْتُ أَنْ لَا أَجْعَلَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهْرٍ، فَصَلَّيْتُ إلَيْهَا، وَقَدْ خَالَفَنِي أَصْحَابِي فِي ذَلِكَ، حَتَّى وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَمَاذَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (قَدْ) [١] كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ [٢] عَلَيْهَا. قَالَ: فَرَجَعَ الْبَرَاءُ إلَى قِبْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَصَلَّى مَعَنَا إلَى الشَّامِ. قَالَ: وَأَهْلُهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ صَلَّى إلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى مَاتَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ [٣] كَمَا قَالُوا، نَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَ عَوْنُ بْنُ أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ:
وَمِنَّا الْمُصَلِّي أَوَّلَ النَّاسِ مُقْبِلًا … عَلَى كَعْبَةِ الرَّحْمَنِ بَيْنَ الْمَشَاعِرِ
يَعْنِي الْبَرَاءَ بْنَ مَعْرُورٍ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.

(إسْلَامُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبٍ، أَنَّ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ، قَالَ كَعْبٌ: ثُمَّ خَرَجْنَا إلَى الْحَجِّ، وَوَاعَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِالْعَقَبَةِ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنْ الْحَجِّ، وَكَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي وَاعَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَهَا، وَمَعَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو


[١] زِيَادَة عَن أ، ط.
[٢] قَالَ السهيليّ فِي التَّعْلِيق على هَذَا الحَدِيث «قَوْله: لَو صبرت عَلَيْهَا، إِنَّه لم يَأْمُرهُ بِإِعَادَة مَا قد صلى، لِأَنَّهُ كَانَ متأولا وَفِي الحَدِيث دَلِيل على أَن رَسُول الله ﷺ كَانَ يصلى بِمَكَّة إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس. وَقَالَت طَائِفَة: مَا صلى إِلَى بَيت الْمُقَدّس إِلَّا مذ قدم الْمَدِينَة سَبْعَة عشر شهرا أَو سِتَّة عشر شهرا فعلى هَذَا يكون فِي الْقبْلَة نسخان: نسخ سنة بِسنة وَنسخ سنة بقرآن. وَقد بَين حَدِيث ابْن عَبَّاس منشأ الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، فروى عَنهُ من طرق صِحَاح: أَن رَسُول الله ﷺ كَانَ إِذا صلى بِمَكَّة اسْتقْبل بَيت الْمُقَدّس، وَجعل الْكَعْبَة بَينه وَبَين بَيت الْمُقَدّس، فَلَمَّا كَانَ عليه السلام يتحَرَّى الْقبْلَتَيْنِ جَمِيعًا لم يبن توجهه إِلَى بَيت الْمُقَدّس للنَّاس حَتَّى خرج من مَكَّة» .
[٣] فِي أ: «وَلَيْسَ كَذَلِك نَحن … إِلَخ» .
١ ‏/ ٤٤٠
ابْن حرَام أَبُو جَابِرٌ، سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا [١]، أَخَذْنَاهُ مَعَنَا، وَكُنَّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَمْرَنَا، فَكَلَّمْنَاهُ وَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا جَابِرٍ، إنَّكَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا، وَإِنَّا نَرْغَبُ بِكَ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنَّارِ غَدًا، ثُمَّ دَعَوْنَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبَرْنَاهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إيَّانَا الْعَقَبَةَ. قَالَ: فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ، وَكَانَ نَقِيبًا.
قَالَ: فَنِمْنَا تَلِكَ اللَّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا، حَتَّى إذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ خَرَجْنَا مِنْ رِحَالِنَا لِمَعَادِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، نَتَسَلَّلُ تَسَلُّلَ الْقَطَا مُسْتَخْفِينَ، حَتَّى اجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا، وَمَعَنَا امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِنَا: نُسَيْبَةُ [٢] بِنْتُ كَعْبٍ، أُمُّ عُمَارَةَ، إحْدَى نِسَاءِ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَابِي، إحْدَى نِسَاءِ بَنِي سَلِمَةَ، وَهِيَ أُمُّ مَنِيعٍ.

(الْعَبَّاسُ يَتَوَثَّقُ لِلنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام:
قَالَ: فَاجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، حَتَّى جَاءَنَا وَمَعَهُ (عَمُّهُ) [٣] الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، إلَّا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ وَيَتَوَثَّقَ لَهُ. فَلَمَّا جَلَسَ كَانَ أَوَّلَ [٤] مُتَكَلِّمٍ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ- قَالَ: وَكَانَتْ الْعَرَبُ إنَّمَا يُسَمُّونَ هَذَا الْحَيَّ مِنْ الْأَنْصَارِ: الْخَزْرَجَ، خَزْرَجَهَا وَأَوْسَهَا-: إنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا، مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِنَا فِيهِ، فَهُوَ فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ، وَإِنَّهُ قَدْ أَبَى إلَّا الِانْحِيَازَ إلَيْكُمْ، وَاللُّحُوقَ بِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إلَيْهِ، وَمَانِعُوهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمَّلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ


[١] الْعبارَة «وشريف من أشرافنا» سَاقِطَة فِي أ.
[٢] هِيَ امْرَأَة زيد بن عَاصِم، وَقد شهِدت بيعَة الْعقبَة وبيعة الرضْوَان، كَمَا شهِدت يَوْم الْيَمَامَة وباشرت الْقِتَال بِنَفسِهَا. وشاركت ابْنهَا عبد الله فِي قتل مُسَيْلمَة، فَقطعت يَدهَا. وجرحت اثنى عشر جرحا، ثمَّ عاشت بعد ذَلِك دهرا. ويروى أَنَّهَا قَالَت لرَسُول الله ﷺ: مَا أرى كل شَيْء إِلَّا للرِّجَال، وَمَا أرى للنِّسَاء شَيْئا! فَأنْزل الله تَعَالَى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ٣٣: ٣٥ … الْآيَة.
[٣] زِيَادَة عَن أ، ط.
[٤] فِي أ: «أول من تكلم» .
١ ‏/ ٤٤١
كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ مُسْلِمُوهُ وَخَاذِلُوهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ بِهِ إلَيْكُمْ، فَمِنْ الْآنَ فَدَعُوهُ، فَإِنَّهُ فِي عِزٍّ وَمَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَبَلَدِهِ. قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتُ، فَتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ وَلِرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتُ.

(عَهْدُ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام عَلَى الْأَنْصَارِ):
قَالَ: فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَتَلَا الْقُرْآنَ، وَدَعَا إلَى اللَّهِ، وَرَغَّبَ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ. قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ (نَبِيًّا) [١]، لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا [٢]، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَحْنُ وَاَللَّهِ أَبْنَاءُ [٣] الْحُرُوبِ، وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ [٤]، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا (عَنْ كَابِرٍ) [١] . قَالَ:
فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ، وَالْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ [٥]، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ حِبَالًا، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا- يَعْنِي الْيَهُودَ- فَهَلْ عَسَيْتَ إنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا؟ قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: بَلْ الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ [٦]، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ، وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ.


[١] زِيَادَة عَن أ، ط.
[٢] أزرنا، أَي نِسَاءَنَا. وَالْمَرْأَة قد يكنى عَنْهَا بالإزار، كَمَا يكنى أَيْضا بالإزار عَن النَّفس، وَيجْعَل الثَّوْب عبارَة عَن لابسه. قَالَ الشَّاعِر:
رَمَوْهَا بأثواب خفاف فَلَا ترى … لَهَا شبها إِلَّا النعام المنفرا
وعَلى هَذَا يَصح أَن يحمل قَول الْبَراء على إِرَادَة الْمَعْنيين جَمِيعًا.
[٣] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أهل» .
[٤] الْحلقَة، أَي السِّلَاح.
[٥] التيهَان: يرْوى بتَشْديد الْيَاء وتخفيفها.
[٦] قَالَ ابْن قُتَيْبَة: كَانَت الْعَرَب تَقول عِنْد عقد الْحلف والجوار: دمي دمك، وهدمي هدمك:
أَي مَا هدمت من الدِّمَاء هدمته أَنا.
ويروى أَيْضا: بل اللدم اللدم، وَالْهدم الْهدم. وَأنْشد:
ثمَّ الحقي بهدمى ولدمى
فاللدم: جمع لادم، وهم أَهله الَّذين يلتدمون عَلَيْهِ إِذا مَاتَ، وَهُوَ من لدمت صدرها، إِذا ضَربته
١ ‏/ ٤٤٢
قَالَ ابْن هِشَام: وَيُقَال: الْهَدْمَ [١] الْهَدْمَ: (يَعْنِي الْحُرْمَةَ) [٢] . أَيْ ذِمَّتِي ذِمَّتُكُمْ [٣]، وَحُرْمَتِي حُرْمَتُكُمْ [٤] .
قَالَ كَعْبُ (بْنُ مَالِكٍ) [٢]: وَقَدْ (كَانَ) [٢] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَخْرِجُوا إلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، لِيَكُونُوا عَلَى قَوْمِهِمْ بِمَا فِيهِمْ. فَأَخْرَجُوا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، تِسْعَةً مِنْ الْخَزْرَجِ، وَثَلَاثَةً مِنْ الْأَوْسِ.

أَسَمَاءُ النُّقَبَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَتَمَامُ خَبَرِ الْعَقَبَةِ

(نُقَبَاءُ الْخَزْرَجِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مِنْ الْخَزْرَجِ- فِيمَا حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْن إسْحَاقَ الْمُطَّلِبِيِّ-: أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بْنُ عُدَسَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَهُوَ تَيْمُ اللَّهِ [٥] بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ، وَسَعْدُ ابْن الرَّبِيعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي زُهَيْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ ابْن الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ [٦] بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ ابْن عَمْرِو بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ (الْأَكْبَرِ) [٧] بْنِ مَالِكٍ (الْأَغَرِّ) [٧] بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ ابْن الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَادِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ ابْن زُرَيْقِ [٨] بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْبِ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَالْبَرَاءُ


[١] الْهدم (بِالْفَتْح): الْمصدر: (وبالتحريك) كل مَا تهدم.
[٢] زِيَادَة عَن أ، ط.
[٣] فِي أ: «يَقُول: حرمتي حرمتكم، وَدمِي دمكم» .
[٤] قَالَ السهيليّ: «وَإِنَّمَا كنى ابْن هِشَام عَن حُرْمَة الرجل وَأَهله «بالهدم»، لأَنهم كَانُوا أهل نجعة وارتحال، وَلَهُم بيُوت يستخفونها يَوْم ظعنهم، فَكلما ظعنوا هدموها. وَالْهدم: بِمَعْنى المهدوم.
ثمَّ جعلُوا الْهدم، وَهُوَ الْبَيْت المهدوم، عبارَة عَمَّا حوى.
[٥] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول والطبري. وَفِي أ «تيم الله بن عَمْرو … إِلَخ» .
[٦] كَذَا فِي الِاسْتِيعَاب. وَفِي أ. «وَعبد الله بن رَوَاحَة بن امْرِئ الْقَيْس بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن امْرِئ الْقَيْس بن مَالك … إِلَخ»، وَقد سَقَطت «ابْن ثَعْلَبَة» الأولى، من سَائِر الْأُصُول.
[٧] زِيَادَة عَن الِاسْتِيعَاب.
[٨] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «… ابْن عَامر بن زُرَيْق بن عَامر بن زُرَيْق … إِلَخ» .
١ ‏/ ٤٤٣
ابْن مَعْرُورِ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَعُبَادَةُ ابْن الصَّامِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ فِهْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ غَنْمُ بْنُ عَوْفٍ، أَخُو سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ أَبِي حَزِيمَةَ [١] بْنِ ثَعْلَبَةَ ابْن طَرِيفِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ خُنَيْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَوْذَانَ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ- قَالَ [٢] ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: ابْنُ خُنَيْسٍ [٣] .

(نُقَبَاءُ الْأَوْسِ):
وَمِنْ الْأَوْسِ: أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرِ بْنِ سِمَاكِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ رَافِعِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ ابْن زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ النَّحَّاطِ بْنِ كَعْبِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ السَّلْمِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ وَرِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زُبَيْرِ [٤] بْنِ زَيْدِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو ابْن عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ.


[١] فِي الْأُصُول والاستيعاب: «خُزَيْمَة» بخاء مُعْجمَة مَضْمُومَة وزاي مَفْتُوحَة، والتصويب عَن أَبى ذَر، فقد ضَبطه بالعبارة بِالْحَاء الْمُهْملَة الْمَفْتُوحَة والزاى الْمَكْسُورَة. وَزَاد ابْن عبد الْبر فِيهِ رِوَايَة، يُقَال: «وَيُقَال: ابْن أَبى حليمة» .
[٢] هَذِه الْعبارَة: «قَالَ ابْن هِشَام … خُنَيْس» سَاقِطَة فِي أ.
[٣] فِي م: «خنيش» .
[٤] كَذَا فِي أ، ط، والاستيعاب. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «زنير» .
١ ‏/ ٤٤٤
(شِعْرُ كَعْبٍ فِي حَصْرِ النُّقَبَاءِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَعُدُّونَ فِيهِمْ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التَّيِّهَانِ، وَلَا يَعُدُّونَ رِفَاعَةَ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يَذْكُرُهُمْ، فِيمَا أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ:
أَبْلِغْ أُبَيًّا أَنَّهُ فَالَ رَأْيُهُ … وَحَانَ غَدَاةَ الشِّعْبِ وَالْحَيْنُ وَاقِعُ [١] أَبَى اللَّهُ مَا مَنَّتْكَ نَفْسُكَ إنَّهُ … بِمِرْصَادِ أَمْرِ النَّاسِ رَاءٍ وَسَامِعُ
وَأَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ أَنْ قَدْ بَدَا لَنَا … بِأَحْمَدَ نُورٌ مِنْ هُدَى اللَّهِ سَاطِعُ
فَلَا تَرْغَبَنْ [٢] فِي حَشْدِ أَمْرٍ تُرِيدُهُ … وَأَلِّبْ وَجَمِّعْ كُلَّ مَا أَنْتَ جَامِعُ
وَدُونَكَ فَاعْلُمْ أَنَّ نَقْضَ عُهُودِنَا … أَبَاهُ عَلَيْكَ الرَّهْطُ حِينَ تَتَابَعُوا [٣] أَبَاهُ الْبَرَاءُ وَابْنُ عَمْرٍو كِلَاهُمَا … وَأَسْعَدُ يَأْبَاهُ عَلَيْكَ وَرَافِعُ
وَسَعْدٌ أَبَاهُ السَّاعِدِيُّ وَمُنْذِرٌ … لِأَنْفِكَ إنْ حَاوَلْتَ ذَلِكَ جَادِعُ [٤] وَمَا ابْنُ رَبِيعٍ إنْ تَنَاوَلْتَ عَهْدَهُ … بِمُسْلِمِهِ لَا يَطْمَعَنْ ثَمَّ طَامِعُ
وَأَيْضًا فَلَا يُعْطِيكَهُ ابْنُ رَوَاحَةَ … وَإِخْفَارُهُ مِنْ دُونِهِ السُّمُّ نَاقِعُ [٥] وَفَاءً بِهِ وَالْقَوْقَلِيُّ بْنُ صَامِتٍ … بِمَنْدُوحَةِ عَمَّا تُحَاوِلُ يَافِعُ [٦] أَبُو هَيْثَمٍ أَيْضًا وَفِيٌّ بِمِثْلِهَا … وَفَاءً بِمَا أَعْطَى مِنْ الْعَهْدِ خَانِعُ [٧] وَمَا ابْنُ حُضَيْرٍ إنْ أَرَدْتَ بِمَطْمَعِ … فَهَلْ أَنْتَ عَنْ أُحْمُوقَةِ الْغَيِّ نَازِعُ
وَسَعْدٌ أَخُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَإِنَّهُ … ضَرُوحٌ لِمَا حَاوَلْتَ مِلْأَمْرِ مَانِعُ [٨] أُولَاكَ نُجُومٌ لَا يُغِبُّكَ مِنْهُمْ … عَلَيْكَ بِنَحْسٍ فِي دُجَى اللَّيْلِ طَالِعُ
فَذَكَرَ كَعْبٌ فِيهِمْ «أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التَّيِّهَانِ» وَلَمْ يَذْكُرْ «رِفَاعَةَ» .


[١] فال: بَطل.
[٢] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي ط: «فَلَا ترعين»: أَي فَلَا تبقين، يُقَال: مَا أرعى عَلَيْهِ: أَي مَا أبقى عَلَيْهِ.
[٣] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «تبايعوا» .
[٤] جادع: قَاطع.
[٥] الإخفار: نقض الْعَهْد.
[٦] اليافع: الْموضع الْمُرْتَفع. ويروى: «باقع»: أَي بعيد.
[٧] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. والخانع: الْمقر المتذلل. وَفِي ط: «خَالع» .
[٨] ضروح: أَي مَانع ودافع عَن نَفسه.
١ ‏/ ٤٤٥
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِلنُّقَبَاءِ: أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كُفَلَاءُ، كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي- يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ [١]- قَالُوا: نَعَمْ.

(كَلِمَةُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُبَادَةَ فِي الْخَزْرَجِ قَبْلَ الْمُبَايَعَةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا اجْتَمَعُوا لِبَيْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ الْأَنْصَارِيُّ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، هَلْ تَدْرُونَ عَلَامَ تُبَايِعُونَ هَذَا الرَّجُلَ؟
قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: إنَّكُمْ تُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ مِنْ النَّاسِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ إذَا نُهِكَتْ أَمْوَالُكُمْ مُصِيبَةً، وَأَشْرَافُكُمْ قَتْلًا أَسْلَمْتُمُوهُ، فَمِنْ الْآنَ، فَهُوَ وَاَللَّهِ إنْ فَعَلْتُمْ خِزْيُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إلَيْهِ عَلَى نَهْكَةِ [٢] الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ، فَخُذُوهُ، فَهُوَ وَاَللَّهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالُوا: فَإِنَّا نَأْخُذُهُ عَلَى مُصِيبَةِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ، فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ نَحْنُ وَفَّيْنَا (بِذَلِكَ) [٣]؟ قَالَ: الْجَنَّةُ. قَالُوا: اُبْسُطْ يَدَكَ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعُوهُ. وَأَمَّا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا قَالَ ذَلِكَ الْعَبَّاسُ إلَّا لِيَشُدَّ الْعَقْدَ [٤] لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي أَعْنَاقِهِمْ.
وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: مَا قَالَ ذَلِكَ الْعَبَّاسُ إلَّا لِيُؤَخِّرَ الْقَوْمَ تَلِكَ اللَّيْلَةَ، رَجَاءَ أَنْ يَحْضُرَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ، فَيَكُونَ أَقْوَى لِأَمْرِ الْقَوْمِ.
فاللَّه أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ.

(نَسَبُ سَلُولَ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سَلُولُ: امْرَأَةٌ مِنْ خُزَاعَةَ، وَهِيَ أُمُّ أُبَيِّ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ


[١] هَذِه الْجُمْلَة: «يعْنى الْمُسلمين» سَاقِطَة فِي أ.
[٢] نهكة الْأَمْوَال: نَقصهَا.
[٣] زِيَادَة عَن أ.
[٤] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «الْعقل» وَهُوَ تَحْرِيف.
١ ‏/ ٤٤٦
(أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ الرَّسُولِ فِي بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَبَنُو النَّجَّارِ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ، أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِهِ، وَبَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَقُولُونَ: بَلْ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَمَّا مَعْبَدُ [١] بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فَحَدَّثَنِي فِي حَدِيثِهِ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، ثُمَّ بَايَعَ بَعْدُ [٢] الْقَوْمُ.

(تَنْفِيرُ الشَّيْطَانِ لِمَنْ بَايَعَ فِي الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ):
فَلَمَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَرَخَ الشَّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ الْعَقَبَةِ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ سَمِعْتُهُ قَطُّ: يَا أَهْلَ الْجُبَاجِبِ- وَالْجُبَاجِبُ: الْمَنَازِلُ [٣]- هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ [٤] وَالصُّبَاةُ [٥] مَعَهُ، قَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَذَا أَزَبُّ [٦] الْعَقَبَةِ، هَذَا ابْنُ أَزْيَبَ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ ابْنُ أُزَيْبٍ [٧]- أَتَسْمَعُ [٨] أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَمَا وَاَللَّهِ لَأَفْرُغَنَّ لَكَ.

(اسْتِعْجَالُ الْمُبَايِعِينَ لِلْإِذْنِ بِالْحَرْبِ):
قَالَ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ارْفَضُّوا [٩] إلَى رِحَالِكُمْ. قَالَ:


[١] كَذَا فِي ط. وَفِي أ: «قَالَ ابْن إِسْحَاق: فَحَدثني معبد بن كَعْب فِي حَدِيثه … إِلَخ» . وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ ابْن إِسْحَاق: قَالَ الزُّهْرِيّ: حَدثنِي معبد بن كَعْب بن مَالك، فَحَدثني فِي حَدِيثه … إِلَخ»
[٢] هَذِه الْكَلِمَة سَاقِطَة فِي أ، ط.
[٣] الْمنَازل: منَازِل منى. وأصل إِطْلَاق «الجباجب» على الْمنَازل، مَأْخُوذ من أَن الأوعية من الْأدم، كالزنبيل وَنَحْوه، تسمى: جبجبة، فَجعل الْخيام والمنازل لأَهْلهَا كالأوعية.
[٤] المذمم: المذموم جدا.
[٥] الصباة: جمع صابى، وَهُوَ الصَّابِئ (بِالْهَمْز) . وَكَانَ يُقَال للرجل إِذا أسلم فِي زمن النَّبِي ﷺ: «صابئ» . وَقد وَردت هَذِه الْكَلِمَة فِي الْأُصُول محرفة.
[٦] أزب الْعقبَة: اسْم شَيْطَان، ويروى بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الزاى. والأرب: الْقصير أَيْضا
[٧] فِي هَامِش الأَصْل: أزيب (الأولى): بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الزاى وَفتح الْيَاء (وَالثَّانيَِة) بِضَم الْهمزَة وَفتح الزاى وَسُكُون الْيَاء، كَمَا ضبط كَذَلِك فِي بعض النّسخ» . إِلَّا أَن هَذِه الصِّيغَة الثَّانِيَة لم ينص عَلَيْهَا فِي كتب اللُّغَة.
[٨] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول. «اسْتمع» .
[٩] ارفضوا: تفَرقُوا.
١ ‏/ ٤٤٧
فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ: وَاَللَّهِ الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ: إنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ [١] عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ ارْجِعُوا إلَى رِحَالِكُمْ. قَالَ: فَرَجَعْنَا إلَى مَضَاجِعِنَا، فَنِمْنَا عَلَيْهَا حَتَّى أَصْبَحْنَا.

(غُدُوُّ قُرَيْشٍ عَلَى الْأَنْصَارِ فِي شَأْنِ الْبَيْعَةِ):
(قَالَ) [٢]: فَلَمَّا أَصْبَحْنَا غَدَتْ عَلَيْنَا جُلَّةُ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَاءُونَا فِي مَنَازِلِنَا، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، إنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ إلَى صَاحِبِنَا هَذَا تَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وَتُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِنَا، وَإِنَّهُ وَاَللَّهِ مَا مِنْ حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ أَبْغَضُ إلَيْنَا، أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، مِنْكُمْ. قَالَ: فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَاكَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِنَا يَحْلِفُونَ باللَّه مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، وَمَا عَلِمْنَاهُ. قَالَ: وَقَدْ صَدَقُوا، لَمْ يَعْلَمُوهُ. قَالَ: وَبَعْضُنَا يَنْظُرُ إلَى بَعْضٍ. قَالَ: ثُمَّ قَامَ الْقَوْمُ، وَفِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَعَلَيْهِ نَعْلَانِ لَهُ جَدِيدَانِ [٣] . قَالَ فَقُلْتُ لَهُ كَلِمَةً- كَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشْرَكَ الْقَوْمَ بِهَا فِيمَا قَالُوا-: يَا أَبَا جَابِرٍ، أَمَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَّخِذَ، وَأَنْتَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا، مِثْلَ نَعْلَيْ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ؟
قَالَ: فَسَمِعَهَا الْحَارِثُ، فَخَلَعَهُمَا مِنْ رِجْلَيْهِ ثُمَّ رَمَى بِهِمَا إلَيَّ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ لِتَنْتَعِلَنَّهُمَا. قَالَ: يَقُولُ: أَبُو جَابِرٍ: مَهْ، أَحْفَظْتَ [٤] وَاَللَّهِ الْفَتَى، فَارْدُدْ إلَيْهِ نَعْلَيْهِ. قَالَ: قُلْتُ: وَاَللَّهِ لَا أَرُدُّهُمَا [٥]، فَأْلٌ وَاَللَّهِ صَالِحٌ، لَئِنْ صَدَقَ الْفَأْلُ لَأَسْلُبَنَّهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّهُمْ أَتَوْا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ


[١] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «لتميلن» بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة.
[٢] زِيَادَة عَن أ.
[٣] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي أ: «جديدتان» قَالَ السهيليّ: «… والنعل مُؤَنّثَة، وَلَكِن لَا يُقَال: جَدِيدَة فِي الفصيح من الْكَلَام، وَإِنَّمَا يُقَال: ملحفة جَدِيد، لِأَنَّهَا فِي معنى مجدودة، أَي مَقْطُوعَة فَهِيَ من بَاب: كف خضيب، وَامْرَأَة قَتِيل. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَمن قَالَ: جَدِيدَة، فَإِنَّمَا أَرَادَ معنى حَدِيثَة.
أَرَادَ سِيبَوَيْهٍ أَن حَدِيثَة بِمَعْنى حَادِثَة، وكل فعيل بِمَعْنى فَاعل يدْخلهُ التَّاء فِي الْمُؤَنَّث» .
[٤] أحفظت: أغضبت.
[٥] فِي أ: «قَالَ» . وَهُوَ تَصْحِيف.
١ ‏/ ٤٤٨
ابْن سَلُولَ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ كَعْبٌ مِنْ الْقَوْلِ، فَقَالَ لَهُمْ: (وَاَللَّهِ) [١] إنَّ هَذَا الْأَمْرَ جَسِيمٌ، مَا كَانَ قَوْمِي لِيَتَفَوَّتُوا [٢] عَلَيَّ بِمِثْلِ هَذَا، وَمَا عَلِمْتُهُ كَانَ. قَالَ:
فَانْصَرَفُوا عَنْهُ.

(خُرُوجُ قُرَيْشٍ فِي طَلَبِ الْأَنْصَارِ):
قَالَ: وَنَفَرَ النَّاسُ مِنْ مِنًى، فَتَنَطَّسَ [٣] الْقَوْمُ الْخَبَرَ، فَوَجَدُوهُ قَدْ كَانَ، وَخَرَجُوا فِي طَلَبِ الْقَوْمِ، فَأَدْرَكُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بِأَذَاخِرَ [٤]، وَالْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو، أَخَا بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَكِلَاهُمَا كَانَ نَقِيبًا. فَأَمَّا الْمُنْذِرُ فَأَعْجَزَ الْقَوْمَ، وَأَمَّا سَعْدٌ فَأَخَذُوهُ، فَرَبَطُوا يَدَيْهِ إلَى عُنُقِهِ بِنِسْعِ [٥] رَحْلِهِ، ثُمَّ أَقْبَلُوا بِهِ حَتَّى أَدْخَلُوهُ مَكَّةَ يَضْرِبُونَهُ، وَيَجْذِبُونَهُ بِجُمَّتِهِ [٦]، وَكَانَ ذَا شَعَرٍ كَثِيرٍ.

(خَلَاصُ ابْنِ عُبَادَةَ مِنْ أَسْرِ قُرَيْشٍ، وَمَا قِيلَ فِي ذَلِكَ مِنْ شِعْرٍ):
قَالَ سعد: فو الله إنِّي لَفِي أَيْدِيهمْ إذْ طَلَعَ عَلَيَّ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ رَجُلٌ وَضِيءٌ أَبْيَضُ، شَعْشَاعٌ، حُلْوٌ مِنْ الرِّجَالِ [٧] .
قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إنْ يَكُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْقَوْمِ خَيْرٌ، فَعِنْدَ هَذَا، قَالَ:
فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَفَعَ يَدَهُ فَلَكَمَنِي [٨] لَكْمَةً شَدِيدَةً. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَا وَاَللَّهِ


[١] زِيَادَة عَن أ.
[٢] تفوت عَلَيْهِ بِكَذَا: فَاتَهُ بِهِ.
[٣] تنطس الْقَوْم الْخَبَر: أَي أَكْثرُوا الْبَحْث عَنهُ. والتنطس: تدقيق النّظر. قَالَ الراجز:
وَقد أكون عِنْدهَا نقريسا … طِبًّا بأدواء النسا نطيسا
[٤] قَالَ ياقوت: «أذاخر (بِالْفَتْح وَالْخَاء الْمُعْجَمَة مَكْسُورَة) قَالَ ابْن إِسْحَاق: لما وصل رَسُول الله ﷺ إِلَى مَكَّة عَام الْفَتْح دخل من أذاخر، حَتَّى نزل بِأَعْلَى مَكَّة، وَضربت هُنَاكَ قُبَّته» .
[٥] النسع: الشرَاك الّذي يشد بِهِ الرحل.
[٦] الجمة: مُجْتَمع شعر الرَّأْس، وَهِي أَكثر من الوفرة، وَالْجمع: جمم.
[٧] كَذَا فِي أ. وَقد زَادَت سَائِر الْأُصُول بَين كلمتي «الرِّجَال» و«قَالَ» الْعبارَة الْآتِيَة: قَالَ ابْن هِشَام: الشعشاع الطَّوِيل الْحسن. قَالَ رؤبة:
يمطوه من شعشاع غير مودن
يعْنى: عنق الْبَعِير غير قصير، يَقُول: مودن الْيَد، أَي نَاقص الْيَد. يمطوه من السّير شعشاع حُلْو من الرِّجَال» .
[٨] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. واللكم: الضَّرْب بِجمع الْكَفّ. وَفِي أ: «لطمني» .
٢٩- سيرة ابْن هِشَام- ١
١ ‏/ ٤٤٩
مَا عِنْدَهُمْ بَعْدَ هَذَا مِنْ خير. قَالَ: فو الله إنِّي لَفِي أَيْدِيهِمْ يَسْحَبُونَنِي إذْ أَوَى [١] لِي رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُمْ، فَقَالَ وَيْحَكَ! أَمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ قُرَيْشٍ جِوَارٌ وَلَا عَهْدٌ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، وَاَللَّهِ، لَقَدْ كُنْتُ أُجِيرُ لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ ابْن نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ تِجَارَةً [٢]، وَأَمْنَعُهُمْ مِمَّنْ أَرَادَ ظُلْمَهُمْ بِبِلَادِي، وَلِلْحَارِثِ ابْن حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، قَالَ: وَيْحَكَ! فَاهْتِفْ بِاسْمِ الرَّجُلَيْنِ، وَاذْكُرْ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمَا. قَالَ: فَفَعَلْتُ، وَخَرَجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إلَيْهِمَا، فَوَجَدَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُمَا: إنَّ رَجُلًا مِنْ الْخَزْرَجِ الْآنَ يُضْرَبُ بِالْأَبْطَحِ وَيَهْتِفُ [٣] بِكُمَا، وَيَذْكُرُ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمَا جِوَارًا، قَالَا: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، قَالَا: صَدَقَ وَاَللَّهِ، إنْ كَانَ لَيُجِيرُ لَنَا تِجَارَنَا، وَيَمْنَعُهُمْ أَنْ يُظْلَمُوا بِبَلَدِهِ. قَالَ: فَجَاءَا فَخَلَّصَا سَعْدًا مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَانْطَلَقَ. وَكَانَ الَّذِي لَكَمَ [٤] سَعْدًا، سُهَيْلَ بن عَمْرو، أَخُو [٥] بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ الرَّجُلُ الَّذِي أَوَى إلَيْهِ، أَبَا الْبَخْتَرِيِّ بْنَ هِشَامٍ [٦] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَوَّلُ شِعْرٍ قِيلَ فِي الْهِجْرَةِ بَيْتَيْنِ، قَالَهُمَا ضِرَارُ [٧] بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ مِرْدَاسٍ، أَخُو بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ (فَقَالَ):
تَدَارَكْتَ سَعْدًا [٨] عَنْوَةً فَأَخَذْتَهُ


[١] أَوَى لَهُ: رَحمَه ورق لَهُ. قَالَ الشَّاعِر: «
لَو أننى استأويته مَا أَوَى ليا
»
[٢] كَذَا فِي أ، ط. والتجار (بِكَسْر فَفتح، وبضم التَّاء مَعَ تَشْدِيد الْجِيم وَفتحهَا): جمع تَاجر.
وَفِي سَائِر الْأُصُول: «تِجَارَة» وَهُوَ تَحْرِيف.
[٣] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «ليهتف» .
[٤] فِي أ: «لطم» .
[٥] فِي أ: «أحد» .
[٦] فِي أ: «هَاشم» .
[٧] كَانَ ضرار شَاعِر قُرَيْش وفارسها، وَلم يكن فِي قُرَيْش أشعر مِنْهُ، ثمَّ ابْن الزبعري. وَكَانَ جد ضرار، وَهُوَ مرداس، رَئِيس بنى محَارب بن فهر فِي الْجَاهِلِيَّة، يسير فيهم بالرباع، وَهُوَ ربع الْغَنِيمَة، وَكَانَ أَبوهُ أَيَّام الْفجار رَئِيس بنى محَارب بن فهر. وَأسلم ضرار عَام الْفَتْح.
[٨] فِي الرَّوْض الْأنف: «عَمْرو» وَقَالَ السهيليّ فِي التَّعْلِيق عَلَيْهِ: يعْنى «بعمر»: عَمْرو بن خُنَيْس وَالِد الْمُنْذر. يَقُول: لست إِلَيْهِ وَلَا إِلَى ابْنه الْمُنْذر، أَي أَنْت أقل من ذَلِك.
١ ‏/ ٤٥٠
وَكَانَ شِفَاءً لَوْ تَدَارَكْتَ مُنْذِرَا [١] … وَلَوْ نِلْتُهُ طُلَّتْ هُنَاكَ جِرَاحُهُ [٢] وَكَانَتْ حَرِيًّا أَنْ يُهَانَ وَيُهْدَرَا [٣] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى:
وَكَانَ حَقِيقًا أَنْ يُهَانَ وَيُهْدَرَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِيهِمَا [٤] فَقَالَ:
لَسْتَ إلَى سَعْدٍ وَلَا الْمَرْءِ مُنْذِرٍ … إذَا مَا مَطَايَا الْقَوْمِ أَصْبَحْنَ ضُمَّرَا
فَلَوْلَا أَبُو وَهْبٍ لَمَرَّتْ قَصَائِدٌ … عَلَى شَرَفِ الْبَرْقَاءِ يَهْوِينَ حُسَّرًا [٥] أَتَفْخُرُ بِالْكَتَّانِ لَمَّا لَبِسْتَهُ … وَقَدْ تَلْبَسُ الْأَنْبَاطُ رَيْطًا مُقَصَّرَا [٦] فَلَا تَكُ كَالْوَسْنَانِ يَحْلُمُ أَنَّهُ … بِقَرْيَةِ كِسْرَى أَوْ بِقَرْيَةِ قَيْصَرَا [٧] وَلَا تَكُ كَالثَّكْلَى وَكَانَتْ بِمَعْزِلٍ … عَنْ الثُّكْلِ لَوْ كَانَ الْفُؤَادُ تَفَكَّرَا [٨] وَلَا تَكُ كَالشَّاةِ الَّتِي كَانَ حتفها … بِحَفر ذِرَاعَيْهَا فَلَمْ تَرْضَ مَحْفَرَا [٩] وَلَا تَكُ كَالْعَاوِي فَأَقْبَلَ نَحْرَهُ … وَلَمْ يَخْشَهُ، سَهْمًا مِنْ النَّبْلِ مُضْمَرَا [١٠]
[١] عنْوَة: قسرا وقهرا. وَيُرِيد «الْمُنْذر» الْمُنْذر بن عَمْرو الّذي تقدم ذكره مَعَ سعد بن عبَادَة، والّذي أعجز الْقَوْم فَلم يلحقوه. يلومهما لتخليصهما سَعْدا، ويتمنى أَن لَو كَانَ سعيهما لطلب الْمُنْذر واللحاق بِهِ، لَا إِلَى تَخْلِيص سعد.
[٢] يُقَال: طل دَمه (بِالْبِنَاءِ للْمَجْهُول وبالبناء للمعلوم، وَالْأول أَكثر): إِذا هدر وَلم يثأر بِهِ.
[٣] فِي أ:
وَكَانَ جراحا أَن تهان وتهدرا
[٤] هَذِه الْكَلِمَة سَاقِطَة فِي أ.
[٥] قَالَ ياقوت: «البرقاء فِي الْبَادِيَة. قَالَ الراجز: «
يتْرك بالبرقاء شَيخا قد ثلب
» أَي سَاءَ جِسْمه وهزل. وحسرا: أضناها الإعياء.
[٦] الأنباط: قوم من الْعَجم. والريط: الملاحف الْبيض، الْوَاحِدَة: ريطة.
[٧] الْوَسْنَان: النَّائِم. وكسرى: لقب ملك الْفرس، وَقَيْصَر: لقب ملك الرّوم.
[٨] الثكلى: الَّتِي فقدت وَلَدهَا.
[٩] يُشِير بِهَذَا الْبَيْت إِلَى الْمثل الْقَدِيم فِيمَن أثار على نَفسه شرا: كالباحث عَن المدية.
وَأنْشد أَبُو عُثْمَان عَمْرو بن بَحر:
وَكَانَ يجير النَّاس من سيف مَالك … فَأصْبح يبغى نَفسه من يجيرها
وَكَانَ كعنز السوء قَامَت بظلفها … إِلَى مدية تَحت التُّرَاب تثيرها
[١٠] فِي ديوَان حسان طبع أوربا:
فَلَا تَكُ كالغاوى … إِلَخ
١ ‏/ ٤٥١
فَإِنَّا وَمَنْ يُهْدِي الْقَصَائِدَ نَحْوَنَا … كَمُسْتَبْضِعٍ تَمْرًا إلَى أَرْضِ [١] خَيْبَرَا [٢]

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

ذِكْرُ سَرْدِ النَّسَبِ الزَّكِيِّ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، إلَى آدَمَ عليه السلام -2

ذِكْرُ وَلَدِ نِزَارِ بْنِ مَعَدٍّ (أَوْلَادُهُ فِي رَأْيِ ابْنِ إسْحَاقَ وَابْنِ هِشَامٍ): قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: …