قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ، كَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الْبَهْزِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ لِي بِمَكَّةَ مَالًا عِنْدَ صَاحِبَتِي أُمِّ شَيْبَةَ بِنْتِ أَبِي طَلْحَةَ- وَكَانَتْ عِنْدَهُ، لَهُ مِنْهَا مُعْرِضُ بْنِ الْحَجَّاجِ وَمَالٌ مُتَفَرِّقٌ فِي تُجَّارِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَأْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَذِنَ لَهُ، قَالَ: إنَّهُ لَا بُدَّ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَنْ أَقُولَ، قَالَ: قُلْ. قَالَ الْحَجَّاجُ: فَخَرَجْتُ حَتَّى إذَا قَدِمْت مَكَّةَ وَجَدْتُ بِثَنِيَّةِ الْبَيْضَاءِ [٣] رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ يَتَسَمَّعُونَ الْأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُونَ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَدْ بَلَغَهُمْ أَنَّهُ قَدْ سَارَ إلَى خَيْبَرَ، وَقَدْ عَرَفُوا أَنَّهَا قَرْيَةُ الْحِجَازِ، رِيفًا وَمَنَعَةً وَرِجَالًا، فَهُمْ يَتَحَسَّسُونَ الْأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُونَ
[٢] زِيَادَة عَن (أ) .
[٣] قَالَ ياقوت: «والبيضاء: ثنية التَّنْعِيم بِمَكَّة، لَهَا ذكر فِي كتاب السِّيرَة» .
هُزِمَ هَزِيمَةً لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهَا قَطُّ، وَقُتِلَ أَصْحَابُهُ قَتْلًا لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهِ قَطُّ، وَأُسِرَ مُحَمَّدٌ أَسْرًا، وَقَالُوا: لَا نَقْتُلُهُ حَتَّى نَبْعَثَ بِهِ إلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَيَقْتُلُوهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِمَنْ كَانَ أَصَابَ مِنْ رِجَالِهِمْ. قَالَ: فَقَامُوا وَصَاحُوا بِمَكَّةَ، وَقَالُوا: قَدْ جَاءَكُمْ الْخَبَرُ، وَهَذَا مُحَمَّدُ إنَّمَا تَنْتَظِرُونَ أَنْ يُقْدَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، فَيُقْتَلُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ. قَالَ:
قُلْتُ: أَعِينُونِي عَلَى جَمْعِ مَالِي بِمَكَّةَ وَعَلَى غُرَمَائِي، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقْدَمَ خَيْبَرَ، فَأُصِيبُ مِنْ فَلِّ [٢] مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي التُّجَّارُ إِلَى مَا لَك.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: مِنْ فَيْءِ مُحَمَّدٍ.
(الْعَبَّاسُ يَسْتَوْثِقُ مِنْ خَبَرِ الْحَجَّاجِ وَيُفَاجِئُ قُرَيْشًا):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَ: فَقَامُوا فَجَمَعُوا لِي مَالِي كَأَحَثَّ [٣] جَمْعٍ سَمِعْتُ بِهِ.
قَالَ: وَجِئْتُ صَاحِبَتِي فَقُلْتُ: مَالِي، وَقَدْ كَانَ لِي عِنْدَهَا مَالٌ مَوْضُوعٌ، لَعَلِّي أَلْحَقُ بِخَيْبَرِ، فَأُصِيبَ مِنْ فُرَصِ الْبَيْعِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي التُّجَّارُ، قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ الْعَبَّاسُ ابْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْخَبَرَ، وَجَاءَهُ عَنِّي، أَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ إلَى جَنْبِي وَأَنَا فِي خَيْمَةٍ مِنْ خِيَامِ التُّجَّارِ، فَقَالَ: يَا حَجَّاجُ، مَا هَذَا الْخَبَرُ [٤] الَّذِي جِئْتُ بِهِ؟ قَالَ: فَقُلْتُ:
وَهَلْ عِنْدَكَ حِفْظٌ لِمَا وَضَعْتُ عِنْدَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: فَاسْتَأْخِرْ عَنِّي حَتَّى أَلْقَاكَ عَلَى خَلَاءٍ، فَإِنِّي فِي جَمْعِ مَالِي كَمَا تَرَى، فَانْصَرِفْ عَنِّي حَتَّى أَفَرُغَ. قَالَ:
حَتَّى إذَا فَرَغْتُ مِنْ جَمْعِ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ لِي بِمَكَّةَ، وَأَجْمَعْتُ الْخُرُوجَ، لَقِيتُ الْعَبَّاسَ، فَقُلْتُ: احْفَظْ عَلَيَّ حَدِيثِي يَا أَبَا الْفَضْلِ، فَإِنِّي أَخْشَى الطَّلَبَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قُلْ مَا شِئْتُ،
[٢] الفل: الْقَوْم المنهزمون.
[٣] كأحث: كأسرع.
[٤] هَذِه الْكَلِمَة «الْخَبَر» سَاقِطَة فِي أ.
(شِعْرُ حَسَّانَ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ مِمَّا قِيلَ مِنْ الشِّعْرِ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ:
بِئْسَمَا قَاتَلَتْ خَيَابِرُ عَمَّا … جَمَعُوا مِنْ مَزَارِعَ وَنَخِيلِ [٤]
كَرِهُوا الْمَوْتَ فَاسْتُبِيحَ حِمَاهُمْ … وَأَقَرُّوا فِعْلَ اللَّئِيمِ الذَّلِيلِ
أَمِنْ الْمَوْتِ يهربون فإنّ … الْمَوْت مَوْتَ الْهُزَالِ غَيْرُ جَمِيلِ
(شِعْرُ حَسَّانَ فِي عُذْرِ أَيْمَنَ لِتَخَلُّفِهِ عَنْ خَيْبَرَ):
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا، وَهُوَ يَعْذِرُ أَيْمَنَ بْنِ أُمِّ أَيْمَنَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَكَانَ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ خَيْبَرَ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمَّ أَيْمَنَ مَوْلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَهِيَ أُمُّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَكَانَ أَخَا أُسَامَةَ لِأُمِّهِ:
[٢] تخلق: تطيب بالخلوق، وَهُوَ ضرب من الطّيب.
[٣] لم يَنْشَبُوا: لم يَلْبَثُوا غير قَلِيل.
[٤] خيابر: جمع خَيْبَر، وَيُرِيد أهل خَيْبَر.
وَأَيْمَنُ لَمْ يَجْبُنْ وَلَكِنَّ مُهْرَهُ … أَضَرَّ بِهِ شُرْبُ الْمَدِيدِ الْمُخَمَّرِ [١] وَلَوْلَا الَّذِي قَدْ كَانَ مِنْ شَأْنِ مُهْرِهِ … لَقَاتَلَ فِيهِمْ فَارِسًا غَيْرَ أَعْسَرَ [٢] وَلَكِنَّهُ قَدْ صَدَّهُ فِعْلُ مُهْرِهِ … وَمَا كَانَ مِنْهُ عِنْدَهُ غَيْرَ أَيْسَرَ [٣] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَنْشَدَنِي:
وَلَكِنَّهُ قَدْ صَدَّهُ شَأْنُ مُهْرِهِ … وَمَا كَانَ لَوْلَا ذَاكُمْ بِمُقَصِّرِ
(شِعْرُ نَاجِيَةَ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيُّ:
يَا لِعِبَادِ للَّه فِيمَ يُرْغَبُ … مَا هُوَ إلَّا مَأْكَلٌ وَمَشْرَبُ
وَجَنَّةٌ فِيهَا نَعِيمٌ مُعْجِبُ
وَقَالَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيُّ أَيْضًا:
أَنَا لِمَنْ أَنْكَرَنِي ابْنُ جُنْدُبِ … يَا رُبَّ قِرْنٍ فِي مَكَرِّي أَنْكَبِ [٤]
طَاحَ بِمَغْدَى أَنْسُرٍ وَثَعْلَبِ [٥]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ الرُّوَاةِ لِلشِّعْرِ قَوْلَهُ: «فِي مكرّى»، و«طاح بِمَغْدَى» .
(شِعْرُ كَعْبٍ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ):
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ، فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ:
[٢] الأعسر: الّذي يعْمل بالشمال، وَلَا يعْمل بِالْيَمِينِ.
[٣] صده: مَنعه. والأيسر، قَالَ أَبُو ذَر: هُوَ «الْفرس الْمَصْنُوع المنظور إِلَيْهِ»، أَي الّذي يعْنى بِهِ صَاحبه، وَيحسن الْقيام عَلَيْهِ.
[٤] الْقرن: الّذي يُقَاوم فِي قتال أَو شدَّة. وَالْمَكْر: الْموضع الّذي تكر فِيهِ الْخَيل فِي الْحَرْب. والأنكب المائل إِلَى جِهَة.
[٥] طاح: ذهب وَهلك. ومغدى: بِالدَّال، من الغدو، أَو بِالذَّالِ، الْمُعْجَمَة من الْغذَاء. وأنسر.
جمع نسر، وَهُوَ الطَّائِر الْمَعْرُوف، وَكَانَ من حَقه أَن يَقُول وثعالب، فَوضع الْوَاحِد مَوضِع الْجمع.
يَذُودُ وَيَحْمِي عَنْ ذِمَارِ مُحَمَّدٍ … وَيَدْفَعُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ وَبِالْيَدِ [٤] وَيَنْصُرُهُ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ يَرِيبُهُ … يَجُودُ بِنَفْسٍ دُونَ نَفْسِ مُحَمَّدٍ
يُصَدِّقُ بِالْأَنْبَاءِ بِالْغَيْبِ مُخْلِصًا … يُرِيدُ بِذَاكَ الْفَوْزَ وَالْعِزَّ فِي غَدٍ