أَبُو قَيْسِ بْنُ أَبِي أَنَسٍ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا اطْمَأَنَّتْ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ دَارُهُ، وَأَظْهَرَ اللَّهُ بِهَا دِينَهُ، وَسَرَّهُ بِمَا جَمَعَ إلَيْهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَتِهِ، قَالَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ، أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ.

(نَسَبُهُ):
– قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَبُو قَيْسٍ، صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسِ بْنِ صِرْمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ.

(إِسْلَامُهُ وَشَيْءٌ مِنْ شِعْرِهِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَجُلًا قَدْ تَرَهَّبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَبِسَ الْمُسُوحَ، وَفَارَقَ الْأَوْثَانَ، وَاغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ وَتَطَهَّرَ مِنْ الْحَائِضِ مِنْ النِّسَاءِ، وَهَمَّ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، ثُمَّ أَمْسَكَ عَنْهَا، وَدَخَلَ بَيْتًا لَهُ، فَاِتَّخَذَهُ مَسْجِدًا لَا تَدْخُلُهُ عَلَيْهِ فِيهِ طَامِثٌ وَلَا جُنُبٌ، وَقَالَ: أَعْبُدُ رَبَّ إبْرَاهِيمَ، حَيْنَ فَارَقَ الْأَوْثَانَ وَكَرِهَهَا، حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَكَانَ قَوَّالًا بِالْحَقِّ مُعَظِّمًا للَّه عز وجل فِي جَاهِلِيَّتِهِ، يَقُولُ أَشْعَارًا فِي ذَلِكَ حِسَانًا- وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ:
يَقُولُ أَبُو قَيْسٍ وَأَصْبَحَ غَادِيًا: … أَلَا مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ وَصَاتَى فَافْعَلُوا
فَأُوصِيكُمْ باللَّه وَالْبِرِّ وَالتُّقَى … وَأَعْرَاضِكُمْ، وَالْبِرُّ باللَّه أَوَّلُ
وَإِنْ قَوْمُكُمْ سَادُوا فَلَا تَحْسُدُنَّهُمْ … وَإِنْ كُنْتُم أهل الرِّئَاسَة فَاعْدِلُوا
وَإِنْ نَزَلَتْ إحْدَى الدَّوَاهِي بِقَوْمِكُمْ … فَأَنْفُسَكُمْ دُونَ الْعَشِيرَةِ فَاجْعَلُوا
وَإِنْ نَابَ غُرْمٌ فَادِحٌ فَارْفُقُوهُمْ … وَمَا حَمَّلُوكُمْ فِي الْمُلِمَّاتِ فَاحْمِلُوا [١] وَإِنْ أَنْتُمْ أَمْعَرْتُمْ [٢] فَتَعَفَّفُوا … وَإِنْ كَانَ فَضْلُ الْخَيْرِ فِيكُمْ فَأَفْضِلُوا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى:
وَإِنْ نَابَ أَمْرٌ فَادِحٌ فَارْفِدُوهُمْ


[١] الفادح: المثقل، يُقَال: فدحه الْأَمر: إِذا أثقله. والملمات: النَّوَازِل.
[٢] أمعرتم: افتقرتم. ويروى: «أمعزتم» بالزاي. وأمعزتم: أَي أَصَابَتْكُم شدَّة.
١ ‏/ ٥١٠
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةَ أَيْضًا:
سَبِّحُوا اللَّهَ شَرْقَ كُلِّ صَبَاحٍ … طَلَعَتْ شَمْسُهُ وَكُلِّ هِلَالِ [١] عَالِمَ السِّرِّ وَالْبَيَانِ لَدَيْنَا … لَيْسَ مَا قَالَ رَبُّنَا بِضَلَالِ
وَلَهُ الطَّيْرُ تَسْتَرِيدُ وَتَأْوِي … فِي وُكُورٍ مِنْ آمِنَاتِ الْجِبَالِ [٢] وَلَهُ الْوَحْشُ بِالْفَلَاةِ تَرَاهَا … فِي حِقَافٍ وَفِي ظِلَالِ الرِّمَالِ [٣] وَلَهُ هَوَّدَتْ يَهُودُ وَدَانَتْ … كُلَّ دِينٍ إذَا ذَكَرْتَ عُضَالِ [٤] وَلَهُ شَمَّسَ النَّصَارَى وَقَامُوا … كُلَّ عِيدٍ لِرَبِّهِمْ وَاحْتِفَالِ [٥] وَلَهُ الرَّاهِبُ الْحَبِيسُ تَرَاهُ … رَهْنَ بُوْسٍ وَكَانَ نَاعِمَ بَالِ [٦] يَا بَنِيَّ الْأَرْحَامَ لَا تَقْطَعُوهَا … وَصِلُوهَا قَصِيرَةً مِنْ طِوَالِ [٧] وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي ضِعَافِ الْيَتَامَى … رُبَّمَا يُسْتَحَلُّ غَيْرُ الْحَلَالِ
وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلْيَتِيمِ وَلِيًّا … عَالِمًا يَهْتَدِي بِغَيْرِ السُّؤَالِ
ثُمَّ مَالَ الْيَتِيمِ لَا تَأْكُلُوهُ … إنَّ مَالَ الْيَتِيمِ يَرْعَاهُ وَالِي
يَا بَنِيَّ، التُّخُومَ لَا تَخْزِلُوهَا … إنَّ خَزْلَ التُّخُومِ ذُو عُقَّالِ [٨] يَا بَنِيَّ الْأَيَّامَ لَا تَأْمَنُوهَا … وَاحْذَرُوا مَكْرَهَا وَمَرَّ اللَّيَالِي


[١] الشرق هُنَا: طُلُوع الشَّمْس، أَو الضَّوْء.
[٢] تستريد: تذْهب وَترجع. والوكور: جمع وكر، وَهُوَ عش الطَّائِر.
[٣] الحقاف: جمع حقف، وَهُوَ الكدس المستدير من الرمل.
[٤] هودت: أَي ثَابت وَرجعت.
[٥] شمس: نعْبد.
[٦] الحبيس: الّذي حبس نَفسه عَن اللَّذَّات.
[٧] صلوها قَصِيرَة من طوال: أَي صلوا قصرهَا من طولكم، أَي كونُوا أَنْتُم طوَالًا بالصلة وَالْبر إِن قصرت هِيَ. وَفِي الحَدِيث: «أَسْرَعكُنَّ لُحُوقا بى أَطْوَلكُنَّ يدا» أَرَادَ الطول بِالصَّدَقَةِ وَالْبر. أَو يُرِيد بهَا مدح قومه بِأَن أرحامهم قَصِيرَة النّسَب، وَلكنهَا من قوم طوال، كَمَا قَالَ:
أحب من النسوان كل طَوِيلَة … لَهَا نسب فِي الصَّالِحين قصير
وَالنّسب الْقصير، أَن تَقول: أَنا ابْن فلَان، فَيعرف، وَتلك صفة الْأَشْرَاف، وَمن لَيْسَ بشريف لَا يعرف حَتَّى تأتى بِنِسْبَة طَوِيلَة يبلغ بهَا رَأس الْقَبِيلَة.
[٨] التخوم: الْحُدُود بَين الْأَرْضين. وتخزلوها: تقطعوها. والعقال: مَا يمْنَع الرجل من الْمَشْي ويعقلها، يُرِيد أَن الظُّلم يخلف صَاحبه ويعقله عَن السباق.
١ ‏/ ٥١١
وَاعْلَمُوا أَنَّ مرّها لنفاد … الْخلق مَا كَانَ مِنْ جَدِيدٍ وَبَالِي
وَاجْمَعُوا أَمْرَكُمْ على البرّ والتّقوى … وَتَرْكِ الْخَنَا وَأَخْذِ الْحَلَالِ
وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ أَيْضًا، يَذْكُرُ مَا أَكْرَمَهُمْ اللَّهُ تبارك وتعالى بِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ، وَمَا خَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ نُزُولِ رَسُولِهِ ﷺ عَلَيْهِمْ:
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً … يُذَكِّرُ لَوْ يَلْقَى صَدِيقًا مُوَاتِيَا [١] وَيَعْرِضُ فِي أَهْلِ الْمَوَاسِمِ نَفْسَهُ … فَلَمْ ير من يؤوى وَلَمْ يَرَ دَاعِيَا
فَلَمَّا أَتَانَا أَظْهَرَ اللَّهُ دِينَهُ … فَأَصْبَحَ مَسْرُورًا بطِيبةَ رَاضِيَا
وَأَلْفَى صِدِّيقًا وَاطْمَأَنَّتْ بِهِ النَّوَى … وَكَانَ لَهُ عَوْنًا مِنْ اللَّهِ بَادِيَا
يَقُصُّ لَنَا مَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ … وَمَا قَالَ مُوسَى إذْ أَجَابَ الْمُنَادِيَا
فَأَصْبَحَ لَا يَخْشَى مِنْ النَّاسِ وَاحِدًا … قَرِيبًا وَلَا يَخْشَى مِنْ النَّاسِ نَائِيَا [٢] بَذَلْنَا لَهُ الْأَمْوَالَ مِنْ حِلِّ [٣] مَالِنَا … وَأَنْفُسَنَا عِنْدَ الْوَغَى والتَّآسِيا [٤] وَنَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ … وَنَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَفْضَلُ هَادِيَا
نُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنْ النَّاسِ كلِّهُمْ … جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا
أَقُولُ إذَا أَدْعُوكَ فِي كُلِّ بَيْعَةٍ: … تَبَارَكْتَ قَدْ أَكْثَرْتُ لِاسْمِكَ دَاعِيَا [٥] أَقُولُ إذَا جَاوَزْتُ أَرْضًا مَخُوفَةً … حَنانَيْكَ لَا تُظْهِرْ عَلَيَّ الْأَعَادِيَا [٦] فَطَأْ مُعْرِضًا إنَّ الْحُتُوفَ كَثِيرَةٌ … وَإِنَّكَ لَا تُبْقِي لنَفسك [٧] بَاقِيا [٨] فو الله مَا يَدْرِي الْفَتَى كَيْفَ يَتَّقِي … إذَا هُوَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ اللَّهُ وَاقِيَا
وَلَا تَحْفِلُ النَّخْلُ الْمُعِيمَةُ رَبَّهَا … إذَا أَصبَحت ريّا وأصبحت ثَاوِيَا [٩]
[١] ثوى: أَقَامَ. ومواتيا: مُوَافقا.
[٢] نَائِيا: بَعيدا.
[٣] فِي أ: «جلّ» .
[٤] الوغى: الْحَرْب. والتآسي: التعاون.
[٥] يُرِيد «بالبيعة»: الْمَسْجِد. وَهِي فِي الأَصْل: متعبد النَّصَارَى.
[٦] حنانيك: أَي تحننا بعد تَحَنن، والتحنن: الرأفة وَالرَّحْمَة.
[٧] فِي أ: «بِنَفْسِك» .
[٨] فطأ معرضًا: أَي متسعا. والحتوف: أَسبَاب الْمَوْت وأنواعه.
[٩] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. والمعيمة: العاطشة. وَفِي أ: «المقيمة» وريا: مروية. وثاويا:
مُقيما. ويروى: «تاويا»: أَي هَالكا.
١ ‏/ ٥١٢
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْبَيْتُ الَّذِي أَوَّلُهُ:
فَطَأْ مُعْرِضًا إنَّ الْحُتُوفَ كَثِيرَةٌ
وَالْبَيْتُ الّذي يَلِيهِ:
فو الله مَا يَدْرِي الْفَتَى كَيْفَ يَتَّقِي
لِأَفْنُونَ [١] التَّغْلِبِيِّ، وَهُوَ صُرَيْمُ بْنُ مَعْشَرٍ، فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.

عن معز نوني

متحصّل على شهادة ختم الدروس للمعهد الأعلى لتكوين المعلمين بقفصة دفعة 2000، يعمل حاليًّا أستاذ مدارس إبتدائية

شاهد أيضاً

ذِكْرُ سَرْدِ النَّسَبِ الزَّكِيِّ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، إلَى آدَمَ عليه السلام -2

ذِكْرُ وَلَدِ نِزَارِ بْنِ مَعَدٍّ (أَوْلَادُهُ فِي رَأْيِ ابْنِ إسْحَاقَ وَابْنِ هِشَامٍ): قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: …