قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى بَنِي النَّضِيرِ [١] يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِكَ الْقَتِيلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، اللَّذَيْنِ قَتَلَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، لِلْجِوَارِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَقَدَ لَهُمَا، كَمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، وَكَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَيْنَ بَنِي عَامِرٍ عَقْدٌ وَحِلْفٌ.
فَلَمَّا أَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِكَ الْقَتِيلَيْنِ، قَالُوا نَعَمْ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، نُعِينُكَ عَلَى مَا أَحْبَبْتُ، مِمَّا اسْتَعَنْتُ بِنَا عَلَيْهِ. ثُمَّ خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ، فَقَالُوا: إنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا الرَّجُلَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ هَذِهِ- وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ قَاعِدٌ- فَمَنْ رَجُلٌ يَعْلُو عَلَى هَذَا الْبَيْتِ، فَيُلْقِي عَلَيْهِ صَخْرَةً، فَيُرِيحُنَا مِنْهُ؟ فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ عَمْرُو بْنُ جَحَّاشِ بْنِ كَعْبٍ، أَحَدَهُمْ، فَقَالَ: أَنَا لِذَلِكَ، فَصَعِدَ لِيُلْقِيَ عَلَيْهِ صَخْرَةً كَمَا قَالَ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
(انْكِشَافُ نِيَّتِهِمْ لِلرَّسُولِ وَاسْتِعْدَادُهُ لِحَرْبِهِمْ):
فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الْخَبَرُ مِنْ السَّمَاءِ بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ، فَقَامَ وَخَرَجَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا اسْتَلْبَثَ النَّبِيَّ ﷺ أَصْحَابُهُ، قَامُوا فِي طَلَبِهِ، فَلَقُوا رَجُلًا مُقْبِلًا مِنْ الْمَدِينَةِ، فَسَأَلُوهُ عَنْهُ، فَقَالَ: رَأَيْتُهُ دَاخِلًا الْمَدِينَةَ. فَأَقْبَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، حَتَّى انْتَهَوْا إلَيْهِ ﷺ، فَأَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ، بِمَا كَانَتْ الْيَهُودُ أَرَادَتْ مِنْ الْغَدْرِ بِهِ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالتَّهَيُّؤِ لِحَرْبِهِمْ، وَالسَّيْرِ إلَيْهِمْ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: [٢]: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ.
[٢] فِي أ: «فِيمَا قَالَ ابْن هِشَام» وَقد وَردت هَذِه الْعبارَة بعقب كلمة «مَكْتُوم» .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَحَاصَرَهُمْ سِتَّ لَيَالٍ، وَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ
(حِصَارُ الرَّسُولِ لَهُمْ وَتَقْطِيعُ نَخْلِهِمْ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي الْحُصُونِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَطْعِ النَّخِيلِ وَالتَّحْرِيقِ فِيهَا، فَنَادَوْهُ: أَنْ يَا مُحَمَّدُ، قَدْ كُنْتَ تَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ، وَتَعِيبُهُ عَلَى مَنْ صَنَعَهُ، فَمَا بَالُ قَطْعِ النَّخْلِ وَتَحْرِيقِهَا [٢]؟
(تَحْرِيضُ الرَّهْطِ لَهُمْ ثُمَّ مُحَاوَلَتُهُمْ الصُّلْحَ):
وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، مِنْهُمْ (عَدُوُّ اللَّهِ) [٣] عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ (و[٤]) وَدِيعَةُ وَمَالِكُ بْنُ أَبِي قَوْقَلٍ، وَسُوَيْدُ وَدَاعِسٌ، قَدْ بَعَثُوا إلَى بَنِي النَّضِيرِ: أَنْ اُثْبُتُوا وَتَمَنَّعُوا، فَإِنَّا لَنْ نُسَلِّمَكُمْ، إنْ قُوتِلْتُمْ [٥] قَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ خَرَجْنَا مَعَكُمْ، فَتَرَبَّصُوا ذَلِكَ مِنْ نَصْرِهِمْ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ، وَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُجْلِيَهُمْ وَيَكُفَّ عَنْ دِمَائِهِمْ، عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إلَّا الْحَلْقَةَ [٦]، فَفَعَلَ. فَاحْتَمَلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ الْإِبِلُ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَهْدِمُ بَيْتَهُ عَنْ نِجَافِ [٧] بَابِهِ، فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ فَيَنْطَلِقُ بِهِ. فَخَرَجُوا إلَى خَيْبَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ إلَى الشَّامِ.
(مَنْ هَاجَرَ مِنْهُمْ إلَى خَيْبَرَ):
فَكَانَ أَشْرَافُهُمْ مَنْ سَارَ مِنْهُمْ [٨] إلَى خَيْبَرَ: سَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ، وَكِنَانَةُ ابْن الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ. فَلَمَّا نَزَلُوهَا دَانَ لَهُمْ أَهْلُهَا.
[٢] قَالَ السهيليّ: «قَالَ أهل التَّأْوِيل: وَقع فِي نفوس الْمُسلمين من هَذَا الْكَلَام شَيْء حَتَّى أنزل الله تَعَالَى: «مَا قَطَعْتُمْ من لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها ٥٩: ٥ …» الْآيَة.
[٣] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ
[٤] زِيَادَة عَن أ.
[٥] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قتلتم» وَهِي ظَاهِرَة التحريف.
[٦] الْحلقَة: السِّلَاح كُله، أَو خَاص بالدروع.
[٧] النجاف (بِوَزْن كتاب): العتبة الَّتِي بِأَعْلَى الْبَاب. والأسكفة: العتبة الَّتِي بأسفله.
[٨] هَذِه الْكَلِمَة سَاقِطَة فِي أ.
(تَقْسِيمُ الرَّسُولِ أَمْوَالَهُمْ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ):
وَخَلَّوْا الْأَمْوَالَ لرَسُول الله ﷺ، فَكَانَت لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَاصَّةً، يَضَعُهَا حَيْثُ يَشَاءُ، فَقَسَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ دُونَ الْأَنْصَارِ. إلَّا أَنَّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ وَأَبَا دُجَانَةَ سِمَاكَ ابْن خَرَشَةَ ذَكَرَا فَقْرًا، فَأَعْطَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ [٣] .
(مَنْ أَسْلَمَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ):
وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ إلَّا رَجُلَانِ: يَامِينُ بْنُ عُمَيْرٍ، أَبُو [٤] كَعْبِ بْنُ عَمْرِو ابْن جِحَاشٍ، وَأَبُو سَعْدِ بْنُ وَهْبٍ، أَسْلَمَا عَلَى أَمْوَالِهِمَا فَأَحْرَزَاهَا.
(تَحْرِيضُ يَامِينَ عَلَى قَتْلِ ابْنِ جِحَاشٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ- وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ يَامِينَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِيَامِينَ: أَلَمْ تَرَ مَا لَقِيتُ مِنْ ابْنِ عَمِّكَ، وَمَا هُمْ بِهِ مِنْ شَأْنِي؟ فَجَعَلَ يَامِينُ ابْن عُمَيْرٍ لِرَجُلِ جُعْلًا عَلَى أَنْ يَقْتُلَ لَهُ عَمْرَو بْنَ جِحَاشٍ، فَقَتَلَهُ فِيمَا يَزْعُمُونَ.
(مَا نَزَلَ فِي بَنِي النَّضِيرِ مِنْ الْقُرْآنِ):
وَنَزَلَ فِي بَنِي النَّضِيرِ سُورَةُ الْحَشْرِ بِأَسْرِهَا، يَذْكُرُ فِيهَا مَا أَصَابَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ نِقْمَتِهِ. وَمَا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ بِهِ رَسُولَهُ ﷺ، وَمَا عَمِلَ بِهِ فِيهِمْ، فَقَالَ
[٢] الزهاء: الْإِعْجَاب والتكبر.
[٣] قَالَ السهيليّ: «وَقَالَ غير ابْن إِسْحَاق: وَأعْطى ثَلَاثَة من الْأَنْصَار» .
[٤] فِي الْأُصُول: «ابْن» والتصويب عَن شرح السِّيرَة لأبى ذَر.
(تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: اللِّينَةُ: مِنْ الْأَلْوَانِ، وَهِيَ مَا لَمْ تَكُنْ بَرْنِيَّةَ وَلَا عَجْوَةً مِنْ النَّخْلِ، فِيمَا حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ [٢] . قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
كَأَنَّ قُتُودِي فَوْقَهَا عُشُّ طَائِرٍ … عَلَى لِينَةٍ سَوْقَاءَ تَهْفُو جُنُوبُهَا [٣]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
«وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ٥٩: ٦» – قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: يَعْنِي مِنْ بَنِي النَّضِيرِ- «فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ، وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ، وَالله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٥٩: ٦»: أَيْ لَهُ خَاصَّةً.
(تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أوْجَفْتُمْ: حَرَّكْتُمْ وَأَتْعَبْتُمْ فِي السَّيْرِ. قَالَ تَمِيمُ بْنُ أُبَيِّ بْنِ مُقْبِلٍ أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ:
[٢] فِي أ: «قَالَ ابْن هِشَام: قَالَ أَبُو عُبَيْدَة» .
[٣] القتود: الرحل مَعَ أدواته. وسوقاء: غَلِيظَة السَّاق. وتهفو: تهتز وتضطرب وجنوبها:
نَوَاحِيهَا.
١٣- سيرة ابْن هِشَام- ٢
مُسْنِفَاتٌ كَأَنَّهُنَّ قَنَا الْهِنْدِ … لِطُولِ الْوَجِيفِ جَدْبَ الْمَرُودِ [٤] وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: السِّنَافُ: الْبِطَانُ [٥] . وَالْوَجِيفُ (أَيْضًا): وَجِيفُ الْقَلْبِ وَالْكَبِدِ، وَهُوَ الضَّرَبَانُ. قَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ الظَّفَرِيُّ:
إنَّا وَإِنْ قَدَّمُوا الَّتِي عَلِمُوا [٦] … أَكْبَادُنَا مِنْ وَرَائِهِمْ تَجِفُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
«مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ٥٩: ٧» – قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: مَا يُوجِفُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَفُتِحَ بِالْحَرْبِ عَنْوَةً فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ- «وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ٥٩: ٧» . يَقُولُ: هَذَا قِسْمٌ آخَرُ فِيمَا أُصِيبَ بِالْحَرْبِ [٧] بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى مَا وَضَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا ٥٩: ١١ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَأَصْحَابَهُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ أَمْرِهِمْ يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ٥٩: ١١: يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ، إلَى قَوْلِهِ
[٢] زِيَادَة عَن أ.
[٣] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «زيد» وَهُوَ تَحْرِيف.
[٤] مسنفات: مشدودات بالسنف، وَهُوَ الحزام. والجدب: القفر، والمرود: الْموضع الّذي يرتاده الرائد، أَي الطَّالِب للرعي.
[٥] البطان: حزَام منسوج.
[٦] فِي م، ر: «عمِلُوا.» .
[٧] فِي م، ر: «الْحَرْب» .
إلَى قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ، فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ، إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ، فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها، وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ ٥٩: ١٦- ١٧.
(مَا قِيلَ فِي بَنِي النَّضِيرِ مِنْ الشِّعْرِ):
وَكَانَ مِمَّا قِيلَ فِي بَنِي النَّضِيرِ مِنْ الشِّعْرِ قَوْلُ ابْنِ لُقَيْمٍ الْعَبْسِيِّ، وَيُقَالُ:
قَالَهُ قَيْسُ بْنُ بَحْرِ بْنِ طَرِيفٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَيْسُ بْنُ بَحْرٍ الْأَشْجَعِيُّ- فَقَالَ:
أَهْلِي فِدَاءٌ لِامْرِئٍ غَيْرِ هَالِكٍ … أَحَلَّ الْيَهُودَ بِالْحَسِيِّ الْمُزَنَّمِ [١]
يَقِيلُونَ فِي جَمْرِ الغَضَاةِ وَبُدِّلُوا [٢] … أُهَيْضِبُ [٣] عُودى [٤] بِالْوَدِيِّ الْمُكَمَّمِ [٥]
فَإِنْ يَكُ ظَنِّيُّ صَادِقًا بِمُحَمَّدٍ … تَرَوْا خَيْلَهُ بَيْنَ الصَّلَا وَيَرَمْرَمَ [٦]
وَقَالَ السهيليّ: «يُرِيد أحلّهُم دَار غربَة فِي غير عَشَائِرهمْ، والزنيم والمزنم: الرجل يكون فِي الْقَوْم وَلَيْسَ مِنْهُم، أَي أنزلهم بِمَنْزِلَة الْحسي، أَي المبعد الطريد، وَإِنَّمَا جعل الطريد الذَّلِيل حسيا، لِأَنَّهُ عرضة الْأكل. والحسي والحسو: مَا يحسى من الطَّعَام حسوا، أَي أَنه لَا يمْتَنع على آكل.
وَيجوز أَن يُرِيد بالحسى معنى الغذى من الْغنم، وَهُوَ الصَّغِير الضَّعِيف. الّذي لَا يَسْتَطِيع الرَّعْي، يُقَال: بدلُوا بِالْمَالِ الدثر وَالْإِبِل الكوم رذال المَال وغذاء الْغنم والمزنم مِنْهُ. فَهَذَا وَجه يحْتَمل. وَقد أكثرت التنقير عَن الْحسي فِي مظانه من اللُّغَة فَلم أجد نصا شافيا أَكثر من قَول أَبى على: الحسية والحسي: مَا يحسى من الطَّعَام. وَإِذا قد وجدنَا الغذى، وَاحِدَة غذَاء الْغنم، فالحسى فِي مَعْنَاهُ غير مُمْتَنع أَن يُقَال، وَالله أعلم. والمزنم (أَيْضا) صغَار الْإِبِل» .
وَقد يكون الْحسي أَيْضا: الْغُصْن من النَّبَات. وَيكون المزنم مَا لَهُ زنم وَهُوَ الْوَرق.
[٢] كَذَا فِي أ. والغضاة: وَاحِدَة الغضى، وَهُوَ شجر. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «الْعضَاة» وَهُوَ شجر أَيْضا، الْوَاحِدَة: عضة.
[٣] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول وَشرح السِّيرَة لأبى ذَر. والأهيضب: الْمَكَان الْمُرْتَفع. وَفِي أ «أهيصب» بالصَّاد الْمُهْملَة.
[٤] كَذَا فِي أ. قَالَ أَبُو ذَر: «غودى»: اسْم مَوضِع. وَمن رَوَاهُ: عودا، فَهُوَ من عَاد يعود، أَو الصَّوَاب رِوَايَة من رَوَاهُ: «عودي» . وَفِي سَائِر الْأُصُول: «عورى» .
[٥] الودي: صغَار النّخل. والمكمم: الّذي خرج طلعه.
[٦] الصلا ويرمرم: موضعان.
عَلَيْهِنَّ أَبْطَالٌ مَسَاعِيرُ فِي الْوَغَى … يَهُزُّونَ أَطْرَافَ الْوَشِيجِ الْمُقَوَّمِ [١] وَكُلَّ رَقِيقِ الشَّفْرَتَيْنِ مُهَنَّدٌ … تُوُورِثْنَ مِنْ أَزْمَانِ عَادٍ وَجُرْهُمِ
فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي قُرَيْشًا رِسَالَةً … فَهَلْ بَعْدَهُمْ فِي الْمَجْدِ مِنْ مُتَكَرِّمِ
بِأَنَّ أَخَاكُمْ فَاعْلَمُنَّ مُحَمَّدًا … تَلِيدُ النَّدَى بَيْنَ الْحَجُونِ وَزَمْزَمِ [٢] فَدِينُوا لَهُ بِالْحَقِّ تَجْسُمُ أُمُورُكُمْ … وَتَسْمُوا مِنْ الدُّنْيَا إلَى كُلِّ مُعْظَمِ [٣] نَبِيٌّ تَلَاقَتْهُ مِنْ اللَّهِ رَحْمَةٌ … وَلَا تَسْأَلُوهُ أَمْرَ غَيْبٍ مُرَجَّمِ [٤] فَقَدْ كَانَ فِي بَدْرٍ لعمري عِبْرَة … لكم يَا قُرَيْشًا وَالْقَلِيبِ الْمُلَمَّمِ [٥] غَدَاةَ أَتَى فِي الْخَزْرَجِيَّةِ عَامِدًا … إلَيْكُمْ مُطِيعًا لِلْعَظِيمِ الْمُكَرَّمِ
مُعَانًا بِرُوحِ الْقُدْسِ يُنْكَى عَدُوُّهُ … رَسُولًا مِنْ الرَّحْمَنِ حَقًّا بِمَعْلَمِ [٦] رَسُولًا مِنْ الرَّحْمَنِ يَتْلُو كِتَابَهُ … فَلَمَّا أَنَارَ الْحَقُّ لَمْ يَتَلَعْثَمْ [٧] أَرَى أَمْرَهُ يَزْدَادُ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ … عُلُوًّا لِأَمْرِ حَمَّهُ اللَّهُ مُحْكَمِ [٨] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَمْرُو بْنُ بُهْثَةَ، مِنْ غَطَفَانَ. وَقَوْلُهُ «بِالْحَسِيِّ الْمُزَنَّمِ»، عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يَذْكُرُ إجْلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَتْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَهَا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فِيمَا ذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْهُمْ يَعْرِفُهَا لِعَلِيٍّ:
[٢] تليد. قديم. والندى: الْكَرم. والحجون: مَوضِع بِمَكَّة.
[٣] فدينوا، أَي أطِيعُوا. وتجسم: تعظم. وتسمو: ترفع.
[٤] المرجم: المظنون الّذي لَا يتَيَقَّن.
[٥] الملمم: الْمَجْمُوع.
[٦] روح الْقُدس: جِبْرِيل عليه السلام. وينكى عدوه: يُبَالغ فِي ضَرَره. والمعلم: الْموضع الْمُرْتَفع المشرف.
[٧] لم يتلعثم: لم يتَأَخَّر وَلم يتَوَقَّف.
[٨] حمه: قدره.
رَسَائِلُ تُدْرَسُ فِي الْمُؤْمِنِينَ … بِهِنَّ اصْطَفَى أَحْمَدَ الْمُصْطَفَى
فَأَصْبَحَ أَحْمَدُ فِينَا عَزِيزًا … عَزِيزَ الْمُقَامَةِ وَالْمَوْقِفِ [٣] فَيَأَيُّهَا الْمُوعِدُوهُ سَفَاهًا … وَلَمْ يَأْتِ جَوْرًا وَلَمْ يَعْنُفْ [٤] أَلَسْتُمْ تَخَافُونَ أَدْنَى الْعَذَابِ … وَمَا آمِنُ اللَّهِ كَالْأَخْوَفِ
وَأَنْ تُصْرَعُوا تَحْتَ أَسْيَافِهِ … كَمَصْرَعِ كَعْبٍ أَبِي الْأَشْرَفِ
غَدَاةَ رَأَى اللَّهُ طُغْيَانَهُ … وَأَعْرَضَ كَالْجَمَلِ الْأَجْنَفِ [٥] فَأَنْزَلَ جِبْرِيلَ فِي قَتْلِهِ … بِوَحْيٍ إلَى عَبْدِهِ مُلْطَفِ
فَدَسَّ الرَّسُولُ رَسُولًا لَهُ … بِأَبْيَضَ ذِي هَبَّةٍ مُرْهَفِ [٦] فَبَاتَتْ عُيُونٌ لَهُ مُعْوِلَاتٍ … مَتَى يُنْعَ كَعْبٌ لَهَا تَذْرِفْ [٧] وَقُلْنَ لِأَحْمَدَ ذَرْنَا قَلِيلًا … فَإِنَّا مِنْ النَّوْحِ لَمْ نَشْتَفِ
فَخَلَّاهُمْ ثُمَّ قَالَ اظْعَنُوا … دُحُورًا عَلَى رَغْمِ الْآنُفِ [٨] وَأَجْلَى النَّضِيرَ إلَى غُرْبَةٍ … وَكَانُوا بِدَارٍ ذَوِي زُخْرُفِ [٩] إِلَى أَذْرُعَات ردا فِي وَهُمْ … عَلَى كُلِّ ذِي دَبَرٍ أَعْجَفِ [١٠]
[٢] فِي أ: «الْآي» .
[٣] المقامة (بِضَم الْمِيم): مَوضِع الْإِقَامَة.
[٤] الموعدوه: المهددوه. والسفاة: الضلال. وَلم يعنف: لم يَأْتِ غير الرّفق.
[٥] الأجنف: المائل إِلَى جِهَة.
[٦] بأبيض: يعْنى سَيْفا. وَالْهِبَة: الاعتزاز. والمرهف: الْقَاطِع.
[٧] معولات: باكيات بِصَوْت. وينعى: يذكر خبر قَتله. وتذرف: تسيل بالدموع.
[٨] اظعنوا: ارحلوا. والدحور (بِالدَّال الْمُهْملَة): الذل والهوان. وعَلى رغم الآنف: على المذلة، يُقَال: أرْغم الله أَنفه، إِذا أذله. والآنف: جمع أنف.
[٩] الغربة (بِضَم الْغَيْن): الاغتراب. (وبفتح الْغَيْن): الْبعد. والزخرف: الزِّينَة وَحسن التنعم.
[١٠] أَذْرُعَات: مَوضِع بِالشَّام. وردا فِي: أَي مرتدفين يردف بَعضهم بعض، الْوَاحِد: رد فِي (كسْرَى وسكارى) . ويروى: ردافا، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنى. وَذُو دبر أعجف: يعْنى جملا. ودبر: جرح.
والأعجف: الهزيل الضَّعِيف.
إنْ تَفْخَرُوا فَهُوَ فَخْرٌ لَكُمْ … بِمَقْتَلِ كَعْبٍ أَبِي الْأَشْرَفِ
غَدَاةَ غَدَوْتُمْ عَلَى حَتْفِهِ … وَلَمْ يَأْتِ غَدِرًا وَلَمْ يُخْلِفْ
فَعَلَّ اللَّيَالِيَ وَصَرَفَ الدُّهُورَ … يُدِيلُ [٢] مِنْ الْعَادِلِ الْمُنْصِفِ [٣] بِقَتْلِ النَّضِيرِ وَأَحْلَافِهَا … وَعَقْرِ النَّخِيلِ وَلَمْ تُقْطَفْ [٤] فَإِنْ لَا أَمُتْ نَأْتِكُمْ بِالْقَنَا … وَكُلُّ حُسَامٍ مَعًا مُرْهَفِ [٥] بِكَفٍّ كَمِىٍّ بِهِ يَحْتَمِي … مَتَى يَلْقَ قِرْنًا لَهُ يُتْلِفْ [٦] مَعَ الْقَوْمِ صَخْرٌ وَأَشْيَاعُهُ … إذَا غَاوَرَ الْقَوْمَ لَمْ يَضْعُفْ [٧] كَلَيْثِ بِتَرْجِ حَمَى غِيلَهُ … أَخِي غَابَةٍ هَاصِرٍ أَجْوَفِ [٨]
(شِعْرُ كَعْبٍ فِي إجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ وَقَتْلِ ابْنِ الْأَشْرَفِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يَذْكُرُ إجْلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَتْلَ كَعْبِ ابْن الْأَشْرَفِ:
[٢] كَذَا فِي شرح السِّيرَة لأبى ذَر. ويديل: من الدولة، أَي نصيب مِنْهُ مثل مَا أصَاب منا. وَفِي أ:
«يدين» وَفِي سَائِر الْأُصُول: «يدان» .
[٣] وَيُرِيد بالعادل المُصَنّف: النَّبِي ﷺ. قَالَ أَبُو ذَر: فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ الْيَهُودِيّ فِيهِ: الْعَادِل الْمنصف، وَهُوَ لَا يعْتَقد ذَلِك؟ فَالْجَوَاب أَن يُقَال: أَن يكون ذَلِك مِمَّا لَفظه لفظ الْمَدْح وَمَعْنَاهُ الذَّم، مثل قَوْله تَعَالَى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ٤٤: ٤٩ وكما قَالَ الآخر:
يجزون من ظلم أهل الظُّلم مغْفرَة … وَمن إساءة أهل السوء إحسانا
فَهَذَا إِن كَانَ ظَاهره الْمَدْح، فَمَعْنَاه الذَّم.
[٤] الأحلاف: جمع حلف، وَهُوَ الصاحب. ويروى: وإجلائها، يعْنى وإخراجها من بلادها.
وَلم تقطف (بِفَتْح الطَّاء) لم يُؤْخَذ ثَمَرهَا، ويروى بِكَسْر الطَّاء، أَي لم تبلغ زمن القطاف.
[٥] الحسام المرهف: السَّيْف الْقَاطِع.
[٦] الكمي: الشجاع. والقرن: الّذي يقاومك فِي قتال.
[٧] صَخْر هُوَ أَبُو سُفْيَان بن حَرْب.
[٨] ترج: جبل بالحجاز تنْسب إِلَيْهِ الْأسود. والغيل: أجمة الْأسد. والهاصر: الّذي يكسر فريسته إِذا أَخذهَا. والأجوف: الْعَظِيم الْجوف.
وَقَدْ أُوتُوا مَعًا فَهْمًا وَعِلْمًا … وَجَاءَهُمْ مِنْ اللَّهِ النَّذِيرُ
نَذِيرٌ صَادِقٌ أَدَّى كِتَابًا … وَآيَاتٍ مُبَيَّنَةً تُنِيرُ
فَقَالُوا مَا أَتَيْتَ بِأَمْرِ صِدْقٍ … وَأَنْتَ بِمُنْكَرٍ مِنَّا جَدِيرُ [٢] فَقَالَ بَلَى لَقَدْ أَدَّيْتُ حَقًّا … يُصَدِّقُنِي بِهِ الْفَهِمُ الْخَبِيرُ
فَمَنْ يَتْبَعْهُ يُهْدَ لِكُلِّ رُشْدٍ … وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ يُجْزَ الْكَفُورَ
فَلَمَّا أُشْرِبُوا غَدِرًا وَكُفْرًا … وَحَادَ بِهِمْ [٣] عَنْ الْحَقِّ النُّفُورِ
أَرَى اللَّهُ النَّبِيَّ بِرَأْيِ صَدْقٍ … وَكَانَ اللَّهُ يَحْكُمُ لَا يَجُورُ
فَأَيَّدَهُ وَسَلَّطَهُ عَلَيْهِمْ … وَكَانَ نَصِيرُهُ نِعْمَ النَّصِيرِ
فَغُودِرَ مِنْهُمْ كَعْبٌ صَرِيعًا … فَذَلَّتْ بَعْدَ مَصْرَعِهِ النَّضِيرُ
عَلَى الْكَفَّيْنِ ثَمَّ وَقَدْ عَلَتْهُ … بِأَيْدِينَا مُشَهَّرَةٌ ذُكُورُ [٤] بِأَمْرِ مُحَمَّدٍ إذْ دَسَّ [٥] لَيْلًا … إلَى كَعْبٍ أَخَا كَعْبٍ يَسِيرُ
فَمَا كَرِهَ فَأَنْزَلَهُ بِمَكْرٍ … وَمَحْمُودٌ أَخُو ثِقَةٍ جَسُورُ
فَتِلْكَ بَنُو النَّضِيرِ بِدَارِ سَوْءٍ … أَبَارَهُمْ بِمَا اجْتَرَمُوا الْمُبِيرُ [٦] غَدَاةَ أَتَاهُمْ فِي الزَّحْفِ رَهْوًا … رَسُولُ اللَّهِ وَهْوَ بِهِمْ بَصِيرُ [٧] وَغَسَّانَ الْحُمَاةَ مُوَازِرُوهُ … عَلَى الْأَعْدَاءِ وَهْوَ لَهُمْ وَزِيرُ
فَقَالَ السِّلَمُ [٨] وَيْحَكُمْ فَصَدُّوا … وَحَالَفَ [٩] أَمْرَهُمْ كَذِبٌ وَزُورُ
عُلَمَاء الْيَهُود.
[٢] جدير: حقيق وخليق.
[٣] كَذَا فِي شرح السِّيرَة لأبى ذَر: وحادبهم، أَي مَال بهم وَفِي جَمِيع الْأُصُول: «وجد بهم» .
[٤] مشهرة ذُكُور: سيوف مسلولة من أغمادها، قَوِيَّة قَاطِعَة.
[٥] فِي أ: «دش» (بالشين الْمُعْجَمَة) .
[٦] أبارهم: أهلكهم. واجترموا: كسبوا.
[٧] الرهو: مَشى فِي سُكُون.
[٨] السّلم (بِفَتْح السِّين وَكسرهَا): الصُّلْح.
[٩] كَذَا فِي أوشرح السِّيرَة، وحالف: صَاحب- وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وَخَالف» بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة.
(شِعْرُ سَمَّاكٍ فِي الرَّدِّ عَلَى كَعْبٍ):
فَأَجَابَهُ سَمَّاكٌ الْيَهُودِيُّ، فَقَالَ:
أَرِقْتُ وَضَافَنِي هَمٌّ كَبِيرُ … بِلَيْلٍ غَيْرُهُ لَيْلٌ قَصِيرُ [٣]
أَرَى الْأَحْبَارَ تُنْكِرُهُ جَمِيعًا … وَكُلُّهُمْ لَهُ عِلْمٌ خَبِيرُ
وَكَانُوا الدَّارِسِينَ لِكُلِّ عِلْمٍ … بِهِ التَّوْرَاةُ تَنْطِقُ وَالزَّبُورُ
قَتَلْتُمْ سَيِّدَ الْأَحْبَار كَعْبًا … وَقد مَا كَانَ يَأْمَنُ مَنْ يُجِيرُ
تَدَلَّى نَحْوَ مَحْمُودٍ أَخِيهِ … وَمَحْمُودٌ سَرِيرَتُهُ الْفُجُورُ
فَغَادَرَهُ كَأَنَّ دَمًا نَجِيعًا … يَسِيلُ عَلَى مَدَارِعِهِ عَبِيرُ [٤]
فُقِدَ وَأَبِيكُمْ وَأَبِي جَمِيعًا … أُصِيبَتْ إذْ أُصِيبَ بِهِ النَّضِيرُ
فَإِنْ نَسْلَمُ لَكُمْ نَتْرُكُ رِجَالًا … بِكَعْبٍ حَوْلَهُمْ طَيْرٌ تَدُورُ
كَأَنَّهُمْ عَتَائِرُ يَوْمَ عِيدٍ … تُذَبَّحُ وَهْيَ لَيْسَ لَهَا نَكِيرُ [٥]
بِبِيضٍ لَا تُلِيقُ لَهُنَّ عَظْمًا … صَوَافِي الْحَدِّ أَكْثَرُهَا ذُكُورُ [٦]
كَمَا لَاقَيْتُمْ مِنْ بَأْسِ صَخْرٍ … بِأُحْدٍ حَيْثُ لَيْسَ لَكُمْ نَصِيرُ [٧]
(شِعْرُ ابْنِ مِرْدَاسٍ فِي امْتِدَاحِ رِجَالِ بَنِي النَّضِيرِ):
وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَخُو بَنِي سُلَيْمٍ يَمْتَدِحُ رِجَالَ بَنِي النَّضِيرِ:
[٢] عَامِدين: قَاصِدين. وقينقاع: قَبيلَة من الْيَهُود.
[٣] أرقت: امْتنع النّوم عَنى. وضافنى: نزل بى.
[٤] النجيع: الدَّم الطري، والمدارع: جمع مدرعة، وَهِي ثوب يلبس. وَقَالَ بَعضهم: لَا تكون المدرعة إِلَّا من صوف. ويروى: (مذارعه) . بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، والمذارع من الْبَعِير وَالدَّابَّة: قوائمهما، وَأَرَادَ بِهِ هُنَا: الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ. والعبير: الزَّعْفَرَان:
[٥] العتائر جمع عتيرة، وَهِي الذَّبِيحَة.
[٦] لَا تلِيق: لَا تبقى.
[٧] صَخْر: هُوَ أَبُو سُفْيَان بن حَرْب.
وَأَهْلًا فَلَا مَمْنُوعَ خَيْرٍ طَلَبْتَهُ … وَلَا أَنْتَ تَخْشَى عِنْدَنَا أَنْ تُؤَنَّبَا
فَلَا تَحْسَبَنِّي كُنْتُ مَوْلَى ابْنِ مِشْكَمٍ … سَلَامٍ وَلَا مَوْلَى حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَا [٧]
(شِعْرُ خَوَّاتٍ فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ مِرْدَاسٍ):
فَأَجَابَهُ خَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ:
تُبَكِّي عَلَى قَتْلَى يَهُودَ وَقَدْ تَرَى … مِنْ الشَّجْوِ لَوْ تَبْكِي أَحَبَّ وَأَقْرَبَا [٨]
فَهَلَّا عَلَى قَتْلَى بِبَطْنِ أُرَيْنِقٍ … بَكَيْتَ وَلَمْ تُعْوِلْ مِنْ الشَّجْوِ مُسْهِبَا [٩]
إذَا السِّلْمُ دَارَتْ فِي صَدِيقٍ رَدَدْتَهَا … وَفِي الدِّينِ صَدَّادًا وَفِي الْحَرْبِ ثَعْلَبَا [١٠]
عَمَدْتَ إلَى قَدْرٍ لِقَوْمِكَ تَبْتَغِي … لَهُمْ شَبَهًا كَيْمَا تَعِزَّ وَتَغْلِبَا
فَإِنَّكَ لَمَّا أَنْ كَلِفْتَ تَمَدُّحًا … لِمَنْ كَانَ عَيْبًا مَدْحُهُ وَتَكَذُّبَا
رَحَلْتَ بِأَمْرٍ كُنْتَ أَهْلًا لِمِثْلِهِ … وَلَمْ تُلْفِ فِيهِمْ قَائِلًا لَكَ مَرْحَبَا
فَهَلَّا إلَى قَوْمٍ مُلُوكٍ مَدَحْتَهُمْ … تَبَنَّوْا مِنْ الْعَزِّ الْمُؤَثَّلِ مَنْصِبَا [١١]
[٢] الظعائن: النِّسَاء فِي الهوادج.
[٣] كَذَا فِي أوشرح السِّيرَة لأبى ذَر. والشطاة (بِالطَّاءِ الْمُهْملَة): مَوضِع. وَفِي سَائِر الْأُصُول:
«الشظاة» .
[٤] تيأب: مَوضِع.
[٥] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَالْعين: جمع عيناء، وَهِي الْكَبِيرَة الْعين وَفِي أ: «عير» .
[٦] تبَالَة: مَوضِع الْيمن. ويصبين: يذْهبن الْعقل.
[٧] الْمولى (هُنَا): الحليف والصاحب.
[٨] الشجو: الْحزن.
[٩] أرينق (بالراء والزاى): مَوضِع. وَلم تعول: لم ترفع صَوْتك بالبكاء. والمسهب: الْمُتَغَيّر الْوَجْه
[١٠] الصداد: الّذي يصد عَن الدَّين وَالْحق. وثعلبا، أَي كثير الروغان، أَي لَا يصدق فِي الْحَرْب.
[١١] المؤثل: الْقَدِيم.
(شِعْرُ ابْنِ مِرْدَاسٍ فِي الرَّدِّ عَلَى خَوَّاتٍ):
فَأَجَابَهُ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ، فَقَالَ:
هَجَوْتَ صَرِيحَ الْكَاهِنَيْنِ وَفِيكُمْ … لَهُمْ نِعَمٌ كَانَتْ مِنْ الدَّهْرِ تُرْتُبَا [٣]
أُولَئِكَ أَحْرَى لَوْ بَكَيْتَ عَلَيْهِمْ … وَقَوْمُكَ لَوْ أَدَّوْا مِنْ الْحَقِّ مُوجَبَا
مِنْ الشُّكْرِ إنَّ الشُّكْرَ خَيْرٌ مغبَّة … وَأَوْفَقُ فِعْلًا لِلَّذِي كَانَ أَصْوَبَا [٤]
فَكُنْتَ كَمَنْ أَمْسَى يُقَطِّعُ رَأْسَهُ … لِيَبْلُغَ عِزًّا كَانَ فِيهِ مُرَكَّبَا
فَبَكِّ بَنِي هَارُونَ وَاذْكُرْ فِعَالَهُمْ … وَقَتْلَهُمْ لِلْجُوعِ إذْ كُنْتَ مُجْدِبَا
أَخَوَّاتُ أَذِرْ الدَّمْعَ بِالدَّمْعِ وَابْكِهِمْ … وَأَعْرِضْ عَنْ الْمَكْرُوهِ مِنْهُمْ وَنَكِّبَا [٥]
فَإِنَّكَ لَوْ لَاقَيْتَهُمْ فِي دِيَارِهِمْ … لَأُلْفِيتَ عَمَّا قَدْ تَقُولُ مُنَكِّبَا
سِرَاعٌ إلَى الْعَلْيَا كِرَامٌ لَدَى الْوَغَى … يُقَالُ لِبَاغِي الْخَيْرِ أَهْلًا وَمَرْحَبَا
(شِعْرٌ لِكَعْبِ أَوْ ابْنِ رَوَاحَةَ فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ مِرْدَاسٍ):
فَأَجَابَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ، فَقَالَ.
لَعَمْرِي لَقَدْ حَكَّتْ رحى الْحَرْب بعد مَا … أَطَارَتْ لُؤَيًّا قَبْلُ شَرْقًا وَمَغْرِبَا
بَقِيَّةَ آلِ الْكَاهِنَيْنِ وَعِزَّهَا … فَعَادَ ذَلِيلًا بَعْدَ مَا كَانَ أَغْلَبَا [٦]
فَطَاحَ سَلَامٌ وَابْنُ سَعْيَةَ عَنْوَةً … وَقِيدَ ذَلِيلًا لِلْمَنَايَا ابْنُ أَخْطَبَا [٧]
[٢] ترَتّب: (بِضَم التَّاء الثَّانِيَة وَفتحهَا): ثَابت. وَالتَّاء الأولى فِيهِ زَائِدَة، وَهُوَ من «رتب» عِنْد سِيبَوَيْهٍ.
[٣] الصَّرِيح: الْخَالِص النّسَب. والكاهنان: قبيلان من يهود الْمَدِينَة، يَزْعمُونَ أَنهم من ولد هَارُون عليه السلام. ويروى: «الكاهنين» للْجمع.
[٤] خير مغبة، أَي خير عَاقِبَة بعد.
[٥] نكب: عرج عَنْهُم.
[٦] الْأَغْلَب: الشَّديد.
[٧] طاح: ذهب وَهلك. والعنوة: الْقَهْر والذلة.
كَتَارِكِ سَهْلِ الْأَرْضِ وَالْحَزَنُ هَمَّهُ … وَقَدْ كَانَ ذَا فِي النَّاسِ أَكْدَى وَأَصْعَبَا [٢] وَشَأْسٌ وعَزُّالٌ وَقَدْ صَلَيَا بِهَا … وَمَا غُيِّبَا عَنْ ذَاكَ فِيمَنْ تَغَيَّبَا
وَعَوْفُ بْنُ سَلْمَى وَابْنُ عَوْفٍ كِلَاهُمَا … وَكَعْبٌ رَئِيسُ الْقَوْمِ حَانَ وَخُيِّبَا [٣] فَبُعْدًا وَسُحْقًا لِلنَّضِيرِ وَمِثْلِهَا … إنْ أَعْقَبَ فَتْحٌ أَوْ إنْ اللَّهُ أَعْقَبَا [٤] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيُّ: ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ بَنِي النَّضِيرِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ. وَسَأَذْكُرُ حَدِيثَهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِيهِ.