وَلَمَّا قَدِمَ فَلُّ [٣] ثَقِيفٍ الطَّائِفَ أَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ مَدِينَتِهَا، وَصَنَعُوا الصَّنَائِعَ لِلْقِتَالِ.
(الْمُتَخَلِّفُونَ عَنْ حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ):
وَلَمْ يَشْهَدْ حُنَيْنًا وَلَا حِصَارَ الطَّائِفِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَلَا غَيْدَنُ بْنُ سَلَمَةَ، كَانَا بِجُرَشَ [٤] يَتَعَلَّمَانِ صَنْعَةَ الدَّبَّابَاتِ [٥] وَالْمَجَانِيقِ [٦] وَالضُّبُورِ [٧] .
(مَسِيرُ الرَّسُولِ إلَى الطَّائِفِ وَشِعْرُ كَعْبٍ):
ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى الطَّائِفِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حُنَيْنٍ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، حِينَ أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ السَّيْرَ إلَى الطَّائِفِ:
[٢] خندف: قَبيلَة.
[٣] الفل: الْجَمَاعَة المنهزمون من الْجَيْش.
[٤] جرش: من مخاليف الْيمن من جِهَة مَكَّة.
[٥] قَالَ السهيليّ: «الدبابة: آلَة من آلَات الْحَرْب، يدْخل فِيهَا الرِّجَال فيدبون بهَا إِلَى الأسوار لينقبوها» . وَقَالَ أَبُو ذَر: «الدبابات: آلَات تصنع من خشب، وتغشى بجلود، وَيدخل فِيهَا الرِّجَال، ويتصلون بحائط الْحصن» .
[٦] المجانيق: جمع منجنيق (بِفَتْح الْمِيم وَكسرهَا)، وَهِي من آلَات الْحصار يرْمى بهَا الْحِجَارَة الثَّقِيلَة وَنَحْوهَا.
[٧] الضبور: مثل رُءُوس الأسفاط، يتّقى بهَا فِي الْحَرْب عِنْد الِانْصِرَاف. وَفِي كتاب الْعين الضبور جُلُود يغشى بهَا خشبا، تبقى بهَا فِي الْحَرْب (عَن السهيليّ) وَفِي اللِّسَان: الضبر: جَاءَ يحشى خشبا فِيهَا رجال تقرب إِلَى الْحُصُون لقِتَال أَهلهَا. وَالْجمع ضبور، قَالَ: وَهِي الدبابات الَّتِي تقرب للحصون، لتنقب من تحتهَا.
[٢] نخيرها: نعطيها الْخيرَة، وَلَو نطقت لاختارت أَن نحارب دوسا أَو ثقيفا.
[٣] الحاضن: الْمَرْأَة الَّتِي تحضن وَلَدهَا، كَذَا قَالَ أَبُو ذَر. وَلَعَلَّه: الحاصن، وَهِي الْمَرْأَة العفيفة، كَأَنَّهُ يَقُول: «لست لرشدة إِن لم تَرَوْهَا … إِلَخ» وَهُوَ تهديد لَهُم. وساحة الدَّار: وَسطهَا، أَو فناؤها.
[٤] العروش (هُنَا): سقوف الْبيُوت. وَوَج: مَوضِع بِالطَّائِف أَو هُوَ من أسمائها. وخلوف: يُرِيد:
دورا تغيب عَنْهَا أَهلهَا.
[٥] السرعان: المتقدمون. والكثيف: الملتف. ويروى: «كشيفا» بالشين بدل الثَّاء أَي ظَاهرا،
[٦] «رجيفا» يرْوى بالراء، يعْنى بِهِ الصَّوْت الشَّديد مَعَ اضْطِرَاب، مَأْخُوذ من الرجفة. ويروى:
«وجيفا» بِالْوَاو بدل الرَّاء، فَمَعْنَاه سريع يسمع صَوت سرعته.
[٧] القواضب: السيوف القواطع، جمع قاضب. والمرهفات: القاطعة (أَيْضا) . والمصطلون:
المباشرون لَهَا من أعدائهم. والحتوف: جمع حتف، وَهُوَ الْمَوْت.
[٨] العقائق: جمع عقيقة، هِيَ شُعَاع الْبَرْق (هُنَا) . وكتيف، جمع كتيفة وَهِي الصفائح الْحَدِيد الَّتِي تضرب للأبواب وَغَيرهَا. قَالَ السهيليّ: «وَهِي صفيحة صَغِيرَة، وأصل الكتيف: الضّيق من كل شَيْء» .
[٩] الجدية: الطَّرِيقَة من الدَّم. والزحف: دنو المتجاربين بَعضهم من بعض، والجادى: الزَّعْفَرَان.
ومدوف: (اسْم مفعول من دافه يدوفه) وَمَعْنَاهُ مخلوط بِغَيْرِهِ.
[١٠] أجدهم، أَي أجد مِنْهُم:، وَهُوَ مَنْصُوب على الْمصدر. وعريفا (هُنَا): عَارِفًا.
[١١] عتاق: جمع عَتيق، والنجيب: جمع النجيب، والطروف: جمع طرف (بِكَسْر الطَّاء)، وَكلهَا بِمَعْنى الْكَرِيمَة الأَصْل من الْخَيل.
فَإِنْ تُلْقُوا إلَيْنَا السِّلْمَ نَقْبَلْ … وَنَجْعَلْكُمْ لَنَا عَضُدًا وَرِيفَا [٤] وَإِنْ تَأْبَوْا نُجَاهِدْكُمْ وَنَصْبِرْ … وَلَا يَكُ أَمْرُنَا رَعِشًا ضَعِيفَا [٥] نُجَالِدُ مَا بَقِينَا أَوْ تُنِيبُوا … إلَى الْإِسْلَامِ إذْعَانًا مُضِيفَا [٦] نُجَاهِدُ لَا نُبَالِي مَنْ لَقِينَا … أَأَهْلَكْنَا التِّلَادَ أَمْ الطَّرِيفَا [٧] وَكَمْ مِنْ مَعْشَرٍ أَلَبُوا عَلَيْنَا … صَمِيمَ الْجِذْمِ مِنْهُمْ وَالْحَلِيفَا [٨] أَتَوْنَا لَا يَرَوْنَ لَهُمْ كِفَاء … فَجَدَّعْنَا الْمَسَامِعَ وَالْأُنُوفَا [٩] بِكُلِّ مُهَنَّدٍ لَيْنٍ صَقِيلٍ … يَسُوقُهُمْ بِهَا سَوْقًا عَنِيفَا [١٠] لِأَمْرِ اللَّهِ وَالْإِسْلَامِ حَتَّى … يَقُومَ الدِّينُ مُعْتَدِلًا حَنِيفَا
وَتُنْسَى اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَوَدٌّ … وَنَسْلُبُهَا الْقَلَائِدَ وَالشُّنُوفَا [١١] فَأَمْسَوْا قَدْ أَقَرُّوا وَاطْمَأَنُّوا … وَمَنْ لَا يَمْتَنِعْ يَقْبَلْ [١٢] خُسُوفَا [١٣]
[٢] كَذَا فِي الْأُصُول: والعزوف: المنصرف عَن الشَّيْء زهدا فِيهِ مَعَ إعجابه بِهِ، وَفِي شرح السِّيرَة لأبي ذَر: «عروفا» . والعروف: الصابر.
[٣] النزق: الْكثير الطيش والخفة.
[٤] الرِّيف: الْمَوَاضِع المخصبة الَّتِي على الْمِيَاه: يُرِيد نتخذكم أعوانا على الْحَرْب ونستمد من ريفكم الْعَيْش.
[٥] رعشا: متقلبا غير ثَابت.
[٦] نجالد: نحارب بِالسُّيُوفِ. والإذعان: الخضوع والانقياد. ومضيفا: ملجئا.
[٧] التلاد: المَال الْقَدِيم، والطريف: المَال المستحدث.
[٨] ألبوا علينا: جمعُوا علينا. والصميم: الْخَالِص. والجذم: الأَصْل.
[٩] جدعنا: قَطعنَا، وَأكْثر مَا يسْتَعْمل فِي قطع الأنوف.
[١٠] لين: مخفف من لين (بتَشْديد الْيَاء) كَمَا يُقَال: هَين وهين، وميت وميت. والعنيف: الّذي لَيْسَ فِيهِ رفق.
[١١] الشنوف: جمع شنف، وَهُوَ القرط الّذي يكون فِي أَعلَى الْأذن.
[١٢] كَذَا فِي م، ر. وَفِي أ: «يقتل» .
[١٣] الخسوف: الذل.
فَأَجَابَهُ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، فَقَالَ:
مَنْ كَانَ يَبْغِينَا يُرِيدُ قِتَالَنَا … فَإِنَّا بِدَارٍ مَعْلَمٍ لَا نَرِيمُهَا [١] وَجَدْنَا بِهَا الْآبَاءَ مِنْ قَبْلِ مَا تَرَى … وَكَانَتْ لَنَا أَطْوَاؤُهَا وَكُرُومُهَا [٢] وَقَدْ جَرَّبَتْنَا قَبْلُ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ … فَأَخْبَرَهَا ذُو رَأْيِهَا وَحَلِيمُهَا [٣] وَقَدْ عَلِمَتْ إنْ قَالَتْ الْحَقَّ أَنَّنَا … إذَا مَا أَبَتْ صُعْرُ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا [٤] نُقَوِّمُهَا حَتَّى يَلِينَ شَرِيسُهَا … وَيُعْرَفُ لِلْحَقِّ الْمُبِينِ ظَلُومُهَا [٥] عَلَيْنَا دِلَاصٌ مِنْ تُرَاثِ مُحَرَّقٍ … كَلَوْنِ السَّمَاءِ زَيَّنَتْهَا نُجُومُهَا [٦] نُرَفِّهُهَا عَنَّا بِبِيضٍ صَوَارِمٍ … إذَا جُرِّدَتْ فِي غَمْرَةٍ لَا نَشيِمُها [٧]
(شِعْرُ شَدَّادٍ فِي الْمَسِيرِ إلَى الطَّائِفِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ شَدَّادُ بْنُ عَارِضٍ الْجُشَمِيُّ فِي مَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلَى الطَّائِفِ:
لَا تَنْصُرُوا اللَّاتَ إنَّ اللَّهَ مُهْلِكُهَا … وَكَيْفَ يُنْصَرُ مَنْ هُوَ لَيْسَ يَنْتَصِرُ
[٢] الأطواء: جمع طوى، وَهِي الْبِئْر، جمعت على غير قِيَاس: ويروى «أطوادها» . (بِالدَّال)، يعْنى بهَا الْجبَال.
[٣] وَقد جربتنا قبل عَمْرو بن عَامر: قَالَ هَذَا جَوَابا للْأَنْصَار، لأَنهم بَنو حَارِثَة بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو ابْن عَامر. وَلم يرد أَن الْأَنْصَار جربتهم قبل ذَلِك، وَإِنَّمَا أَرَادَ إِخْوَتهم وهم خُزَاعَة، لأَنهم بَنو ربيعَة ابْن حَارِثَة بن عَمْرو بن عَامر، وَقد كَانُوا حاربوهم عِنْد نزولهم مَكَّة.
وَقَالَ الْبكْرِيّ: إِنَّمَا أَرَادَ بنى عَمْرو بن عَامر بن صعصعة، وَكَانُوا مجاورين لثقيف، وَكَانَت ثَقِيف قد أنزلت بنى عَمْرو بن عَامر فِي أَرضهم ليعملوا فِيهَا وَيكون لَهُم النّصْف فِي الزَّرْع وَالثَّمَر. ثمَّ إِن ثقيفا منعتهم ذَلِك، وتحصنوا بِالْحَائِطِ الّذي بنوه حول حاضرهم، فحاربتهم بَنو عَمْرو بن عَامر، فَلم يظفروا مِنْهُم بِشَيْء، وجلوا عَن تِلْكَ الْبِلَاد (رَاجع السهيليّ) .
[٤] صعر الخدود: هِيَ المائلة إِلَى جِهَة تكبرا وعجبا.
[٥] شريسها: شديدها.
[٦] دلاص: دروع لينَة. ومحرق (هُنَا) هُوَ عَمْرو بن عَامر، وَهُوَ أول من حرق الْعَرَب بالنَّار.
(عَن السهيليّ) .
[٧] لَا نشيمها: أَي لَا نغمدها. يُقَال: شمت السَّيْف، إِذا أغمدته، وشمته إِذا سللته، فَهُوَ من الأضداد.
٣١ سيرة ابْن هِشَام- ٢
(الطَّرِيقُ إلَى الطَّائِفِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَسَلَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى نَخْلَةَ الْيَمَانِيَةِ، ثُمَّ عَلَى قَرْنٍ، ثُمَّ عَلَى الْمُلَيْحِ، ثُمَّ عَلَى بُحْرَةِ الرُّغَاءِ مِنْ لِيَّةَ [٣]، فَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا فَصَلَّى فِيهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ: أَنَّهُ أَقَادَ يَوْمَئِذٍ بِبُحْرَةِ الرُّغَاءِ، حِينَ نَزَلَهَا، بِدَمِ، وَهُوَ أَوَّلُ دَمٍ أُقِيدَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَتَلَهُ بِهِ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَهُوَ بِلِيَّةَ، بِحِصْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فَهُدِمَ، ثُمَّ سَلَكَ فِي طَرِيقٍ يُقَالُ لَهَا الضَّيْقَةُ، فَلَمَّا تَوَجَّهَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَأَلَ عَنْ اسْمِهَا، فَقَالَ: مَا اسْمُ هَذِهِ الطَّرِيقِ؟ فَقِيلَ لَهُ الضَّيْقَةُ، فَقَالَ: بَلْ هِيَ الْيُسْرَى، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا عَلَى نَخْبٍ، حَتَّى نَزَلَ تَحْتَ سِدْرَةٍ يُقَالُ لَهَا الصَّادِرَةُ، قَرِيبًا مِنْ مَالِ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إمَّا أَنْ تَخْرُجَ، وَإِمَّا أَنْ نُخْرِبَ عَلَيْكَ حَائِطَكَ، فَأَبَى أَنْ يَخْرُجَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِإِخْرَابِهِ. ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ الطَّائِفِ، فَضَرَبَ بِهِ عَسْكَرَهُ، فَقُتِلَ بِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنَّبْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَسْكَرَ اقْتَرَبَ مِنْ حَائِطِ الطَّائِفِ، فَكَانَتْ النَّبْلُ تَنَالُهُمْ، وَلَمْ يَقْدِرْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْ يَدْخُلُوا حَائِطَهُمْ، أَغْلَقُوهُ دُونَهُمْ، فَلَمَّا أُصِيبَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنَّبْلِ وَضَعَ عَسْكَرَهُ عِنْدَ مَسْجِدِهِ الَّذِي بِالطَّائِفِ الْيَوْمَ، فَحَاصَرَهُمْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِ، إحْدَاهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ.
[٢] يظعن: يرحل.
[٣] قرن، ومليح، وبحرة الرُّغَاء، ولية: مَوَاضِع بِالطَّائِف.
(الرَّسُولُ أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِالْمَنْجَنِيقِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَرَمَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْمَنْجَنِيقِ. حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَوَّلُ مَنْ رَمَى فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَنْجَنِيقِ، رَمَى أَهْلَ الطَّائِفِ.
(يَوْمُ الشَّدْخَةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ الشَّدْخَةِ عِنْدَ جِدَارِ الطّائف، دخل تَفِر مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ دَبَّابَةٍ، ثُمَّ زَحَفُوا بِهَا إلَى جِدَارِ الطَّائِفِ لِيَخْرِقُوهُ، فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ ثَقِيفٌ سِكَكَ الْحَدِيدِ مُحْمَاةً بِالنَّارِ، فَخَرَجُوا مِنْ تَحْتِهَا، فَرَمَتْهُمْ ثَقِيفٌ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ رِجَالًا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَطْعِ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ، فَوَقَعَ النَّاسُ فِيهَا يَقْطَعُونَ.
(الْمُفَاوَضَةُ مَعَ ثَقِيفٍ):
وَتَقَدَّمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ إلَى الطَّائِفِ، فَنَادَ يَا ثَقِيفًا: أَنْ أَمِّنُونَا حَتَّى نُكَلِّمَكُمْ فَأَمَّنُوهُمَا، فَدَعَوْا نِسَاءً مِنْ نِسَاءٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَبَنِيَّ كِنَانَةَ لِيَخْرُجْنَ إلَيْهِمَا، وَهُمَا يَخَافَانِ عَلَيْهِنَّ السِّبَاءَ، فَأَبَيْنَ، مِنْهُنَّ آمِنَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، كَانَتْ عِنْدَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، لَهُ مِنْهَا دَاوُدُ بْنُ عُرْوَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ إنَّ أُمَّ دَاوُدَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي مُرَّةَ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ دَاوُدَ بْنَ أَبِي مُرَّةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْفِرَاسِيَّةُ بِنْتُ سُوَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ، لَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ
[٢] النقيض: الصَّوْت.
(رُؤْيَا الرَّسُولِ وَتَفْسِيرُ أَبِي بَكْرٍ لَهَا):
وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ مُحَاصِرٌ ثَقِيفًا: يَا أَبَا بَكْرٍ، إنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أُهْدِيَتْ لِي قَعْبَةٌ [١] مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا، فَنَقَرَهَا دِيكٌ، فَهَرَاقَ مَا فِيهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَظُنُّ أَنْ تُدْرِكَ مِنْهُمْ يَوْمَكَ هَذَا مَا تُرِيدُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَأَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ.
(ارْتِحَالُ الْمُسْلِمِينَ وَسَبَبُ ذَلِكَ):
ثُمَّ إنَّ خُوَيْلَةَ بِنْتَ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْأَوْقَصِ السُّلَمِيَّةَ، وَهِيَ امْرَأَةُ عُثْمَانَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ الطَّائِفَ حُلِيَّ بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ بْنِ مَظْعُونِ بْنِ سَلَمَةَ، أَوْ حُلِيَّ الْفَارِعَةِ بِنْتِ عُقَيْلٍ، وَكَانَتَا مِنْ أَحْلَى نِسَاءِ ثَقِيفٍ.
فَذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهَا: وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ لِي فِي ثَقِيفٍ يَا خُوَيْلَةُ؟ فَخَرَجَتْ خُوَيْلَةُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) [٢]: مَا حَدِيثٌ حَدَّثَتْنِيهِ خُوَيْلَةُ، زَعَمَتْ أَنَّكَ قُلْتَهُ؟ قَالَ: قَدْ قُلْتَهُ، قَالَ: أَوَمَا أُذِنَ لَكَ فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَلَا أُؤَذِّنُ بِالرَّحِيلِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَأَذَّنَ عُمَرُ بِالرَّحِيلِ.
[٢] زِيَادَة عَن أ.
فَلَمَّا اسْتَقَلَّ النَّاسُ نَادَى سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ عِلَاجٍ: أَلَا إنَّ الْحَيَّ مُقِيمٌ. قَالَ: يَقُولُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَجَلْ، وَاَللَّهِ مَجَدَةً كِرَامًا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: قَاتَلَكَ اللَّهُ يَا عُيَيْنَةُ، أَتَمْدَحُ الْمُشْرِكِينَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَدْ جِئْتُ تَنْصُرُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ! فَقَالَ:
إنِّي وَاَللَّهِ مَا جِئْتُ لِأُقَاتِلَ ثَقِيفًا مَعَكُمْ، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ يَفْتَحَ مُحَمَّدٌ الطَّائِفَ، فَأُصِيبَ مِنْ ثَقِيفٍ جَارِيَةً أَتَّطِئُهَا، لَعَلَّهَا تَلِدُ لِي رَجُلًا، فَإِنَّ ثَقِيفًا قَوْمٌ مَنَاكِيرُ [١] .
وَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي إقَامَتِهِ مِمَّنْ كَانَ مُحَاصَرًا بِالطَّائِفِ عَبِيدٌ، فَأَسْلَمُوا، فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.
(عُتَقَاءُ ثَقِيفٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُكَدَّمٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ ثَقِيفٍ، قَالُوا: لَمَّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطَّائِفِ تَكَلَّمَ نَفَرٌ مِنْهُمْ فِي أُولَئِكَ الْعَبِيدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا، أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللَّهِ، وَكَانَ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ سَمَّى ابْنُ إسْحَاقَ مَنْ نَزَلَ مِنْ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ.
(إطْلَاقُ أُبَيِّ بْنِ مَالِكٍ مِنْ يَدِ مَرْوَانَ وَشِعْرُ الضَّحَّاكِ فِي ذَلِكَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَتْ ثَقِيفٌ أَصَابَتْ أَهْلًا لِمَرْوَانَ بْنِ قَيْسٍ الدَّوْسِيِّ، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ، وَظَاهَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى ثَقِيفٍ، فَزَعَمَتْ ثَقِيفٌ، وَهُوَ الَّذِي تَزْعُمُ بِهِ ثَقِيفٌ أَنَّهَا مِنْ قَيْسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِمَرْوَانَ بْنِ قَيْسٍ: خُذْ يَا مَرْوَانُ بِأَهْلِكَ أَوَّلَ رَجُلٍ مِنْ قَيْسٍ تَلْقَاهُ، فَلَقِيَ أُبَيَّ بْنَ مَالِكٍ الْقُشَيْرِيَّ، فَأَخَذَهُ حَتَّى يُؤَدُّوا إلَيْهِ أَهْلَهُ، فَقَامَ فِي ذَلِكَ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ، فَكَلَّمَ ثَقِيفًا حَتَّى أَرْسَلُوا أَهْلَ مَرْوَانَ، وَأَطْلَقَ لَهُمْ أُبَيَّ بْنَ مَالِكٍ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ فِي شَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُبَيِّ بْنِ مَالِكٍ:
(شُهَدَاءُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الطَّائِفِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الطَّائِفِ.
(مِنْ قُرَيْشٍ):
مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ: سَعِيدُ بْنُ سَعِيدٍ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَعُرْفُطَةُ بْنُ جَنَّابٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ، مِنْ الْأُسْدِ بْنِ الْغَوْثِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: ابْنُ حُبَابٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رُمِيَ بِسَهْمِ، فَمَاتَ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، مِنْ رَمْيَةٍ رُمِيَهَا يَوْمَئِذٍ.
وَمِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، حَلِيفٌ لَهُمْ.
وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو: السَّائِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ.
وَمِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ: جُلَيْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
(مِنَ الْأَنْصَارِ):
وَاسْتُشْهِدَ مِنْ الْأَنْصَارِ: مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: ثَابِتُ بْنُ الْجَذَعِ.
[٢] الذلول: المرتاض. والمخيس: الْمُذَلل.
[٣] مستقبس الشَّرّ: طَالبه.
[٤] الحلوم: الْعُقُول.
وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ: الْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
وَمِنْ الْأَوْسِ: رُقَيْمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَوْذَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
فَجَمِيعُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِالطَّائِفِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، سَبْعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ.
(شِعْرُ بُجَيْرٍ فِي حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ):
فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ الطَّائِفِ بَعْدَ الْقِتَالِ وَالْحِصَارِ، قَالُ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى يَذْكُرُ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ:
كَانَتْ عُلَالَةَ يَوْمَ بَطْنِ حُنَيْنٍ … وَغَدَاةَ أَوْطَاسٍ وَيَوْمَ الْأَبْرَقِ [١]
جَمَعَتْ بِإِغْوَاءِ هَوَازِنُ جَمْعَهَا … فَتَبَدَّدُوا كَالطَّائِرِ الْمُتَمَزِّقِ [٢]
لَمْ يَمْنَعُوا مِنَّا مَقَامًا وَاحِدًا … إلَّا جِدَارَهُمْ وَبَطْنَ الْخَنْدَقِ
وَلَقَدْ تَعَرَّضْنَا لِكَيْمَا يَخْرُجُوا … فَتَحَصَّنُوا مِنَّا بِبَابٍ مُغْلَقِ
تَرْتَدُّ حَسْرَانًا إلَى رَجْرَاجَةٍ … شَهْبَاءَ تَلْمَعُ بِالْمَنَايَا فَيْلَقِ [٣]
مَلْمُومَةٍ خَضْرَاءَ لَوْ قَذَفُوا بِهَا … حَضَنًا لَظَلَّ كَأَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ [٤]
مَشْيَ الضِّرَاءِ عَلَى الْهَرَاسِ كَأَنَّنَا … قُدْرٌ تَفَرَّقُ فِي الْقِيَادِ وَتَلْتَقِي [٥]
وَاد فِي ديار بنى هوَازن، كَانَت فِيهِ وقْعَة حنين. والأبرق: مَوضِع، وَأَصله الْجَبَل الّذي فِيهِ ألوان من الْحِجَارَة. والرمل.
[٢] بإغواء: هُوَ الغي الّذي هُوَ خلاف الرشد.
[٣] حسرى: جمع حسير، وَهُوَ المعيى الكليل. وَيجوز أَن يكون: جمع حاسر، وَهُوَ الّذي لَا درع عَلَيْهِ. والرجراجة: الكتيبة الضخمة، الَّتِي يموج بَعْضهَا فِي بعض، وَهِي من الرجرجة، أَي شدَّة الْحَرَكَة وَالِاضْطِرَاب. وَالْفَيْلَق: الْجَيْش الْكثير الشَّديد، من الفلق، وَهِي الداهية.
[٤] ملمومة: مجتمعة. وخضراء: يعْنى من لون السِّلَاح. وحضن (بِالْحَاء وَالضَّاد): اسْم جبل بِأَعْلَى نجد.
[٥] الضراء (هُنَا): الْكلاب، أَو الْأسود الضارية. والهراس: نَبَات لَهُ شوك. (وَقدر بِضَم الْقَاف