قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي خَلَّادُ بْنُ قُرَّةَ بْنِ خَالِدِ السَّدُوسِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ ابْن عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ، فَقَالَ يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ:
أَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاكَ لَيْلَةَ أَرْمَدَا … وَبِتَّ كَمَا بَاتَ السَّلِيمُ مُسَهَّدَا [١] وَمَا ذَاكَ مِنْ عِشْقِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا … تَنَاسَيْتَ قَبْلَ الْيَوْمِ صُحْبَةَ [٢] مَهْدَدَا [٣] وَلَكِنْ أَرَى الدَّهْرَ الَّذِي هُوَ خَائِنٌ … إذَا أَصْلَحَتْ كَفَّايَ عَادَ فَأَفْسَدَا
كُهُولًا وَشُبَّانًا فَقَدْتُ وَثَرْوَةً … فَلِلَّهِ هَذَا الدَّهْرُ كَيْفَ تَرَدَّدَا
وَمَا زِلْتُ أَبْغِي الْمَالَ مُذْ أَنَا يَافِعٌ … وَلِيدًا وَكَهْلًا حِينَ شِبْتُ وَأَمْرَدَا [٤] وَأَبْتَذِلُ الْعِيسَ الْمَرَاقِيلَ تَغْتَلِي … مَسَافَةَ مَا بَيْنَ النُّجَيْرِ فَصَرْخَدَا [٥] أَلَا أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ يَمَّمَتْ … فَإِنَّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا [٦] فَإِنْ تَسْأَلِي عَنِّي فَيَا رُبَّ سَائِلٍ … حَفِيٍّ عَنْ الْأَعْشَى بِهِ حَيْثُ أَصْعَدَا [٧] أَجَدَّتْ بِرِجْلَيْهَا النَّجَاءَ وَرَاجَعَتْ … يَدَاهَا خِنَافًا لَيِّنًا غَيْرَ أَحْرَدَا [٨]
[٢] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول، وَشرح قصيدة الْأَعْشَى (المخطوط وَالْمَحْفُوظ بدار الْكتب المصرية برقم ١٧٣٦ أدب): «خلة» وَكَذَلِكَ فِي شرح للسيرة لأبى ذَر صفحة ١١٠.
[٣] مهدد: اسْم امْرَأَة، وَهُوَ بِفَتْح الْمِيم، ووزنه: فعلل.
[٤] اليافع: الّذي قَارب الِاحْتِلَام.
[٥] العيس: الْإِبِل الْبيض تخالطها حمرَة. والمراقيل: من الإرقال، وَهُوَ السرعة فِي السّير. وتغتلى:
يزِيد بَعْضهَا على بعض فِي السّير. والنجير: مَوضِع فِي حَضرمَوْت من الْيمن. وصرخد: مَوضِع بالجزيرة.
[٦] يممت: قصدت.
[٧] أصعد: ذهب.
[٨] النَّجَاء: السرعة. والخناف: أَن تلوي يَديهَا فِي السّير من النشاط. والأحرد: الّذي لَا ينبعث فِي الْمَشْي ويعتقل.
مَتَى مَا تُنَاخِي عِنْدَ بَابِ ابْنِ هَاشِمٍ … تُرَاحِي وَتَلْقَيْ مِنْ فَوَاضِلِهِ نَدَى [٤] نَبِيًّا يَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَذِكْرُهُ … أَغَارَ لَعَمْرِي فِي الْبِلَادِ وَأَنْجَدَا [٥] لَهُ صَدَقَاتٌ مَا تُغِبُّ وَنَائِلٌ … وَلَيْسَ عَطَاءُ الْيَوْمِ مَانِعَهُ غَدَا [٦] أَجِدَّكَ لَمْ تَسْمَعْ وَصَاةَ مُحَمَّدٍ … نَبِيِّ الْإِلَهِ حَيْثُ أَوْصَى وَأَشْهَدَا
إذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادِ مَنْ الْتَقَى … وَلَاقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا
نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ … فَتُرْصِدَ لِلْأَمْرِ [٧] الَّذِي كَانَ أَرْصَدَا [٨] فَإِيَّاكَ وَالْمَيْتَاتِ لَا تَقْرَبَنَّهَا … وَلَا تَأْخُذَنْ سَهْمًا حَدِيدًا لِتُفْصِدَا
وَذَا النُّصَبَ [٩] الْمَنْصُوبَ لَا تَنْسُكَنَّهُ … وَلَا تَعْبُدْ الْأَوْثَانَ وَاَللَّهَ فَاعْبُدَا [١٠]
يصف نَاقَته بالنشاط وَقُوَّة الْمَشْي فِي ذَلِك الْوَقْت.
[٢] لَا آوى: لَا أشْفق وَلَا أرْحم. ويروى: لَا أرثى، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ.
[٣] ويروى: «وجى»، وَهُوَ بِمَعْنى الحفي.
[٤] كَذَا فِي الْأُصُول. والندى: الْجُود. ويروى: «يدا» . وَالْيَد: النِّعْمَة.
[٥] أغار: بلغ الْغَوْر، وَهُوَ مَا انخفض من الأَرْض. وأنجد: بلغ النجد، وَهُوَ مَا ارْتَفع من الأَرْض.
[٦] أَي لَيْسَ الْعَطاء الّذي يُعْطِيهِ الْيَوْم مَانِعا لَهُ غَدا من أَن يُعْطِيهِ، فالهاء عَائِدَة على الممدوح، فَلَو كَانَت عَائِدَة على الْعَطاء لقَالَ:
وَلَيْسَ عَطاء الْيَوْم مانعه هُوَ،
بإبراز الضَّمِير الْفَاعِل، لِأَن الصّفة إِذا جرت على غير من هِيَ لَهُ برز الضَّمِير الْمُسْتَتر بِخِلَاف الْفِعْل. وَلَو «نصب الْعَطاء» لجَاز على إِضْمَار الْفِعْل الْمَتْرُوك إِظْهَاره، لِأَنَّهُ من بَاب اشْتِغَال الْفِعْل عَن الْمَفْعُول بضميره، وَيكون اسْم لَيْسَ على هَذَا مضمرا فِيهَا عَائِدًا على النَّبِي ﷺ.
[٧] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «للْمَوْت» .
[٨] أرصد: أعد.
[٩] كَذَا فِي أ، ط، وَشرح قصيدة الْأَعْشَى. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وَلَا النصب» .
[١٠] وقف على النُّون الْخَفِيفَة بِالْألف هُنَا، وَفِي غير هَذَا من الْأَفْعَال الْآتِيَة، وَقد قيل إِنَّه لم يرد النُّون الْخَفِيفَة، وَإِنَّمَا خَاطب الْوَاحِد بخطاب الِاثْنَيْنِ.
وَسَبِّحْ عَلَى حِينِ الْعَشِيَّاتِ وَالضُّحَى … وَلَا تَحْمَدْ الشَّيْطَانَ وَاَللَّهَ فَاحْمَدَا
وَلَا تَسْخَرًا مِنْ بَائِسٍ ذِي ضَرَارَةٍ [٣] … وَلَا تَحْسَبَنَّ الْمَالَ لِلْمَرْءِ مُخْلِدَا
(رُجُوعُهُ لَمَّا عَلِمَ بِتَحْرِيمِ الرَّسُولِ لِلْخَمْرِ، وَمَوْتُهُ):
فَلَمَّا كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، اعْتَرَضَهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ جَاءَ يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِيُسْلِمَ، فَقَالَ لَهُ:
يَا أَبَا بَصِيرٍ، إنَّهُ يُحَرِّمُ الزِّنَا، فَقَالَ الْأَعْشَى: وَاَللَّهِ إنَّ ذَلِكَ لَأَمْرٌ مَا لِي فِيهِ مِنْ أَرَبٍ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا بَصِيرٍ، فَإِنَّهُ يُحَرِّمُ الْخَمْرَ، فَقَالَ الْأَعْشَى: أمّا هَذِه فو الله إنَّ فِي النَّفْسِ مِنْهَا لَعُلَالَاتٍ، وَلَكِنِّي مُنْصَرِفٌ فَأَتَرَوَّى مِنْهَا عَامِي هَذَا، ثُمَّ آتِيهِ فَأُسْلِمُ.
فَانْصَرَفَ فَمَاتَ فِي عَامِهِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعُدْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ [٤] .
(ذُلُّ أَبِي جَهْلٍ لِلرَّسُولِ ﷺ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ مَعَ عَدَاوَتِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبُغْضِهِ إيَّاهُ، وَشِدَّتِهِ عَلَيْهِ، يُذِلُّهُ اللَّهُ لَهُ إذَا رَآهُ.
[٢] السِّرّ: النِّكَاح. وتأبد: تعزب وَبعد عَن النِّسَاء.
[٣] ذُو ضرارة: مُضْطَر. ويروى: ذُو ضَرُورَة. كَمَا يرْوى: ذُو ضراعة.
[٤] قَالَ السهيليّ: «وَهَذِه غَفلَة من ابْن هِشَام وَمن قَالَ بقوله، فَإِن النَّاس مجمعون على أَن الْخمر لم ينزل تَحْرِيمهَا إِلَّا بِالْمَدِينَةِ بعد أَن مَضَت بدر وَأحد، وَحرمت فِي سُورَة الْمَائِدَة، وَهِي من آخر مَا نزل.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من ذَلِك قصَّة حَمْزَة حِين شربهَا وغنته الْقَيْنَتَانِ. فَإِن صَحَّ خبر الْأَعْشَى، وَمَا ذكر لَهُ فِي الْخمر، فَلم يكن هَذَا بِمَكَّة، وَإِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَيكون الْقَائِل لَهُ: «أما علمت أَنه يحرم الْخمر» من الْمُنَافِقين أَو من الْيَهُود. وَفِي القصيدة مَا يدل على هَذَا، وَهُوَ قَوْله:
فَإِن لَهَا فِي أهل يثرب موعدا
وَقد ألفيت للقالى رِوَايَة عَن أَبى حَاتِم عَن أَبى عُبَيْدَة، قَالَ: لَقِي الْأَعْشَى عَامر بن الطُّفَيْل فِي بِلَاد قيس، وَهُوَ مقبل إِلَى رَسُول الله ﷺ، فَذكر لَهُ أَنه يحرم الْخمر فَرجع. فَهَذَا أولى بِالصَّوَابِ» .